مئوية رواد التجديد الشعري: بلند حيدري حارس أحزان الغربة
حاتم الصكر
يُعَد العراقيون العدّة للاحتفاء العام القادم بمئوية شعراء التجديد الروّاد، إذ يصادف عام 2026 ميلاد ثلاثة منهم: بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وبلند حيدري، وصدرت استعداداً لذلك أعمالهم الكاملة بطبعات جديدة في دار الشؤون الثقافية ببغداد. وقد تناست الذاكرة الشعرية والنقدية شاعراً انطمر ذكره لعزلته، هو محمد النقدي المولود في عام 1926 نفسه، رغم أن موقع وكيبيديا يذكر له ديوانه الأول “طعام النار” عام 1950، وديوانه الثاني “الأشباح الظالمة” عام 1951. لا يمتد الاحتفاء عكسياً، أي أنه لا يكاد يشمل نازك الملائكة كونها ولدت عام 1923 ولو أنها لن تغيب حتما بحكم الانتماء الشعري للجيل نفسه. وكذلك الرائد المنسي شاذل طاقة الذي ولد بعدهم بستة أعوام، ومحمود البريكان القادم للحياة عام 1931، والمتقنّع بصمت وعزلة دائمتين ميزتاه في التاريخ الشعري المعاصر، وظلت لقصيدته نكهة تتخطى الجيل المجدد باختلاف واضح عن الأعراف الإيقاعية والموضوعاتية التي انشغل بها الرواد المكرسون نقدياً.
هذا الاستذكار المئوي واستطرادنا التذكري عليه هنا، لا يعني بالضرورة احتفاءً جيلياً بحسب العمر. بل لأعمار القصائد أيضاً، وما يجمع أشعار هؤلاء من هفوٍ واضح مبرمَج وواعٍ بالتجديد، وضرورته كمشروع ينقل الشعرية العربية، ولو بخطى وئيدة ومحسوبة، إلى فضاء أوسع، لتدخل من بعد رياح التحديث والتطور الأسلوبي والموضوعي في الشعر العربي المعاصر كله.
الاحتفاء إذاً بالمئوية القادمة لن يعني الاهتمام بالاصطفاف الجيلي العُمري للشعراء، بل بأجيال قصيدتهم، وهي تدق أبواب التجديد متعثرة وجريئة ومنافحة عن وجودها ومراميها، كما عبرت عنها القصائد التي دوّى صداها في منتصف الأربعينيات ونهايتها. وتحمّل أصحابُها عبء الريادة المحفوف بالرفض والمناوأة من التقليديين المكرّسين، ومن قرائهم وأوساط الأكاديميات والصحافة.
ولمناسبة صدور أعماله الشعرية الكاملة بطبعة جديدة، يعود الاهتمام بشعر بلند حيدري الذي لم ينل الاهتمام الكافي الذي ناله السياب والبياتي مثلاً، رغم ما في شعره من تدرج في الوعي والتعبير، تمثله مراحل تطور رؤيته الشعرية، وتمثلها نصياً بداياته التي تخلصت من الرومانسية والتأثر بمدرسة المهجر، والكتابة شأن أقرانه الرواد بالطريقة الخليلية العمودية اولاً.
كان “خفقة الطين”، 1946، هو أول ديوان يصدر مكتملاً بتفاصيل مشروع التجديد المتوازن في الحفاظ على الإيقاع النغمي المتولد من ترتيب الوحدات الموسيقية الوزنية بشكل حر، والتقفية المتنوعة المكان، والنظر إلى الشعر رؤية مغايرة تنفتح على مؤثرات الآخر عبر الترجمة التي أسهم بلند ذاته بها، فترجم شعرياً أجواء قصيدة لأوسكار وايلد. وردَد في لقاءاته المنشورة مقولات الوحدة الموضوعية وتداخل الفنون التي جسدته قصيدته بعد فك ارتباطها بالرومانسية وأصداء قصيدة الياس أبي شبكة في بداياته خاصة. قبل أن ينتقل إلى فكر تهيمن فيه ثيمة الإحساس الحزين بالزمن وانفراطه من سيطرة الكائن، وغلبة الوقائع على إرادته الحرة.
ولكنه بعد أن يتمثل ذلك في ديوانه الأول طويلاً، ومن زوايا نظر متعددة، سينتقل إلى تعميق رؤيته فيبدو المنزع الحواري في شعره وتعدد الأصوات، ما سيتطور في ديوان لاحق هو “حوار عبر الأبعاد الثلاثة”، لينقل التعددية الصوتية إلى وجود تصارعي فاعل يعمق رؤية النص، ويشرك القارئ في تأمل كمائن الأسئلة التي لا يكف عن إيرادها بإلحاح واضح، وتكرار تأكيدي على تلك المسألة الزمنية وهيمنتها على فكره:
“ماذا أريد؟
لمَ تسألين
عمّا أريد.
أنا لا أريد
أنا لست مثل الآخرين”.
وسوف أستشهد بنص كامل له إشارة إلى نزعة قصيدته الحوارية واقتراضه الواضح من التعدد الصوتي في المسرح، وإدارته الجيدة للحوار باتجاه بلورة فكرة طالما سيطرت على رؤيته، وهي وحدة الإنسان وضعفه وعزلته وانكساره. وهو ما تلونت به تجربته حتى بعد ابتعاده تدريجياً عن المشغّل الإيديولوجي والانتماء لفكر سياسي، وإن ظل منتميا لقيم الحرية التي آمن بها ودافع عنها طويلاً، حتى بعد أن غادر العراق إلى بيروت هرباً من عسف النظام، ووقوعه لاحقاً تحت سطوة عامل جديد فاعل في وعيه الشعري هو الغربة التي تقاسمها مع شعراء كثر خرجوا من الوطن مضطرين. واتسم شعره من بعد بكثير من الرمزية التي أنقذته من مباشرة أضعفته في فترته الواقعية، كما في ديوانه “جئتم مع الفجر” الذي كتبه متأثرا بالأجواء الثورية في العراق بعد قيام الجمهورية.
