ظلال الألم وقبس الأمل
قراءة نقدية في المجموعة القصصية “في ظل الشجرة” للكاتبة عبير سعد
إعداد: د. نجلاء نصير
دكتوراه الفلسفة في الآداب تخصص الدراسات الأدبية والنقدية من جامعة الإسكندرية
تأتي المجموعة القصصية ‘في ظل الشجرة’ للكاتبة عبير سعد كرحلة أدبية تتنقل بالقارئ بين ظلال الألم ووميض الأمل، حيث تطرح قصصًا تمتزج فيها التفاصيل اليومية بالرمزية العميقة، ضمن سردٍ إنساني رقيق لا يخلو من الحدة في تشريح الواقع. في هذه الدراسة، سنقوم بتحليل سيميائي للغلاف والعنوان، وتحليل بنيوي لكل من الشخصيات، الحبكة، المكان، الزمان، إضافة إلى تفعيل المنهج النفسي والرمزي في قراءة النصوص.
1الغلاف والعنوان( تحليل سيميائي(
يُقدم غلاف الرواية لوحة بصرية غنية بالرموز والدلالات، تُشكل بمزجها مع العنوان “في ظل الشجرة” مدخلًا سيميائيًا عميقًا لفهم طبيعة العمل وموضوعاته المتناولة:
الصورة المركزية :يظهر في قلب الغلاف منظر يجمع بين شجرة ضخمة وقبة ذهبية )تبدو كقبة الصخرة أو أحد المعالم الإسلامية المقدسة(، محاطة بسماء ملبدة بالغيوم الداكنة تنبعث منها أشعة نور خافتة .
الشجرة :تُمثل الشجرة في التراث الإنساني رمزًا للحياة، النمو، الثبات، الأصالة، والامتداد. وجودها في “الظل” قد يوحي بالحماية، الملاذ، أو ربما شيئًا من الغموض أو الثقل الذي يلقيه هذا الظل. هي أيضًا قد ترمز إلى الجذور، التاريخ، أو حتى الموروثات التي تلقي بظلالها على الحاضر.
القبة الذهبية :تُشير القبة إلى الأماكن المقدسة، الروحانية، التاريخ، والحضارة. ارتباطها بالشجرة يخلق توازيًا بين الجانب المادي )الشجرة كرمز للحياة الأرضية( والجانب الروحي أو التاريخي )القبة.( النور المنبعث منها يعكس الأمل، القدسية، أو الإلهام.
السماء الملبدة والغيوم الداكنة :تُوحي هذه العناصر بالمعاناة، التحديات، الألم، والأجواء القاتمة. إنها تُنذر بوجود صراعات أو أحزان تكتنف الأحداث.
أشعة النور الخافتة :على الرغم من الظلام، فإن وجود النور يبعث على الأمل، المقاومة، أو بصيص من الخلاص. قد يُشير إلى أن الأمل موجود حتى في أحلك الظروف، أو أن هناك جانبًا إلهيًا يرعى الأحداث.
العبارة الإنجليزية “في ظل الشجرة “:هي الترجمة الحرفية للعنوان، وتعزز دلالات الظل والشجرة عالمية.
الكلمة “مجموعة قصصية “:تُوضح تجنيس العمل الأدبي، بل مجموعة قصصية تدور أحداثها “في ظل الشجرة” أو تحت مظلة دلالاتها.
التحليل السيميائي المتكامل للعنوان والغلاف:
يُقدم الغلاف والعنوان معًا صورة لعمل أدبي يتناول موضوعات الألم، المعاناة، والتحديات، ولكن في إطار يحمل دلالات الأمل، الجذور، الروحانية، والصمود. الظل قد يكون ظل الشجرة الحامية، أو ظل الأحداث القاتمة التي تترك أثرها. الشجرة والقبة تُشيران إلى الأصالة، التراث، والقيم التي تبقى ثابتة رغم تقلبات الزمن .العبارة “قبس من أوراق خريفنا المتناثرة ” الموجودة على صفحة العنوان الداخلية، تعمق هذا المعنى، فـ “الخريف” يُشير إلى التراجع والذبول، و “الأوراق المتناثرة” إلى التشتت والفقد، لكن “القبس” هو بصيص من نور، يُوحي بأن هذه القصص – رغم ألمها – تحمل في طياتها ومضات من الحكمة أو الأمل.
2.تحليل الشخصيات
بما أن العمل مجموعة قصصية، فإن الشخصيات تتغير من قصة لأخرى، لكن يمكن تحليل الأنماط العامة للشخصيات
ودورها:
الشخصيات الرئيسية )ضحايا الألم( :في كل قصة، هناك شخصية أو أكثر تعاني من نوع معين من الألم أو الفقد. هذه الشخصيات غالبًا ما تكون حساسة، عميقة المشاعر، وتتفاعل مع الألم بطرق مختلفة )صمت، بكاء، هروب، صمود.( على سبيل المثال:
الألم الأول “)انتظار(” :الفتاة المنتظرة لحبيبها الشهيد، التي تتهاوى أحلامها وتعيش في جحيم الذكرى.
الألم الثاني “)رزقت حياة(” :الرجل الذي فقد زوجته “حياة” ويعيش على ذكراها، ثم يتزوج صديقتها “حياة” محاولًا تعويض أبنائه، لكنه يواجه تحديات جديدة.
الألم الثالث “)درة التاج(” :الفتاة التي تعاني من كوابيس وهلوسات، وتكتشف أنها مستهدفة كـ “قربان”. o الألم الرابع “)قدر(” :الفتاة التي تعاني من مرض عضال وتضحي بحبها من أجل حبيبها.
