زياد، بيروت، والمنفى .. عبد الكريم كاصد ..القسم الأول..

شارك مع أصدقائك

Loading

زياد، بيروت، والمنفى

القسم الأول
(بين مدينتين)

في أواخر السبعينات حين غادرت العراق هارباُ عبر الصحراء تنقلت بين مدن عديدة كان آخرها تنقلي بين مدينتي دمشق وبيروت، غير أن هذا التنقل لم يكن آمناً فكثيراً ما كنا نُستوقف عند الحدود لابتزازات رجال الجوازات المكرورة، أو ليستقبلنا عند الوصول إلى الفاكهاني تفجير مفاجئ يدوّي، قبل وصولنا بدقائق فتستغرب لهذه الدقائق العجيبة التي تفصل بين الحياة والموت. وحين يكون الوصول آمناً تتفتح حواسنا كشبابيك بيروت، وحاناتها، ومقاهيها الجميلة التي تنبعث منها الأغاني التي تحرك فينا الحنين، والشعر، ونسيان الموت، ولعلّ ما استوقفني أكثر هو استيقاظ أصدقائي العراقيين الذين يشاركونني مائدتي (ولا سيما الشعراء منهم) من غفوتهم كلّما هدرت البوسطة في أغنية زياد الرحباني بصوت فيروز فيفزّون وكأنهم يودون اللحاق بالبوسطة لئلا تفوتهم، معبرين بحماس شديد عن حبهم وكأنهم يسمعونها للمرة الأولى.
مرة جمعتني وشاعرنا الكبير الراحل سعدي يوسف جلسة في حانة في الفاكهاني، وكنا نتحدث عن الشعر فأبديت له رأيًاً، ليس جازماً، وإنما هو وليد جلسة حميمة، وارتجالات شتى، أن الشعر اللبناني في اللغة الفصحى يميل عموماً إلى التعقيد على خلاف شعره الشعبي الذي يميل إلى البساطة والرقة، بينما يحدث العكس لدينا إذ يميل شعرنا الفصيح إلى البساطة وتناول تفصيلات الحياة اليومية، في الوقت الذي يتوجه فيه بعض الشعراء الشعبيين إلى ما هو أعقد في الصورة والتركيب. كان سعدي يستقبل مثل هذه المفارقات – إن اعجبته – بقهقهته العالية المعهودة، وخاصة حين يكون الحديث بلهجتنا الشعبية الصرف وفي لحظات التجلي. كان من بين أمثلتنا شعر زياد، أو من سبقه، أو عاصره من شعراء لبنانيين.
ومثلما يستقبلني زياد في الفاكهاني من دونما موعد، كذلك قد يفاجئني في دمشق من دون أن أصحبه إلى بيتي. فكثيراً ما أفتح شبابيك شقتي الصغيرة ليستقبلني صوته قادماً من شبابيك جيراني التي تشكّل نصفَ دائرةٍ في مواجهة شقتي الصغيرة في الطابق الثاني، وهو يصدح بأغانيه الجديدة خاصةً، مع غيرها من أغان أخرى لغيره من المغنين. ولكن لزياد نكهة أخرى… نكهة وجدتها في نبرة طفلتي “سارة” حين تجلس عند الشباك لتتبادل الطرائف وأناشيد الروضة الساخرة الممتعة، هي وزملائها من الاطفال الآخرين، عبر الشبابيك فكنت أجد في ما أسمع عبر الشبابيك عالماً طريفاً متداخلاً، على اختلافاته البعيدة، فكنت أُكبر لهذا الفن وناسه هذا التداخل وتلك الروح العظيمة، غير ان ابنتي سارة مع الأسف انقطع حبل ذاكرتها بهذه الأناشيد التي كانت تسحرني، بعد هذه السنوات العديدة، بل وبلهجتها السورية التي كان تجيدها وسط اندهاشي، واندهاش أمها التي تستغرق بالضحك وهي تسمعها تتبادل الأحاديث مع الأطفال.
