عزف منفرد على أوتار قلب الفجيعة
نص في سيرة الذاكرة
………..
الى سلام الذي توارى قبل آوانه
……
مهاد لموت طري
…………..
ليس نعيّاً بل وداعاً
فالموت غريزة مثل الحب
……
بقلوب أرهف من ريشة القدر
وأرواح ساكنة في مشيئة الله
أعلن عن رحيل اخي وصنو روحي سلام شامخ
الذي قرر أن يواجه موته مسالما مودعا هذه الحياة .
تاركا لنا جبالا من الأسى والوجع والغصة ، لأنه استعجل الرحيل حقا ..
اختار الهناك وترك الهنا لنا ..
لروحه السلام والنور والخلود
…..
، وحين نستعير حنجرة الفيلسوف هايدغر فأن الذي يحقق حضوره وجوديا لا يموت .
وقبل هايدغر بأطنان من الزمن ، قال اللوح السومري
أن جدنا جلجامش لم ينتصر للموت ، وذهب الى الحافات االقصوى للخلود ..
سلام كمعضلة وجودية
سلام كأمير وزير نساء ومعشوق ومغامر
ننحت كلانا مسلاتنا الخاصة لوجودنا القادم ما بعد العدم
العدم والوجود
متلازمة الحياة والحضور
والموت زائر الفجر الخؤون
ولأننا نعاني من فرق التوقيت بين ” امستردام ” وسيدني ..
سافترضك حياً لمدة عشر ساعات من نبأ رحيلك
وأحوارك حتى نصل معا الى لحظة القبر ..
وحين تتعطل لغة الكلام ، وينصهر الحوار كدموع عاتية
فلنا طوفان يليق بالفجيعة والسمو
……………..
سفر الطفولة
………………….
في صيف الله
من بصرة الجنوب العراقي وخاصرته الرخوة
على سطوح ” الجمهورية “* ، وبعد أن تلفظ شمس الله آخر أنفاسها ، ترش أمي الطين اللاهب بدموع الدعاء وماء لإطفاء ألسنة ظلال شواء الشمس ..
تسجر تنور خبز العشاء معاً
تنور الأمهات قصاص بأقراص الخبز العراقي الطازج ، يعادل حصتنا من شمس يوم طويل ..
وحين يجنّ ليلنا الصيفي ، نرتقي السلم ونحن نحمل افرشتنا للنوم ..
نفرش انا وسلام ” دواشكنا ” * جنا الى جنب ، نتمتع بنجوم الصيف ، وزرقة السماء ، ونبدأ رحلة الاحلام ، نتبادل الأدوار في لعبة ” التكوين* ”
لعبة كلامية يبدأ هو بالتمني وانا اردد ما اريده …
عندما يغلبنا النعاس نؤجل احلامنا الى ليل قادم ونتلحف طفولتنا .
لا ديك لصباحنا
سوى صوت ايادي أمي وهي تصفق العجين لاكمال استدارته وتلصقه بمهارة على جدران تنورها
مع زئير أبي وهو يصدر الأمور بالنهوض الصباحي المبكر ، كأي قائد عسكري لرعيته ..
هكذا نتقاسم اقدارنا بعد وجبة الافطار
الأب الى مقر القوة البحرية
والاولاد الى مدرسة الانتفاضة الابتدائية للبنين
أمي وأختي الوحيدة
يتقاسمن إمارة البيت في غياب الفحولة كلها
…………….
سفر الجموح
…….
من مروج الطفولة نسجنا بيوتا لعناكب الحلم
مضينا الى تخوم المخيلة ، نعجن الطين كؤوسا هدية للفائزين في سباق المسافات الطويلة ، وبدرهم عراقي نشتري كرة قدم بلاستيكية ، ولنا في كل شارع وشم وحكاية مع اطفال الجمهورية* ، معارك او صلح ، وفي شط ” الونبي”* الفاصل بين الجمهورية وأحواش شركة النفط ، كل حين يطفو ” نغل ” رمته أمراة لدفن سرها من الفضيحة …
وكان لنا صولات في صيف البصرة اللاهب مع ” الصابئي” صاحب ” مكينة الثلج “*
ربع قالب الثلج او نصفه ، نفوز به من بين الجموع ، ليكون ضيفا عزيزا على ثلاجة البيت الخشبية ، الى جانب ” حب” الماء الذي يُقطّر من قعره على ” رقية حمراء” تنتظر التهامها بعد تبريدها .
سلام صديق الحيوانات ، له كلاب تعشقه يقيم لها حفرة على ضفاف الشط ، وأنا خارج هذا المزاج ، ادرب حواسي لمواهب أخرى .
