المفارقات الزمنية في رواية المتشابهون
للأديب/ أحمد طايل
دراسة نقدية بقلم
الكاتبة والناقدة/ أمينة الزغبي
عضو اتحاد كتاب مصر
المفارقات الزمنية في السرد الروائي هي تقنيات يستخدمها الروائي لتغيير الترتيب الزمني للأحداث، مما يخلق تأثيرات فنية وجمالية في الرواية.. تتضمن هذه التقنيات الاسترجاع أي (العودة إلى الماضي) والاستباق أي (التطلع إلى المستقبل) وتغيير إيقاع السرد.. والهدف من هذه المفارقات هو جذب انتباه القارئ، وإثراء النص الروائي..
ويمثل الزمن أحد العناصر الأساسية في السرد الروائي، وهو يشمل زمن الحكاية (الأحداث الفعلية) وزمن الخطاب (طريقة عرض الأحداث في النص).
وما يهمنا هنا هو الاسترجاع الزمني، حيث يتمثل في عودة السرد إلى أحداث سابقة في زمن الرواية، بشكلٍ قصير (فلاش باك) أو طويل (استعادة ذكريات)
وهو ما يطلق عليه (نوستالجيا) ولأن عنصر الزمن يعد عصب مكونات البناء السردي، وأكثرها التصاقا بجنس الرواية، ففي نظامه تجري الأحداث، وضمن مساره تتحقق تحولات الشخصيات، وصيرورتها التي تدفع بعجلة السرد الى الأمام.
والقارئ لرواية المتشابهون يستطيع أن يُدرك بسهولة ويسر، كيف أتكأ الكاتب علي تقنية الاسترجاع الزمني في متنه الحكائي للرواية، وخاصة الاسترجاع الداخلي..
إن البحث عن الاسترجاع الداخلي في رواية المتشابهون يتطلب بعض التركيز، لأن الطريقة التي أختارها الكاتب لرسم شخوص الرواية تقتضي ضرورة ذكر الشخصية أكثر من مرة، حيث تَرد في القصة المخصصة لها، ثم ترد مرات أخرى في قصص الشخصيات التي تداخلت هذه الشخصية بعلاقات القرابة معها، أو المصاهرة، أو الصداقة، لذلك نجد أن هذا الاسترجاع قد أدى دورًا تكامليًا، حيث يشير فيه الكاتب إلى تفاصيل لم يذكرها عن الشخصية من قبل، كذلك فإن عملية الاسترجاع الداخلي للشخصيات لها دور كبير في تكملة الشكل العام للحدث الحكائي الأصلي، والرواية مليئة بما يمثل هذا الاسترجاع الحكائي.
فعلي سبيل المثال ما ورد على لسان الراوي العليم فيما حدث للشخصية الرئيسة في الرواية (رضوان) وهو يتذكر صديق الطفولة والشباب (لوكا ديموس انطو نياس) بعد أن هاتفه تلفونيًا وهو يقول في ص 38:
ــ رضوان ألا تعرفني؟ أنا (لوكا ديموس أنطونياس) هل نسيتني؟
رن الاسم في أذنه، وجد نفسه يصيح غير آبه بالشارع ومحتواه:
ــ يا الله يا الله، أين أنت طوال هذا الزمن، وكيف توصلت لرقمي؟
هل جلست إلى البلورة السحرية الخاصة بوالدك؟
ــ كما أنت لم تتغير، تريد معرفة كل شيء على الفور، وحتى تهدأ أخذت رقمك من (عبد الله التحيوي) … الخ
بعد ذلك يعود بنا الكاتب علي لسان الراوي العليم مرة أخري ص 59 كي يسترجع (رضوان) ذكرياته عن تلك الشخصية (لوكا ديموس) ليكشف للقارئ الكثير من جوانب هذه الشخصية في صورة استرجاع داخلي فيقول:
(لوكا وعبد الله التحيوي كانا قرينيّ بداياته الحياتية، أَطلق عليهم أهل القرية مسمي (ثلاثي أضواء القرية) إسوة بفرقة (ثلاثي أضواء المسرح) كانوا لا يفترقون إلا عند النوم، وأحيانًا كانوا ينامون عند أحدهم، حتى أنهم اتفقوا على توحيد ملابسهم وأحذيتهم… إلخ)
وهنا يحاول الكاتب عن طريق هذا الاسترجاع أن يوضح العلاقة الوثيقة التي تربط بين هؤلاء الأصدقاء الثلاثة (رضوان أبو الحمد ــ ولوكا ديموس ــ وعبد الله التحيوي).
هناك نوعًا آخر من الاسترجاع الزمني داخل هذا المتن السردي، وهو ما يُطلق عليه الاسترجاع الخارجي..
وهو استرجاع لأحداث في المتن الحكائي تكون متضامنة في زمن الحكاية
الأولى، حيث يشير الكاتب إلى حدث، ثم ينوه بوجود صلة بينه وبين حدث آخر
خارج نطاق النص المحكي، ويشهد هذا النوع من الاسترجاع كثرة من حيث الكم في رواية “المتشابهون” وبإمكاننا أن نرصد بعض الأمثلة:
التحول الذي طرأ على شخصية (عبد الله التحيوي) من بائع تجزأه للعطور، إلي صاحب مصانع شهيرة للعطور في فرنسا، هذا التحول الذي يربط ما بين نشأة (عبد الله الحيوي) في قرية (ميت عنتر) وحياته الحالية في فرنسا.
وكذلك (لوكا اليوناني الأصل) الذي ارتبط بقرية (ميت عنتر) لأب يتاجر في كل شيء بسيط، ثم أصبح بعد ذلك يمتلك الملايين والأصول العقارية داخل مصر وخارجها.
أيضًا (ثريا) ابنة (حسين بن عم رضوان) التي تمثل نموذج المرأة المتعلمة في قرية (ميت عنتر) وكيف واجهت أزمة زواجها الأول، ثم انتقالها إلى فرنسا؛ لتكمل دراساتها العليا بالسوربون، كحدث آخر يخرج عن نطاق المحكي داخل المتن السردي للرواية.
وكذلك الحديث عن لقاء الكاتب الساخر الراحل (محمود السعدني) في نادي الإعلاميين بالقاهرة، وغيره من الأحداث.
استخدم الكاتب أيضًا تقنية “الحذف الضمني” وهو الذي لا يصرح فيه الراوي بالمدة الزمنية المتجاوزة على نحو محدد بدقة مثل قوله:
(بعد سنوات طويلة، بعد عدة أشهر، بعد عدة عقود).. وهي تقنية يلجأ إليها الكاتب لتسريع السرد.
أما عكس ذلك فهي تقنية (إبطاء السرد) حيث يذهب الباحثون إلى أن “تعطيل السرد يتم بواسطة تقنيتي (المشهد الدرامي، والوقفة الوصفية) اللتين تعطلان حركة الزمن وتعلقانه إلى حين انتهائهما، فيستعيد السرد حركته الطبيعية.. والمشهد هو ما يعرف “بالحوار”..
ويعرفه ترودوف بأنه عبارة عن: “مقطع من وقت الرواية يقابل مقطع آخر مشابه له من حيث وقت التدوين نفسه”.
وعلي هذا فإننا نجد الحوار في رواية المتشابهون ينقسم إلي: حوار داخلي، وحوار خارجي.
أما الداخلي، والمقصود به حديث النفس للنفس، حيث يقوم الكاتب من خلاله بطرح العديد من الذكريات، والمشاعر، للشخصيات، وموقفها تجاه الواقع الذي تعيش فيه، دون تدخل منه بأي توضيح أو تعقيب، وتحفل رواية المتشابهون بالكثير من الأمثلة، والتي تطالعنا في بعض الأحيان على هيئة تساؤل، مثل ما ذكره الراوي العليم على لسان رضوان حينما حضر صديقه (لوكا ديموس) وهو يشاهده بعد غياب أكثر من ثلاثة عقود، فيحدث نفسه قائلًا ص 59:
(أخذ رضوان يفركُ عينيه دهشة، ما يراه هو لوكا الذي غادر منذ عقود، ما زال بريق عينيه حادًا، ما زالت رنة المرح بصوته، هل الزمن ضل الطريق إليه؟ فلماذا يا زمن تصر على مرافقتنا؟ حتى الزمن يفرق بين الشرق والغرب! أفاق على تلويح يده أمام عينيه وهو يصيح به..)
ومثال آخر:
نلاحظ أيضًا الحوارات الداخلية الموجعة لما شاهده (رضوان) من تغيير في قريته (ميت عنتر) حيث يقول على لسان الراوي العليم في ص 42:
(ما هذا التغيير السريع؟ كل المساحات الزراعية التي شاهدها برحلته الماضية، لا يوجد لها أثر، الأبراج السكنية الأسمنتية صارت صاحبة الغلبة، حتى الخضرة استسلمت للكتل الأسمنتية والخرسانات والتغييرات، حتى الهواء لم يعد كما كان..)