كان خبر رحيل زياد صدمةً لي جعلتني ذاهلاً لبضعة أيام، رغم عدم لقائي به، وهو الأقرب إليّ، مثلما جعلني رحيله أستدعي أيام ترددي على بيروت ولقائي بالكثير من رفاقه ورفاقي، في نشاطات فكرية يقيمها الحزب الشيوعيّ اللبناني ضمت أبرز المثقفين العرب من بلدان مختلفة أتذكر منها ندوة عن الراحلين الدكتور حسين مروة، وصديقي الحميم الراحل الدكتور مهدي عامل، اشتركت فيها بمحاضرة عن الدكتور حسين مروة، وأخرى عن مهدي عامل نشرتهما في مجلة الثقافة الجديدة العراقية مع تغطية موسعة عن الندوة. كنت أحضر هذه الندوات وأشارك فيها بصحبة صديقيّ الراحلين الدكتور فالح عبدالجبار، وهادي العلوي الذي قرأتُ، مرةً، اسهامته لعدم تمكنه من الحضور، مثلما كانت تضمنا بعض الجلسات الخاصة التي كان من المفروض أن تستدعي حضور زياد لأهمية ما يطرح من تساؤلات هي في صلب المهام التي تواجه كلّ فنان وأديب شيوعي، من بينها أتذكر جلسة خاصة، شبيهة بسمينار مصغّر، ضمّت الدكتور مهدي عامل، والقائد الشيوعيّ كريم مروّة، وفخري كريم، والدكتور فالح عبد الجبار، وأنا وأتذكر أن مهدي كان المتحدث الأول، وقد ورد في حديثه مصطلح ” الأدب التقدمي الديمقراطي” فاعترضت على هذا الاستخدام غير الدقيق فكان موضع فرحٍ مهدي عامل الذي فاجأني بترحيبه بهذا الاعتراض، وحماسه للاختلاف. أتذكر أيضاً ليلة حميمة جمعتنا أنا وسعدي يوسف وأبو كاطع في بيت الأديب محمد دكروب رئيس تحرير مجلة “الطريق” اللبنانية، حضرها معنا الدكتور حسين مروة والدكتورة يمنى العيد ومهدي عامل وآخرون لا أتذكرهم الآن، ولكنْ ثمة كرسيٌّ فارغ كان ينتظر زياد. وحين كنا أنا وفالح في سكرتارية ورئاسة تحرير الثقافة الجديدة.. مجلة الحزب الشيوعي العراقي بدمشق لم يطرأ في بالنا اللقاء بزياد للحوار معه لا سيما أن ثمة جوانب عديدة كان تستدعي الحوار معه، ولعل من بينها، وفي مقدمتها بالنسبة إليّ، ديوانه الرائع الذي نشره في الثالثة عشرة من عمره وهو ديوان ينم عن موهبة كبيرة، وذكاء مفرطـ وتوجه طليعيّ، ولكنه لم يستوقف النقد العربيّ المشغول بالهوامش التي يحسبها متناً. وهذا الديوان لا يشي بموهبة زياد وحدها، بل بمصادره الثقافية ففيه إشارة إلى قصيدة “المركب السكران” تدل على معرفته برامبو آنذاك، وتأثره بتمرده، وتوجهه لا بإسلوبه، فلزياد منذ كتاباته الأولى منحاه الخاص القادر على تمثل الآخر شبيهاً ومختلفاً.. ( سأتناول هذا الديوان في القسم الثالث من مقالتي هذه).
كان منذ طفولته محكوماً بالتجربة، لذلك أرى أنّ الثنائية التي يتحدث عنها بعض الذي تناولوا زياد هي أبعد ما تكون عنه. إنه ليس الأنا المتوحدة، ولا الآخر المتوحد أو الجمعي، بل هو الأنا المتكثرة والآخر مفرداً أو جمعاً. إن من يبحث عن الأضداد في زياد لن يجدها في هذه الثنائية، بل في التركيب تركيب الأضداد الضاحكة التي تتجانس وتصطدم في آن واحد. إنه الجدل المركب الذي وجدهُ لا في التجربة وحدها، بل في أضداد ماركس الجدية، إن لم نقل المأساوية، وديالكتيك هيغل الذي جعل من الأضداد ملهاة قبل أن يحيلها ماركس إلى صراع هو أقرب إلى المأساة.
