قراطيس الحقيقة.. عصام ابراهيم

شارك مع أصدقائك

Loading

 

 

قراطيس الحقيقة

عصام ابراهيم

غزه

 

رأيته عند بائع فلافل آخر. طفلٌ لا يتجاوز العاشرة، يحمل بيده كتبًا مهترئة كأحلامه، وباليد الأخرى جوعًا لا يُترجم، لا إلى لغة، ولا إلى قانون. كان واقفًا هناك كمن سُحب من دفء الحكاية وأُلقي في هوة الأسطورة. كأن العالم، بتعقيده المسموم، قرر أن يختبر قدرته على الفقد مبكرًا. يبدو عليه أنه لم يعد يسأل “لماذا؟”، بل “متى ينتهي هذا العبث؟” قال بصوتٍ يشبه قشرة دمعة لم تسقط: “هل يمكنني أن أستبدل هذه الكتب ببضعة أقراص؟” كأنه لا يطلب طعامًا، بل يستبدل المعنى بالفتات. والبائع – الغارق هو أيضًا في لزوجة الزمن المهترئ – نظر إلى الكتب كما ينظر مسؤولٌ إلى ملفّ لا يحمل رشوة، وقال دون أن يرفع عينيه، كمن يطلق حكمًا لا يحتاج محكمة: “إذا في شي نلف فيه، بمشي الحال.” أحد الكتب كان يحمل عنوانًا يلسع الروح: “حقوق الإنسان”. يا للسخرية التي تبلغ حدّ الجريمة. ضحكتُ، لا كما يضحك الأحياء، بل كما يضحك من مات قديمًا وما زال يتابع العرض السخيف من خلف الستار. قلتُ في سري: في أي وطنٍ تُستبدل حقوق الإنسان بسندويشة؟ في أي نظامٍ يُستخدم كتاب “التربية الوطنية” كلفافة لجوعٍ أبكم؟ أي وطنٍ هذا الذي يُدرّس فيه المواطن كيف يحبّ وطنًا يسرقه، ثم يصفعه، ثم يدفنه؟ الطفل، الذي كان يجب أن يسأل في الصف عن “ما معنى الوطن؟”، يرفع الآن كتابه كاستجداءٍ، لا للمعرفة، بل للخبز. غابت المدرسة عامين. تحولت “الطباشير” إلى رمادٍ أبيض على جدران الدمار. وغدت “السبورة” شاشة دخان. والمقاعد أصبحت مراتب في خيام النزوح. أما الحرب، فتمشي بثقة صنم أعمى لا يرى الأطفال، ولا يسمع الجوع، ولا يقرأ الكتب، ولا يُجيد إلّا إحصاء القبور. ** عدتُ إلى البيت، وفي يدي قرطاس فلافل. فتحته… وإذا بصفحة ممزقة من نفس الكتاب: “حقوق الإنسان”. كانت الجملة المدوّنة تقول: “من حقي أن أتعلم.” لم أقرأ العبارة، بل شعرت أنها من قرأتني. جلست أمامها كما جلس الحلاج أمام سوط الحقيقة. أو كما جلس نيتشه أمام العدم، يمارس الكتابة لا ليُعبّر، بل لئلّا يُنتَحر. أي تعليم هذا الذي يُستعمل لِلفّ طعامٍ لا يكفي لمعدة واحدة؟ أي وطنٍ يُدرّس التربية الوطنية في مدارس مهدّمة، وفي الوقت ذاته، يعجز عن توفير ماءٍ صالح للغسل بعد دفن الأطفال؟ ** الجوع هنا ليس جوع الخبز. بل جوع المعنى. هو سؤالٌ حارق يتربّع على مائدة العائلة كل يوم، يسألنا بعيني طفل: هل هناك جدوى لأي شيء؟ هل المقاومة مجدية؟ هل الحياة تستحق أن تُعاش؟ نحن لا نجوع وحدنا، بل يجوع معنا العالم… يجوع ضميره، يجوع منطقه، يجوع منطقه الأخلاقي. أنظمة تحوّلت من أوطان إلى ثلاجات لغضب الشعوب، تُفرغنا في التقارير كمحتوى إغاثيّ، ثم تنام. الدم هنا إعلان. الشهيد صار وسيلة ضغط. والأطفال… تلك الزنابق البشرية… تحوّلوا إلى أوراق لعب في كازينو السياسة. ** أين المصير؟ في أي كهف تُخبّأ الكرامة؟ وفي أي صالة انتظار تقف العدالة وقد تأخرت عن الموعد كقطار مهترئ في محطةٍ بلا كهرباء؟ إذا استمرّ هذا المنطق، سنأكل حبر الكتب، ثم نأكل الكتب ذاتها، ثم ننسى أن القراءة كانت يومًا ما فعلًا مقدّسًا. سيصبح الجوع منهاجًا دراسيًا، وسيدرس الأطفال: “الوطن – تعريف: الخيمة التي نُطرد منها كلما تغيّر المزاج الدولي.” “الهوية – بطاقة نُظهرها عند الحواجز، ولا تُعترف في المطارات.” “الكرامة – أسطورة قديمة من زمن الأنبياء.” ** هؤلاء الأطفال لا يحتاجون إلى لجان تقارير، بل إلى حقيقة لا تُباع ولا تُشترى. يحتاجون إلى عالم لا يتغذّى على صورهم، ولا يبكي أمام عدسات الصحافة ثم ينام على وسادة ريش. لكن… من سيوقظ هذا العالم؟ الأنبياء رُجموا، الفلاسفة نُفيوا، الثوّار شُوّهوا، والصوفيون احترقوا بنار العارفين. وأنا؟ أكتب، مع علمي التام أن ما أكتبه قد يُستخدم يومًا ما… في لفّ بعض الفلافل.

شارك مع أصدقائك