وهناك الكثير من الحوارات الداخلية للشخصيات، وخاصة الشخصية الرئيسة(رضوان) والتي تتسم بنقد الواقع الاجتماعي كما أشرنا في المثال السابق، بل يمتد هذا النقد إلي التغيير الأخلاقي السائد بين فئة الشباب، وتعلقهم بما يرد إلينا من الغرب وتقليده دون تفكير، هذه الحوارات الداخلية توضح مدي غيرة الكاتب علي وطنه، وخشيته من ضياع أبناءه وغياب الثقافة والوعي عن عقولهم الواعدة، لذلك عبر عما يجول بخاطره علي لسان شخصيته الرئيسة في الرواية (رضوان أبو الحمد) الذي رسمه الأديب (أحمد طايل) بصورة مثالية من حيث الأخلاق، والالتزام في العمل، وتربية الأبناء، والحياة الأسرية الممتدة لأكثر من ثلاثين عامٍ، عكس جذوره التي ينتمي إليها، ويفخر بالتشابه معها في كل شيء، هذا التشابه ليس تشابه بين الشخوص من حيث الصفات الخلقية في الشكل؛ كالطول أو القصر، أولون البشرة والعينين مثلًا، لكنه تشابه في الطباع، والتمسك بالعادات والتقاليد الريفية الأصيلة، ليس بين أفراد العائلة الواحدة فقط، ولكن ما بين العائلات التي يجذب بعضها بعضًا؛ فنجد التشابه جاء ما بين عائلة والد رضوان (الحاج الحسيني فرحات أبو الحمد) وعائلة والد ناهد، مما أدي إلي المصاهرة بزواج رضوان من ناهد، وهنا نشير إلي أمرين أولهما:
أن هذه العائلات ذات المستوي الطبقي العالي لا تُصاهر إلا من يشبهونها في كل شيء.
والثاني: وهو أن رضوان قد خرج عن إطار هذا التشابه في استمرار زواجه لزوجةٍ واحدة مدي الحياة، وهو ما خالف جده الذي كان متعدد الزيجات، حتى أنه تزوج بعد التسعين من شابة في العشرين، ووافته المنية وهي حامل في شهرها السابع!
هذا الجد الذي تماست بعض من تقاليده الحياتية مع أسرته، في الطقوس اليومية أثناء تناول الطعام، وطقوس الزواج، وخضوع الأبناء ذكور وإناث لاختياراته، تماست مع شخصية (السيد عبد الجواد) في ثلاثية كاتبنا المبدع الراحل صاحب نوبل (نجيب محفوظ).
إذا انتقلنا إلى الحوارات الخارجية بالرواية، سوف نجد أنها كثيرة، وتراوحت ما بين الجمل القصيرة تارة، والفقرات الطويلة تارة أخري، والكاتب أتكأ عليها كثيرًا؛ كي تقوم بوظيفتها كاملة تجاه المتلقي؛ فهي أداة فعالة لكشف جوانب الشخصية، ودفع الأحداث، وتعميق التجربة الجمالية، وكذلك المساهمة في بناء الحبكة، وإظهار العلاقات بين الشخصيات، وتوضيح أفكارهم ومشاعرهم، مما أثري النص الروائي الذي بين أيدينا اليوم.
أما الوقفة السردية في الرواية فهي توقف مؤقت في تيار السرد، حيث يتم التركيز على تفاصيل معينة مثل (الوصف) مما يؤدي إلى تباطؤ أو تعليق حركة الزمن السردي في الرواية.. عادة ما يكون هناك تدفق مستمر للأحداث، وتأتي الوقفة السردية لتعمل على “تجميد” هذا التدفق مؤقتًا، فتتوقف الأحداث الرئيسة عن التطور لبرهة، والقارئ لرواية المتشابهون للأديب أحمد طايل سوف يلاحظ أن الكاتب أتكأ على هذه التقنية السردية التي ساعدته علي توقف تيار السرد المتدفق بما يحمله من “نوستالجيا” مليئة بالمشاعر، والشجن أحيانًا، والتي ساعدت الكاتب في أن ينجح بهذه الوقفات السردية بالبعد عن التشتت، نظرًا لكثرة شخوص الرواية، والتشابه بينهم في الكثير من الصفات؛ لذا ساعدت الوقفات الوصفية علي متابعة المتلقي للأحداث والأفكار دون ملل.
