ديوان “ظلال لا تشبهني”
تجليات بين الصوفية والرمزية
للشاعرة الجزائرية
سعاد بسناسي
. في زمنٍ تتكاثر فيه الأصوات وتتشابه، تأتي تجربة الأستاذة الدكتورة الشاعرة سعاد بسنّاسي من الجزائر وهي مختصة في مجال اللغويات والنقد والسرد والتأويل بجامعة وهران 1 وعضو المجلس الأعلى للغة العربية لتُعلن بهذه التجربة الشعرية لمجموعتها الأولى عن نفسها من جهة الظل، لا الضوء، ومن جهة الغياب، لا الحضور. ديوانها الشعري “ظلال لا تشبهني” ليس مجرد نصوصٍ تُقرأ، بل كائن رمزيّ يتصوّف، يُعيد للقصيدة وظيفتها الأصلية: أن تكون كشفًا، لا وصفًا، وأن تُعيد تشكيل الذات عبر ما لا يُقال. اللغة ككائنٍ رمزيّ: في هذا الديوان، تتخلّى اللغة عن دورها التواصلي، لتتحوّل إلى كائنٍ رمزيٍّ موارب، يُراوغ المعنى، ويُغوي القارئ نحو مناطق لا تُرى إلا بالبصيرة. الكلمات تُستخدم لا لتُفصح، بل لتُوحي، لتُضلّل، لتفتح أبوابًا للتأويل لا تُغلق. تتوارى الضمائر، والأفعال تتخلخل، والصور تنزاح عن مركزها، لتُعيد تشكيل علاقة القارئ بالنص. إنها كتابةٌ تُراهن على المضمرات، وتُراهن أكثر على القارئ ككاشفٍ لا كمُفسّر. في ديوان “ظلال لا تشبهني” أول مجموعة شعرية في طبعتها الأولى 2025، لا نقرأ قصائد بقدر ما نُصغي إلى همساتٍ تتسلل من تخوم الذات، حيث اللغة لم تعد وسيلةً للتعبير، بل طقسًا للانكشاف. هنا، لا تتكلم الشاعرة المبدعة سعاد بسناسي من مركزٍ ثابت، بل من مناطق الظل، من تلك الهوية التي تتشكل وتتفكك في آن، وتُعيد تشكيل نفسها عبر استعاراتٍ صوفية، موحية، متوارية، لكنها مشبعة بالحضور. هذا الديوان ليس مجرد تجربة شعرية، بل هو مخطوطٌ روحيّ، يُعيد للكتابة وظيفتها الأصلية: أن تكون كشفًا، لا وصفًا. أن تكون سؤالًا في هيئة قصيدة، لا إجابةً منمقة. وبين كل بيتٍ وآخر، تتسلل المضمرات، وتتكشف المسكوتات، وتُعيد القارئ إلى ذاته، لا ليجدها، بل ليتأمل كيف تتكلم حين لا تُشبه نفسها. فهل تُشبهنا ظلالنا حين نكتب؟ وهل الكتابة إلا محاولةٌ للنجاة من تشابهٍ لا نريده؟ في هذا المقال، نقترب من ديوان “ظلال لا تشبهني”، لا لنفك شفراته، بل لنُصغي إلى ما وراءها. إن روح ديوان “ظلال لا تشبهني”، يُبرز خصوصيته الجمالية والفكرية. ظلال لا تشبهني: الكتابة من جهة الغياب في هذا الديوان، لا تتكلم الشاعرة سعاد بسناسي من مركزٍ لغويٍّ مألوف، بل من هامشٍ وجوديٍّ تتخلله الأسئلة، وتُضيئه الشكوك. القصيدة هنا ليست بناءً بل تفكيك، ليست حضورًا بل تجلٍّ لما لا يُقال. كل نصٍّ هو محاولةٌ لتجاوز اللغة نحو ما قبلها، أو ما بعدها، حيث الظلّ لا يُعرّف، بل يُلمَح. الذات المتكلمة ليست ذاتًا مستقرة، بل هويةٌ صوفيةٌ متحوّلة، تتكلم من خلال استعاراتها، وتُعيد تشكيل نفسها عبر الغياب. إنها ذاتٌ تُدرك أن التشابه خيانة، وأن الظلال هي المساحة الوحيدة التي يمكن أن تُكتب فيها الحقيقة دون أن تُقال. اللغة ككائنٍ صوفيٍّ: من البيان إلى الإيحاء اللغة في هذا الديوان ليست أداةً للتوصيل، بل كائنٌ رمزيٌّ يتصوّف. الكلمات تُستخدم لا لتُفصح، بل لتُوحي، لتُضلّل، لتُغوي القارئ نحو مناطق لا تُرى إلا بالبصيرة. هناك اقتصادٌ في القول، وكثافةٌ في الإشارة، تجعل من كل بيتٍ شعريٍّ فضاءً للتأويل، لا للشرح. الضمائر تتوارى، والأفعال تتخلخل، والصور تنزاح عن مركزها، لتُعيد تشكيل علاقة القارئ بالنص. إنها كتابةٌ تُراهن على المضمرات، وتُراهن أكثر على القارئ ككاشفٍ لا كمُفسّر. الهوية كظلٍّ: من الذات إلى التجلّي في “ظلال لا تشبهني”، لا تُقدّم الشاعرة ذاتًا متكلمة، بل تجلّياتٍ متفرقة، تتكلم من خلال الغياب، وتُعيد تعريف الهوية بوصفها سيرورةً لا جوهرًا. كل قصيدة هي محاولةٌ للنجاة من التشابه، من التكرار، من التسمية. إنها كتابةٌ تُدرك أن الذات لا تُعرّف إلا بما تُخفيه، وأن الظلّ هو الشكل الوحيد الذي يمكن أن يحتويها دون أن يُقيدها. المسكوت عنه كأفقٍ تأويليّ: ما لا يُقال في هذا الديوان هو ما يُشكّل بنيته الأعمق. هناك صمتٌ كثيفٌ يملأ الفراغات بين الكلمات، ويُعيد تشكيل المعنى من جهة الغياب. هذا الصمت ليس نقصًا، بل استراتيجيةٌ تأويليةٌ، تُعيد للقارئ دوره ككاشفٍ، لا كمُتلقي. القصائد تُراهن على اللا-مباشر، على اللا-مُفصح، وتُعيد تشكيل العلاقة بين النص والقارئ بوصفها علاقةً روحية، لا معرفية فقط. الكتابة كنجاة: ديوان “ظلال لا تشبهني” للشاعرة سعاد بسناسي ليس مجرد تجربة شعرية، بل هو طقسٌ وجوديٌّ، تُعيد فيه الشاعرة تعريف الكتابة بوصفها نجاةً من التشابه، ومن التكرار، ومن اللغة ذاتها. إنه ديوانٌ يُكتب من جهة الظل، ويُقرأ من جهة البصيرة، ويُعيد للقارئ حقّه في أن يُفسّر، لا أن يُفهم فقط. في زمنٍ تُغرقنا فيه الكلمات، تأتي هذه الظلال لتُذكّرنا أن ما لا يُقال هو أعمق مما يُقال، وأن الكتابة الحقيقية لا تُشبهنا، بل تُشبه ما نطمح أن نكونه. ديوان “ظلال لا تشبهني” للشاعرة سعاد بسناسي هو عمل شعري متفرد، ينهل من الروح الصوفية ويمتزج بـرمزية عميقة تستنطق الذات، وتستكشف الاغتراب، وتعيد تشكيل الهوية والوطن من خلال لغة مشبعة بالإحساس والوجد. وأبرز ما نلمح فيه تجليات القصائد الآتي: الروح الصوفية والوجد العميق: – القصائد تنبض بتجربة روحية تتجاوز الطقوس، حيث يتحول الصلاة إلى عشق، والسجود إلى نار تمتد من القلب إلى الأكوان. – تتكرر استعارات مثل “أصليك أنت”، و”ركعاتي أسرار”، لتجعل من الحبيب أو الوطن قبلةً وجودية لا تحدها الجغرافيا ولا الزمن. الذات والاغتراب: – الذات في الديوان ليست ثابتة، بل هائمة، متحوّلة، تبحث عن يقينٍ في عالمٍ متشظٍ. – يظهر الاغتراب في صور مثل “أدمنك كأنك نبض لا يغيب”، و”أنت وطن يسكنني”، حيث يتداخل الحبيب مع الوطن، والغياب مع الحضور. الهوية والوطن: – الوطن لا يُقدَّم ككيان سياسي، بل كـحالة شعورية، حلم، وحنين. – في لحظات التأمل، يصبح الوطن النبض، والورد الذي ينبت على الجلد، والنجمة التي تُعلّقها طفلة في السماء. الرمزية والإيحاء: – تعتمد القصائد على صور رمزية كثيفة: الماء، الغيم، الطيف، النار، السجود، الضوء، كلها أدوات لتكثيف المعنى. – اللغة تتجاوز المباشر، وتغدو تجربة حسية وفكرية، حيث كل بيت شعري يحمل تأويلاً وجوديًا أو روحانيًا. ـ الأسلوب واللغة: – تمتاز اللغة بـالانسيابية والتكثيف الرمزي، وتجمع بين الوجد الصوفي والهمس الشعري. – لا تخضع القصائد لقافية صارمة، بل تنساب كـ”رحيل جميل إلى من لا نملك لكن نريده بكل ما فينا”.