ومع شط ” الكي او سي” *حكايات من جنون ، انا الغرير الذي لم يعرف السباحة ، يأخذني اخي صباح مع سلام ، مخافة ان اشي بهم لوالدي ، تعلمت السباحة على قسوة صباح وهو يغرقني ثم ينقذني ..
يا لها من أم عظيمة ، تكتم سرنا عن سياط الأب ، خوفا من اكتشاف عقوقنا ، وتخطي حدود الوصايا .
محطات كسحاب يمر على مخيلتي ، وانا استرجع طيفها بيني وبين سلام ….
الجموح مهرتنا السابحة في بحار الحلم ، وكل يوم لنا ذكرى ، ولتقويمنا داليات من كروم الجنون المعتق في الجينات التي محصتها نار التجربة .
يا لهذا السفر من أجنحة لم يدجنها الزمن
زمانية كبرى أطوف بها على كل نافذة من عمرنا المشترك .
………………
.
خان الذاكرة
ثمة ذكريات تفرّ فزعة من رداء الذاكرة ، تهرب بعيدا عن متناول المتذكر أو المتصفح لها ، ربما رغبة دفينة في عقلنا الباطن ، لا وعينا الحامي للوعي الفاضح ، الساتر لحجب الفضائح !!!
كيف لي ان أعطي لروحي مفاتيح اسرارانا ؟
وهل من الأجر والثواب وحسن الطويّة ، ان اتكلم عن ما عشناه بعيدا عن كاميرا البوح ، وهواجس البوح !!؟
لسلام مراهقة طافحة بتاج الزير ، مغامر اسمر جميل المحيا ، لبق اللسان ، حاضر الابتسامة ، يخطف قلوب النساء بفحولة عامرة ..
وانا الخجول البصري الذي لم يصلّ الى تمام المغامرة .
سلام لا يترك مكانا لا يبصم عليه بمزاجه ، عنيد ، صلب ، كان له مع الملاكمة درسا في حلبات البصرة ، وقد اكتريت منه هذه الرغبة في حوار الحلبة ، فكنت ملاكما في نادي الجنوب الرياضي ..
سر البطولة ، هاجسنا المشترك ، اذ نحن لسنا كائنات هامشية ، نصنع من لحظة كامنة ، درسا بليغا في تاريخ الإنتصاب ,,
وحين هاجرنا مدينة الحلم والطفولة ” الجمهورية ” اثر حادث مأساوي ارتكبه اخونا المشاكس الأحمق صباح ، وكما جرت عادة البدوية في الجلاء من مكان الجريمة ..
رحلنا الى منطقة اخرى ..
وهناك تفتق قلبي ، للقلق ومراقبة الموت الذي يحيط بنا ، خشية من رد فعل اولياء أمر ضحية اخي ، عرفت معنى اللثام كي اخفي طفولتي ، حين تستكين القلوب الى هدنة ، لنقل اثاث بيتنا الى منطقة الآمان الجديدة ..
الذاكرة خان
سأواصل الحفر والنوم في خانها ، كي استعيد ما سطرتّه الذكريات الهاربة ..
سوف اعمل ” انعاش كامل ” لذاكرتي كي تسعفني في تمام أسفاري
سلام في ملكوته وانا في مملكتي
…
…………..
بيتنا الأول
بلا مرايا ، الحيطان رطبة بالجص والطابوق ..والسطح المترع بالطين المدافن بالتبن
صار البيت مضافة للآخرين
ونحن نشعر بقلق القفص والوصايا
حتى حانت لحظة الرحيل ، لحظة وجودية ..
أما ان تكون هناك
أو ترحل بحثا لأمل آخر في حياة شبه آمنة
…
هجرنا ” بيتنا ” العشق الأول الى محلة ” الموفقية ” حيث عمي هناك ، يعمل ” مرشد فرقة اطفاء في شركة النفقط”
رحلنا من بيت السحر والحلم
الى بيوت بلا سطوح
لحماقة ارتكبها اخي صباح
شرخ كبير من بيت الأحلام وحتى بلا مرايا
الى عريّ اللحظات ومشاع الحزن ..
بعد اقامنا المؤقتة في بيت الآمان المؤقت ، تفتق قلب الأب الشاعر
ورحلنا الى بيت آخر لا يُشبهنا ..
انا وسلام توافقنا مع الحياة ، وحتى انتصابنا في المدارس المتوسطة .
التحمنا ثانية مع بيت العم
في مدرسة حسان بن ثابت / في منطقة عتبة بن غزوان ” العالية ”
بعد أن اشترينا المدرسة
كم كنتُ سعيدا وانا ارى ارهاصات تلاميذ المدرسة ، وهو يحفرون نوازعهم على حيطان الصفوف ، والأكثر عريّا على حيطان الموافق الصحية ..