النص هو (حوار في المنعطف) من ديوانه “أغاني الحارس المتعَب”، 1973:
“ألم تنم… يا الحارس الحزين
متى تنام؟
يا أيها الساهر في مصباحنا من ألف عام
يا أيها المصلوب بين فتحتي كفيه من سنين
ألا تنام –
– للمرة العشرين… أريد أن أنام
أسقط في النوم ولا أنام
للمرة الخمسين
سقطتُ في النوم ولم أنم
فالنوم عند الحارس الحزين
يظل مثل حافة السّكين
أخاف ان أنام
أخاف أن أفيق في الأحلام
– ليحرقوا روما، ليحرقوا برلين –
ليسرقوا السور من الصين
عليك أن تنام …
آن لهذا الحارس الحزين
أن يتكي للحظة… ينام
– أنام… ولم تزل تُحرق كل لحظة برلين
يُسرق كل ساعة من سور الصين
يولد بين لمحة ولمحة تنّين
أخاف أن أنام
فالنوم عند الحارس الحزين
يظل مثل حافة السكين”.
يبدأ النص بنداء يختصر الشاعر فيه الحروف، ويكتبه (يلحارس) كما في اللهجة المحلية العراقية، ويحاوره انعكاساً لشخصه هو. إنه حارس الحزن. قرينه الذي يرجوه أن ينام. فيرد بهذا الحوار الممتع والمثير للأسئلة، منتهياً بصورة مرعبة، يغدو فها النوم سكّيناً، تهدد حافتها كل لحظة، الحارس الحزين الذي لا ينام تحت تلك الظروف غير العادلة في الحياة.
وها هي ذي إحدى الوقائع يستلّها لتأكيد أطروحته الحزينة.
ففي عام 1966 كان نخبة من أفضل المثقفين العراقيين شعراء وكتاباً وسياسيين يقضون أيامهم تحت أسوأ الظروف في سجن نقرة السلمان الصحراوي. بينهم الشاعر مظفر النواب الذي كتب عنه بلند قصيدة مهداة له في سجنه هي (غصن وصحراء ومظفر). ونشرت أولاً في عدد مجلة الآداب التاريخي الخاص بالشعر العربي الحديث، وتعد نقدياً من أكثر النماذج النصية تعبيراً عن دخول الخطاب الشعري لبلند حيدري مرحلة متقدمة تدمج السياسي بالرمزي، وتحافظ على شفافية العبارة والصورة والرمز الذي يتناوب الحضور بالخضرة المشيرة إلى الجمال والأمل والحرية القادمة، وبتكرار فني يسبغ على النص رهافة وعمقاً في الآن نفسه:
“أصحيح يا مظفر؟
أن غصناً
طمرته الريح في الصحراء
ظل رغم الريح والصحراء أخضر
أصحيح يا مظفر؟
ظل ذاك الغصن رغم الموت أخضر…”
وللرمزية في شعر بلند تنويعات تعود إلى دواوينه الأولى، وتأملاته الزمنية المنبثّة في الحواريات التي كتبها قاصداً هذا المنحى الشعري المميز، فيقول مثلاً:
“فالناس ما أقبح آلامهم
هذا بلا أمسٍ، وذا في غدِ
والأرضُ ما زالت على عهدها
تدور على الأبد الأسْودِ
طاحونة أطربَها جهدهم
فلم تسلْ عن ثورِها المجهدِ”.
هذا الدوران الذي ترمّزه القصيدة مثالاً يتنوع على صخرة سيزيف، وتنظر لما يكرُّ من الأزمان والأطوار على الإنسان، وهو في عبودية تشبه تلك التي تحدث عنها جبران في نثره الشعري، وتابع سلسلتها من البيت حتى الحكم، لكنها اكتسبت هنا تلويناً فلسفياً يحيل إلى الأبد الممتد في الماضي والمستقبل، ومجسّماً في استعارة صورة الطاحونة التي لا تكف عن الدوران، والثور المربوط بها يدور مجهداً، ولا يعبأ هو وسواه بمآله.
تلك سمات رفضٍ فُطر عليها بلند منذ شبابه، وتجسدت في “خفقة الطين” ديوانه البكر في التجديد، وفي لائحة إصداراته الشعرية. لقد كتب قصائده ونشرها وهو في مطلع عشرينيات حياته في الشعر والحياة، يعيش خارج سلطة الأسرة وما تكونت عليه من وجاهة ونفوذ. ولاجئاً إلى العربية لغة وثقافة لا تحد من نظرته الإنسانية وتعاليه على الفكر الضيق والمحدود بالجغرافيا والأعراق والأنساب.
وسوف يركن إلى غربة خلّدها ولاذ بها متقبلاً العناء والحنين في فضائها، ولا يرى في الصلة من بعد أية جدوى. وقد عبّر عنها في نص شائع يقول فيه، مخاطباً ساعي البريد رمزاً للصلة المقترحة مع الخارج:
“ساعي البريد
ماذا تريد…؟
أنا عن الدنيا بمنأى بعيد
أخطأتَ …
لا شكّ، فما من جديد
تحمله الأرضُ لهذا الطريد”.
وهو نص يحمل ذات السمات الأسلوبية في شعره، معتمداً الحوار والسؤال، وباحثاً عن تأكيد غربته وعزلته، ويأسه وحزنه.
* نشر في جريدة القدس