قراءة في ديوان …ضريح أنا أخماتوفا..د.وسام علي الخالدي

شارك مع أصدقائك

Loading

. “رثاء الحياة بعيون الغياب: قراءة في ديوان ضريح أنا أخماتوفا”

بقلم الأستاذة الدكتورة

وسام علي الخالدي

 

العراق

في حضرة الشعر، حيث تتكثف الرؤى وتذوب الحدود بين الحياة والموت، ينهض ديوان “ضريح أنا أخماتوفا” بوصفه نداءً أنيقًا من الضفة الأخرى، حيث الحزن لا يكون استسلامًا بل مقاومة شفافة، وحيث القصيدة تتحوّل إلى صلاة للغياب واستدعاء حميمي لوجوه الراحلين من عمق الذاكرة والتاريخ. يتكئ الشاعر في هذا العمل على تجارب وجودية مركّبة، وينسج منها عوالم شعرية تنفتح على الموت بوصفه ممرًّا إلى مساءلة الحياة ذاتها. هنا، لا يُقدَّم الموت كواقعة فادحة فحسب، بل كاختبار جماليّ وفكريّ يحيل اللغة إلى بئر لا قرار لها، تستخرج من أعماقها نداءات الروح وأنين الغياب.

القصائد تنفتح منذ البدء على مشهدية رمزية عميقة؛ الطفل السوري الكردي الغريق، آلان، يتحول من صورة إخبارية إلى أيقونة شعرية، إلى صرخة إنسانية ضد التوحش والصمت والتخلي، وكأن الشاعر يستحضر في هذه البداية ذلك الألم الكوني الذي يُفتَت على ضفافه الإيمان بالعدالة الإلهية والرحمة الإنسانية معًا. الديوان، في مسيرته الشعرية، لا يكتفي باستحضار الموت بوصفه انطفاءً، بل يعيد تأويله على نحو داخلي، يتحوّل فيه الموت إلى مرايا نرى فيها هشاشتنا، وحنيننا، وخيبتنا، وأعذارنا المستترة خلف الكلمات.

ففي قصيدة “النائمة”، يتجلّى الاشتغال الشعري على النغمة الشفيفة البسيطة، حيث تتوارى الفجيعة خلف تفاصيل الحياة اليومية: النعناع، الطيور، القطة، خُمّ الدجاج. التفاصيل هنا ليست زينة مشهدية، بل هي ما يتشبث به الشاعر كي لا ينكسر. النعاس موت مؤقت، لكنه محمّل برغبة الحيّ في أن يظل جزءًا من تفاصيل من يحب، حتى بعد الغياب. تلك الرقة المصحوبة بالخوف والرغبة والحنين، تخلق شعرية خاصة لا تكتفي بالتصوير بل تتلبّس الوجود ذاته.

أما في “موت شاعر”، فإن الديوان يرتفع إلى مقام الرثاء الوجودي، حيث تتفجّر القصيدة من أعمق مجاري الأسى، لا كمجرد نحيب، بل كاحتجاج على العالم الذي لا يمنح الشاعر فرصةً لوداعه الأخير. اللغة هنا مأساوية بامتياز، تستحضر الغياب من داخل الأصوات، من نظرة الأم، من المأتم، من سؤال الموت الذي لا إجابة له، من قسوة “الصمت” التي تذوب أمام صرخات الأم وتضرعاتها. والدهشة أن القصيدة لا تقول الفجيعة بل تُجسِّدها حتى ليبدو الموت حدثًا مستمرًا، لا يُدفن مع الجثمان.

ويأخذ الشاعر بيده القارئ إلى ضفاف “الضريح” حيث يقف هو والموتى وجهًا لوجه مع الزمن. تظهر في النصوص أصداء أنا أخماتوفا، وصدى سيوران وكراوس وتسيلان، بوصفهم جميعًا شهودًا على عالم انحسر فيه الضوء. لكن الديوان لا يقلّد هذه الظلال، بل يعيد تأويلها عبر رؤية عربية، قادمة من جرحٍ معاصر، ومن سياق وجودي مضطرب، ومن جغرافيا تتغذى على الوجع وتعجز عن صياغته أحيانًا. الشاعر هنا يعيد إنتاج الشعر بوصفه مديحًا للغياب، ورفضًا للخذلان، واحتفاءً بالمحبين الذين سبقونا، لا بوصفهم موتى، بل بوصفهم علامات لا تزول.