جملة مكتوبة بطبشور ثاقب ضحكنا منها ” الكس قاهر الشباب ” !!!
أيّ حلم يراود طالب في الابتدائية لنزوة لم تزل رغبة مستحيلة ؟؟؟
البيت الجديد / كان الأقرب لنا للتلاحم في الذكريات
مات أبي هنا
شامخا عاشقا
وبكينا بحرقة اليتامى
وكانت الهجرة الثالثلة
……………..
.
بيت الأرملة
….
بعد أن أهدر ابي بيده المترعة للعطاء والجود والكرم
وتقاطع المصائر في زمن بركاني النزعة …
هربنا الى ” محميات حكومية ”
بيوت الدولة للأرامل في حي البعث او الشعلة”
وكانت شواربنا قد خطت على خارطة القول حكاية ..
رممنا البيت واضفنا له ما كان ينقصنا ، دار مضافة ” ديوانية ” ولمسات جمالية ، كافحنا قبح التشابهة في ” المحميات ” لكائنات تكابد الحياة
……………..
سفر البكالوريا .
صاعدا الى نخلة العائلة
ب”الفروند”*
اشذب ما تماهى من الحكايات
واحطب جمارها وتمرها الندي
كل سنة والمدارس تلفظنا الى سواها
من مدرسة الانتفاضة ، ثانوية الأصمعي ، الى متوسطة جرير ، ..
كنا في امتحان العبور
نزل المنجل الى قصاص المصير
سلام الى معهد النفط في بغداد
وأنا مع اوراق القبول ، مع اخينا وملهمنا الشيوعي ” صبري ” نبحث عن قائمة الخيارات ”
فطار سلام الى بغداد لدراسة تقنيات حفر النفط
وأنا الى كلية الادارة والاقتصاد
لنعاين معا
حاضرا مليئاً بالكوميديا وفقا للمنطق الماركسي في العلاقة بين
وسائل الانتاج وعلاقات الانتاج
نحن في لحظة احتضار النظريات الكبرى
أفول المراجعات المادية للتاريخ
……………….
سفر العمل بين الموسيقى واسواق العائلة
بعد أن نجونا من حرب السنوات العجاف الثمان في ثمانينات القرن الراحل ،
ولم نلتحق في دوائر الحكومة برسم شهاداتنا ..
دخلنا سوق العمل الخاص ، انا في اسواق العائلة ، وهو محل لبيع وتأجير الأدوات الموسيقية ، وكان رائدا في هذا المجال ،
سلام الأسمر الوسيم
لم ينل من طموحه وحبة للفن بعد ان شرب من نبيذ جنون سلالتنا المصابة بداء الشعر وحب الحياة والنساء ..
افتتح بمعية صاحبة ” عبد الوهاب حسن تعبان ” ابن المطرب وصاحب فرقة باند غربي رائدة في البصرة ” عبد الحسن تعبان ”
وصار معهدا خاصاً لتعليم الموسيقى، و قبلة الفنانيين والهواة ، ومقرا لسهرات الأنس معا .
شارع ” حي الجمعيات ” التجاري ضم بين جوانحه، مخيال سلام وهوسه في الموسيقى والغناء ، وانا رجل الأعمال ..
يفرقنا النهار بالاختلاف البيّن ، ويجمعنات ليل ” ملاذات البصرة ” التي لا تنتهي حتى بلوغ نشوتنا القصوى ..
وحين تفتق شيطان الشعر في شراييني ، فقدت الرغبة في الانغمار بالعمل ، وداهمني الهوس الشعري حد الثمالة ،
استشعر سلام نهاية الجمال في زمن قحط قادم، فغادر العراق في بداية التسعينيات ،
سبقنا الى الهجرة ، فكانت عمان اولها واليمن ثانية وحتى مستقره هناك و حضوره مفتوح العينين في قبر فاره في جنان امسترادم
وأنا بقيت أرممّ خساراتي العملية بهدير الشعر ، فكانت ولادة مجموعة الأولى ” سائراً بتمائمي صوب العرش ” 1995 بنسختين فقط من مطبعة دار الحكمة، جامعة البصرة ، لإمتناع مدير الدار عن طبع النسخ الأخرى ال100 لوشاية بريئة من صديق قاص ، اعلمني بصوت مرتفع بضرورة حصولي على موافقة وزراة الثقافة العراقية ، متبرعا لي بالحصول عليها ، لقد ارعب مدير المطبعة” المسيحي ” هذا الخبر ، وصارت النسختان تتناسلان بالاستنساخ ، تساوقا مع ثقاقة الاستنساخ التي كانت البصرة رائدة في هذا المجال .