يقول بريخت العظيم في كتاب له عن المنفى، عن جدل هيغل: ليس هناك ما يضحكني مثل جدل هيغل الذي رآه بعينين جديدتين لا كما يراه الأكاديميون، أو المتحجرون الباحثون عن الأضداد، وحدها من دون تركيبها وتبادلها الأدوار… لذلك لن يفهم زياد هؤلاء، ولن يستطيعوا الجمع بين شيوعيته، وتراتيله الكنسية الشجية، وموقفه من المقاومة، وحزب الله، ومحبته للسيد حسن نصر الله الذي أهداه عملا من أعماله الموسيقية، مخاطباً إياه، عادةً، بالرفيق السيد، ومعلناً له وللجميع، ذات يوم، أن أمّه السيدة فيروز تشاركه هذه المحبة، في واقع متحرك يبدو ساكناً في ظاهره وإلاّ من يتوقع أن يعلن حزب الله على لسان أمينه العام “نعيم قاسم” في واحدٍ من خطبه الأخيرة، أنه يضمّ مقاتلين مؤمنين وغير مؤمنين، أي بلغة أخرى ملحدين، مثلما لا يستطيع هؤلاء المتحجرون أن يفهموا الآصرة العميقة التي تربطه بعاصي الرحباني معلمه الأول، والأب الذي لا يزال يؤثره زياد بمحبة خاصة عند الحديث عنه، ولا سبر أغوار تلك العلاقة التي تربطه بالأم السيدة فيروز، وكأن الأب والعم الرحباني لم يتكلما إلا عن الضيعة التي غادرها شخوص زياد إلى الحانة في مسرحيته “بالنسبة لبكرة شو” لتفقد هذه الشخصيات، فيما بعد، الضيعة والمدينة معاً. وإن كان ثمة ضيعة ومدينة في أيام السلم فأنى يكون ذلك أيام الحرب، في بلد عربيّ يحكمه ملوك الطوائف، بل أن هناك من الكتّاب من يُبقي فيروز ذاتها في الضيعة وكانها ليست هي فيروز التي غنّت “على هدير البوسطة” و”كيفك انت” قصيدة النثر الرائعة في شعر زياد وألحانه.
ألم تغني فيروز أيضاً قصيدته الجريئة عن رفيقه عامل النظافة: رفيقي صبحي الجيز. لا يمكن لفيروز العظيمة أن تغني مثل هذه الأغنية من دون قناعتها أبداً، وهذا ما أفصح عنه زياد بقوله في إحدى مقابلاته أن قناعات فيروز هي الأقرب لقناعاته من الأخرين.
إن حصر الاستنتاجات في المفاهيم والأفكار، فنيةً أو سياسيةً، بمقولة الفرد معزولاً عن شبكة علاقاته الاجتماعية والفنية، أو بعلاقاته المحدودة أو الغائبة لا يساعد أبداً على فهم ظواهر فنية كبيرة كظاهرة فيروز، أو الأخوين الرحباني، او زياد الرحباني نفسه، هؤلاء الذين كانت تحيط بهم شبكة من العلاقات المعقدة من تأثيرات، وشخصيات سياسية وفنية، وشعراء لم يعد لبنان لديهم محصوراً بضيعة، أو فئة مجتمع محددة، بل بما هو أوسع من الضيعة وهذه الفئة، ليصبح جبلاً أيضاً، وكاتدرائية، وماضياًعريقاً، وتراتيل سحيقة في التاريخ، وجغرافيا تمتد إلى أماكن أخرى هي: بيروت ودمشق والقدس، لا كما أراد لها شاعر كسعيد عقل الطائفيّ.. أماكن أخرى تستدعي المديح والغناء لمن هم أبعد ما يكونون عن سعيد عقل الذي يخاطب الشآم:
أمويون فإن ضقتِ بهم
الحقوا الدنيا ببستان هشام