اللغة تتماوج بين التكثيف والبوح، بين الخطاب المباشر والانزياح الرمزي، بين التصريح والتلميح، كأن الشاعر يكتب بمنجل الضوء على ليل الذاكرة. لا يقف عند حدود النظم، بل يقتحم الوجدان، يكتب من اللحم الحي، ومن عمق الخسارة. وفي قصائد مثل “وصيف الموت”، “جرب موتك”، “مراكب الموت في المتوسط”، تتجسد الكثافة الدرامية في أبسط صورها، حيث كل بيت شعري هو مشهد كامل، وكل سطر يحوي عالماً من الرماد والحنين والألم.

الديوان لم يمثل تجربة شخصية، بل نص جماعي ينوح باسم أجيال، يكتب وجع الأمهات، ويتم الأطفال، وذهول من فقدوا أصدقاءهم دون وداع، في صور لا تفتقد الجمال رغم قسوتها، بل هي مدهشة بشفافيتها وسكونها النازف. العناوين داخل الديوان ليست فواصل، بل أنفاس متقطعة من روح واحدة، تتجول في ردهات الحزن بحذر، تضع يدها على وجوه الموتى وتهمس: نحن هنا، لا زلنا نحب.

ضريح أنا أخماتوفا لم يكن ديوان شعر ، بل تجربة عبور، وقفة في المسافة الحرجة بين ما عشناه وما لم نعد نستطيع العيش فيه. وهو تذكير شعري، أن القصيدة يمكن أن تكون ضريحًا، لكنها أيضًا شرفة، نطل منها على الحياة ونحن نعبرها كما يعبر النعاسُ جسدًا أنهكه الحنين.

ويمثّل ديوان “ضريح أنا أخماتوفا” تجربة شعرية رفيعة المستوى، تتّسم بعمق الوعي الوجودي، وثراء اللغة، ورهافة التكوين الجمالي. وهو ديوان يتجاوز حدود البوح الفردي إلى إقامة صرحٍ شعريّ للذاكرة الإنسانية الجماعية، حيث ينهض الموت لا كهاوية، بل كعلامة، كقصيدة، كضوءٍ خافتٍ يوشك أن ينطفئ لكنه يُضيء لنا طريقًا إلى الداخل.

في هذا العمل، يتمكن الشاعر من إعادة تعريف الشعر نفسه: ليس الشعر هو ما نكتبه في مواجهة الحياة، بل ما نكتبه في مواجهة الغياب، حين تصير القصيدة شاهدًا على الحبّ، وعلى الغياب، وعلى ما لم نستطع قوله وجهًا لوجه. كل قصيدة في هذا الديوان، حتى في أقصى لحظات الهشاشة، كانت تقول الحياة، لا بوصفها نقيضًا للموت، بل بوصفها انعكاسًا له.

إنه ديوان ينتمي إلى مدرسة “الأثر” لا “الصرخة”، حيث لا شيء يُقال على نحو مباشر، بل كل شيء يُلمَح إليه من بين الشقوق، وتحت الرماد، وفوق تابوت يتهادى في جنازة طويلة عنوانها: “الحياة التي لم تكن حياة تمامًا”. ديوان لا يصرخ، لكنه يُدمع. لا يحتجّ، لكنه يركع بانكسار داخلي عميق. ولا يختم، بل يفتح أبوابًا جديدة للسؤال، وللصلاة، وللكلمة.

ولعلّ أجمل ما فيه، أن الموت في هذا العمل لم يكن النهاية، بل كان المناسبة الشعرية الكبرى لتأمّل المعنى. فهل ثمّة جدوى أعظم من أن يُخلِّد الشاعر من يحب عبر لغة لا تموت؟
واخيرا يمثّل ديوان “ضريح أنا أخماتوفا” تجربة شعرية نادرة في فرادتها وعمقها، لا تقول فقط الموت، بل تعلّمه، وتدرب القارئ على الإصغاء لما بعد الغياب. هو ديوان لا يترك في النفس ألمًا عابرًا، بل يزرع أثرًا دائمًا، كما لو أنّ كل قصيدة هي لمسةٌ على خدّ الموتى، أو ضوء صغير يُشعل في ممرات العتمة.

قصائد هذا العمل لا تُكتب لتُقرأ فقط، بل لتُتذكّر، لتُعاد، لتُبكى عليها. إنها قصائد من طين الذاكرة، ومن حليب الأمهات، ومن رماد الأصدقاء، ومن ضوء القمر حين يُغلق عينيه باكرًا. وكل قارئ لهذا الديوان، حين يغلق صفحاته الأخيرة، سيشعر بأنه مرّ من جنازةٍ تخصه، لكنه خرج منها أكثر حياة.

شارك مع أصدقائك