………..
هجرة أخيرة وقبور فارهة
هكذا تناهبتنا آفة الرحيل الى اللامكان والى اللازمان ، والى النهايات القصوى للمغامرة ، هاجرت البصرة وأنا انزف الشعر كما القدر ، وسلام هناك يستعيد حيويته في امستردام ، وبعد ثمة محطات تمتد من قطار المعقل الصاعد الى بغداد ، الى المحطة العالمية في بغداد ، حملت غباري حملت ندمي وكبريائي ، في زمن تفتق قلبي به لموسم الهجرات المتأخرة ، استوطنت بغداد ، “ولا قمر لي بها” سوى مصيري الوجودي العائم ، همت فيها بائعا للكتب وعاشقا ، وكنت مثل عنقاء يزرع رماده كخيمائي ماكر ، نجوت من مكائد الحياة ، وكان الحب ترياقي ، وبنيت عشاً من حب ، ودخلت خاصرة العاصمة بعطر وافر وانتجت مجموعتي الثانية ” دفتر الماء ” عام 2000، وسلام بكامل البهاء في هولندا ، ينعم برحيق عاصمة الزهور ..
حتى حانت ساعة لا ندم فيها للخروج من آفق العراق الى العالم الذي نقف آخر ورقة في شجرة الله من أعمارنا هناك .
وهكذا جمعتنا الغربة / المهجر / المنأى / وصرنا على نفس الحافات القصوى للبداية الثانية .
يأخذنا الحلم ويتلبسنا جنون المغامرة ، نحن البصروي الهوى والولادة ، نحمل الخجل والحب ، وألفة المكان ، لكن خرج المدفون فينا من وراثة ونزق ، وتفتق خيط الانتماء للمكان ، الى اللامكان ، أو المهد الأخضر خارج حاضنات المكان والمدينة والوطن .
هو في مدينة الزهور والبهاء ” وفان كوخ ” وكل ارث هولندا الجمالي ، وانا في استراليا التي جمعت دموع المهاجرين في قارورة نبيذها المعتق بالحب ..
……………
بعد آخر اتصال متلفز بين وسلام ، شعرت ان الفارس ترجل ليشم رائحة الأرض بعمق ، يتلمس قبره في غياب الحلم والمغامرة ، يتكيء على حفنة ذكريات من قوى خائرة لا رصيد لها في قاموس الحياة اللعوب ..
كان لنا نحن الأخوة من آل شامخ ، الذين توزعوا على خارطة العالم ، ان يكون لنا شأن في تدبّر جنازة سلام / الحي الميت / ..
ولأني لم احتمل خبر وفاته ، رغم وجود احتمالية عالية لمصيره ، لكنه الحب الذي كاد ان يقتنلي ، ارتفع ضغطي الى درجة الموت السريري ونقلوني بسيارة اسعاف الى المشفى وبقيت هناك يومين حتى استوعب الصدمة ويتوازن ضغطي ..
فكانت اختي وابنها من تحملوا مشقة الرحيل الأخير لحمل رفاته الطاهرة والمعطرة بالجنون قادمين من امريكا والكبرياء والعناد لملكوته الخاص ، وبعد اتمام مراسيم الدفن بمقبرة فارهة في امستردام ، صدمتني مفاجأة لا تخلو من درامية القدر ، روت لي اختي الكبرى ان سلام هو من رافقها لدفن زوجها الذي ” استشهد في حرب صدام والخميني ، وهو من قام بدفن زوجها الراحل في قبره هناك ، وجاء دور الابن ليدفن خاله ، يالها من مفارقة كونية …
نحن قوم نخلق من احزاننا عزاءات لائقة ، ولا بديل غير أن ندفن موتانا ا بوقار ونعود للحياة بقوة .
سلام لا يفيك نص ولا مرثية
سلام اخي الذي رعينا معا قطيع احلام الطفولة ، وحتى جنينا ثمرة العمر ..
وداعاً الى ملكوتك ، وخيارك ، ولك هناك رجاء أكيد ..
وداعا سلام صنو روحي
هنيئا لك هذا الموت المهيب
الذي كلله محبيك في عزاءات في البصرة وبغداد وامريكا واستراليا
هي مواقد وشموع على شجرة عمرك التي فارقتنا قبل قطافها الأخير
هنيئا لك كل فيض الدموع والآهات التي تليق بروحك وهي تخرج بحزن من جسدك الموشى بالحياة .