ولعل من المفارقات أن ما بدا قبل سنوات شعاراً أدبياً يمجد فيه سعيد عقل الأمويين على لسان فيروز أصبح على يد أعداء لبنان ودمشق شعاراً باعثاً على السخرية، تردده أقوام همجية ضمهم على اختلافاتهم تنظيمٌ واحد هو: “داعش”… شعاراً كان تعبيراً شعرياً عرضيّاً لشاعر هو سعيد عقل ليستحيل إلى إيديولجية عمياء ترفعها طائفة إسلامية إرهابية تمثلها هيئة تحرير الشام في أجمل عاصمة عربية مفتوحة على العالم رغم اختلاف الأنظمة التي مرّت عليها. هذا التداخل الذي تجاوزه الرحابنة إلى ما هو أصفى: لبنان المثال لا في ضيعته المنعزلة، بل بضيعته التي اكتسبت رقة المدينة، والكثير من سماتها، على أيدي شعراء لبنان، ومثقفيه، وناسه ولكن؛ لأن تجربتهم أشمل من أن تتحدد بتجربة هذا الشاعر أو ذلك، دخلتْها شوائب كشائبة سعيد عقل التي هي ليست شائبة في الواقع بقدر ما هي بهرج أو زخرف شعريّ، كما قلت، يشفع له دخول محراب فيروز، هذه الصنعة الشعرية الفائقة التي امتلكها شاعر صنّاع مثل سعيد عقل. ولعل من المفارقات أيضاً أن هذا التمجيد كانت تصدح به شوارع دمشق وساحاتها الرحبة ومهراجاناتها تحت حكمٍ ينعتونه بـ”العلويّ” المبغض للأمويين ومجدهم، وهذه مفارقة لن يدركها هؤلاء المبغضون هم لكل مجد وتاريخ عريق، مثلما لن يدركوا أن الكثيرين من العلويين كانوا هم ضحايا النظام السابق ومعارضيه. هذا الديالكتيك النقيض المنحط الذي لا يريد أن يتامل فيه المتحجرون ليبحثوا عن نقائض لزياد هي في أوهامهم، وليس في هذا الواقع المتشابك الذي لا يمكن قراءته من متعصبين عميان.
لقد أدرك زياد في مسيرته الشخصية والفنية هذا التشابك، إن لم يكن بمعرفته، فبإحساسه العميق الذي اكسبته أياه التجربة حتى كاد يكون هذا الإحساس معرفةً، لعمقه ولاتساع شبكة علاقاته التي تبدو مثل هذه الشوائب صغيرة شبه غائبة، ولصلته بالماركسية، وبالأخص بالحزب الشيوعيّ اللبناني منذ عام 1974 وهذه الصلة لم تكن طارئة، أو وليدة ظرف موضوعيّ حسب كالحرب أو ما شابه. إذ أن عاصي ومنصور الرحماني كانوا على صلة وثيقة بالحزب قبل ذلك، أي قبل أن يشتهرا، إلا أن ظروفاً شغلتهما عن مواصلة هذه العلاقة، وإن ظلت صلاتهما بالحزب مستمرة، كما يذكر ذلك كريم مروة الذي قال لزياد حين اتصل به لينتمي إلى الحزب سنة 1974 ” شو بدّك من هالشغله” لذا اقترح عليه أن يكون بصلة فردية استمرت حتى سنة 2000 متمتعاً بكامل العضوية في الحزب. ( هذا درس للمتحجرين من قادة الأحزاب الشيوعية الأخرى الذين ناصبوا العداء المثقفين، شيوعيين أو غير شيوعيين، لأن لديهم آراء خاصة أو موقفاً من هذه القضية أو تلك، أو هذا القائد أو ذاك، لأسباب كثيرة فكرية وغير فكرية، واضطر بعض هؤلاء القادة المتخلفين بسبب خلافه مع بعض المثقفين أن يعتمد حتى على من هم ألدّ أعداء الماركسية، من مرتزقة الثقافة؛ لإيجاد البدائل، والأمثلة كثيرة على ذلك)
لقد اتسعت الهوة بين زخارف سعيد عقل بصفته جزءاً صغيراً من شبكة الأخوين الرحباني وشعر زياد وألحانهِ التي لم يكن يريدها فقط مرآة تعكس الواقع الجديد واقع لبنان وحروبه الطويلة. لقد تجاوز نظرية الانعكاس الماركسية الشائعة، والمفهومة خطأً، إلى ما هو أعمق بكثير: إلى كسر هذه المرآة على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسر في إحدى مقالاته الرائعة التي ضمها كتابْ له عن بريخت، صدر في منتصف الستينات في باريس بعنوان:
‘Pour Marx’ أي “من أجل ماركس”.

شارك مع أصدقائك