أما المكان فقد تراوح في الرواية ما بين، حي القلقة، والسيدة زينب في القاهرة، وقرية ميت عنتر بالدقهلية، وكامب شيزار، وبئر مسعود في الإسكندرية، وهي أماكن حظيت بالنوستالجيا والحنين إلى الماضي بين شخوص الرواية، لما لها من مكانة خاصة لديهم، أما فرنسا، واليونان، فلم يكن لهم الأثر المعادل لتلك الأماكن السابقة، وذلك لما يحملانه من حداثة في المبني الحكائي للسرد.
ونحن بصدد الحديث عن رواية الأديب أحمد طايل المعنونة ب “المتشابهون” فكان علينا أن نسأل من هم المتشابهون؟
قد يشير هذا اللفظ إلى مجموعة من الأفراد الذين يملكون صفات أو اهتمامات أو أهداف متشابهة، أو يأتي بينهم التشابه في المظهر الخارجي، حيث السمات الخَلقية مثلًا، أو السمات الداخلية للشخصيات، والأصل، مثل ولديّ رضوان التوأم (إسلام وطارق) أو يكون التشابه ليس في المظهر الخارجي، أو الجذور الضاربة في عمق الحضارات، مثل الأصدقاء الأربعة في الرواية، وهم (رضوان أبو الحمد، وبن عمه حسين، ولوكا اليوناني، وعبد الله التحيوي) الذين جمع بينهم تشابه، عبر عنه الكاتب علي لسان الراوي العليم ص 147 حيث يقول:
(قد تتباعد بنا الحياة، وتأخذ كلا منا إلي مسار مغاير، إلي عمل مختلف، إلي حياة مختلفة، ولكن بيننا جميعًا ما ينادينا، التشابه، كل إنسان له من يشبهه، وليس المقصود تشابه الملامح والقسمات ولون البشرة، التشابه هنا تشابه الأفكار، تشابه الأرواح والرؤي، التشابه في تحليل المشاهد والمواقف، هناك فهم مشترك بيننا، التشابه متوارث عبر الأجيال؛ لو راجعتم سيرة الآباء والأجداد ستجدون لكل منهم أصفياؤه، والأصفياء يحملون تشابهًا مع الآخرين، حتي لو تباعدنا أعوامًا طويلة، فها هي عودتنا، ولذا كان تقاربنا، لذا كان ارتباطنا الروحي والفكري والإنساني، علينا إن كنا نريد الحياة الهادئة المتصالحة مع الذات أن نبحث دائمًا وبلا كلل عمن يشبهنا).
إننا أمام نص روائي يحمل بين طياته الكثير من الأنساق الثقافية المضمرة، أي (المفاهيم، والقيم، والأيديولوجيات) التي تتجلى في النص بصورة خفية ومنها:
أنه على إنسان هذا العصر أن يتمسك بالأخلاق الكريمة، والقيم، والمبادئ التي تجعل منه شخصية تقترب إلى المثالية والاتزان.
أنه علينا أن نحث شبابنا على الثقافة ونمدهم بالوعي الذي ينير لهم الطريق، ويجعلهم يتمسكون بما يتناسب مع مبادئهم وأخلاقهم، حتى لا يفقدوا هويتهم الخاصة بحضارتهم الضاربة في عمق التاريخ.
أننا لا بد لنا جميعًا أن نتمسك بمن يشبهوننا، في التفكير، والأخلاق الكريمة، لا في الشكل والمظاهر البالية.
لقد قدم لنا الكاتب المبدع الأستاذ أحمد طايل رواية تتسم بالسرد الدائري، حيث بدأ السرد الحكائي فيها عن قرية (ميت عنتر) بالعبارة الشهيرة (يخلق من الشبه أربعين) وانتهي بلم شمل الأصدقاء المتشابهين بعد تفرقهم لعدة سنوات؛ ليحتفلوا جميعًا بزواج (أكرم بن عبد الله التحيوي، وثريا بنت حسين) في نفس المكان قرية (ميت عنتر).
عبر الكاتب عن كل هذه الأفكار، والشخوص، والأحداث، بلغةٍ فصحي بليغة، في السرد والحوار، استطاع أن يبرز بها جماليات النص وقدراته الإبداعية، وتمكنه من أدواته أمام المتلقي.
ولا يسعنا في النهاية إلا أن نتقدم بالشكر للأديب أحمد طايل على روايته الماتعة، التي أدعوكم جميعًا لقراءتها.