الألم الخامس “)براءة(” :الطفلة أميرة التي تفقد جنيهًا وتخاف العقاب، وتكشف القصة عن بساطة الحياة
القروية.
الألم السادس “)آخر الزمان(” :الرجل الذي ينتظر حبيبة لخطبتها، وتتخلل القصة أحداث يوم القيامة الصغرى، حيث تظهر مجموعة متنوعة من البشر.
الألم السابع “)اغتيال(” :الجنود الذين يواجهون الموت في الحرب، والأم التي تحاول حماية بناتها. o الألم الثامن “)قربان(” :الفتاة التي تعيش تحت تأثير وشم ملعون، وتُصبح قربان.
الألم التاسع “)في ظل الشجرة(” :الجدة التي تروي قصص الصمود والأمل لأحفادها في القدس.
الألم العاشر “)انتقام(” :حبيبة التي تعيش صراعاً داخلياً بعد حادث أودى بحياة زوجها وولدها، وشيطان
يعذبها.
الألم الحادي عشر “)الوافد الجديد(” :الرجل الذي يجد نفسه محتجزاً ويتحول إلى جزء من نقوش باب الغرفة المخيفة.
الألم الثاني عشر “)أضغاث آلام(” :حبيبة وماهر، وقصة حبهما التي تتخللها مآسٍ عائلية وصراعات.
الشخصيات الثانوية والمساعدة :تظهر لدعم الشخصيات الرئيسية، أو لتقديم منظور مختلف، أو لتسليط الضوء على جوانب من الألم. يمكن أن تكون هذه الشخصيات:
o أفراد العائلة :الأمهات، الآباء، الأجداد، الإخوة، يلعبون أدوارًا مختلفة من الدعم، أو المعاناة المشتركة، أو حتى يكونون مصدرًا للألم.
الأصدقاء والزملاء :يقدمون الدعم العاطفي أو يشاركون في الأحداث
الشخصيات الرمزية/الشريرة :في بعض القصص، هناك قوى شريرة أو شخصيات تمثل الجانب المظلم من الألم، مثل الشيطان، أو القتلة، أو الشخصيات النرجسية.
ديناميكية الشخصيات :تتسم الشخصيات غالبًا بالتحول نتيجة للألم الذي تتعرض له. البعض ينهار، والبعض الآخر يجد القوة للصمود أو التوبة.
3-الزمان والمكان
تتنوع الأزمنة والأمكنة في المجموعة القصصية، مما يمنحها بعدًا عالميًا وإنسانيًا واسعًا:
الزمان النفسي :يغلب على القصص طابع “الزمان النفسي”، حيث يمتد الزمن وتتقلص أحداثه بناءً على تأثيرها العاطفي والنفسي على الشخصيات. غالبًا ما يتم التركيز على اللحظات الحاسمة التي تُشكل نقطة تحول في حياة الشخصيات، مثل لحظة الفقد، أو الاكتشاف، أو القرار الصعب.
الزمان الاجتماعي/التاريخي :بعض القصص تحمل إشارات إلى سياقات زمنية أوسع، مثل الإشارة إلى الصراعات العسكرية أو أوصاف القاهرة المعاصرة ، أو حتى لمحات من الماضي العتيق في قصة “براءة “.قصة “آخر الزمان” تتجاوز الزمن الواقعي لتتحدث عن نبوءات ومصير كوني.
الزمن المتكرر :في بعض القصص، يتكرر الألم في نفس الموعد أو الظروف )مثل انتظار الحبيب في قصة “انتظار) “، مما يُعزز فكرة دورية المعاناة أو تداعيات الماضي.
الأماكن المغلقة )الرمزية( :تظهر الأماكن المغلقة كرمز للحبس، العزلة، أو حتى المعاناة الداخلية .على سبيل المثال، الغرف المعتمة في قصة “رزقت حياة “، أو “الكهف المظلم” في قصة “انتقام “، أو “غرفة الأسرار” في “الوافد الجديد “.هذه الأماكن تُعكس حالة الشخصيات النفسية.
الأماكن المفتوحة )الرمزية( :تُمثل الأماكن المفتوحة أحيانًا الهروب، الحرية، أو البحث عن الراحة .
الشاطئ والبحر في قصة “قدر “يُشكلان ملاذًا للشخصية لتعبر عن حزنها.
الأماكن المقدسة والتاريخية :تظهر أماكن ذات دلالة روحية وتاريخية قوية، مثل الحسين في القاهرة والقدس وقبة الصخرة .هذه الأماكن تُضفي على القصص عمقًا ثقافيًا وروحانيًا، وتُربط الألم بقضايا الهوية والتراث والصمود.
القرى والمدن :تتنقل القصص بين أجواء المدن الصاخبة )القاهرة( والقرى الهادئة )قصة “براءة(“، مما يُظهر تباين الظروف والمعاناة الإنسانية في سياقات مختلفة.
الزمان:
المكان:
4-الحبكة
تعتمد المجموعة القصصية على حبكات مستقلة لكل قصة، ولكنها تشترك في كونها تتناول “الألم” كمحور أساسي. غالبًا ما تبدأ القصص بوضع راهن يُعكر صفوه حدث جلل )فقد، مرض، صراع(، يتصاعد معه الألم والصراع الداخلي أو الخارجي للشخصيات.
نقطة التحول :في كل قصة، هناك نقطة تحول حاسمة تُغير مجرى حياة الشخصيات، مثل نبأ الاستشهاد ، أو تشخيص المرض ، أو حادث السيارة.
التصاعد الدرامي :يتصاعد الصراع مع تفاقم الألم أو زيادة التحديات، وتُظهر الشخصيات ردود فعل متباينة )الاستسلام، المقاومة، البحث عن الخلاص.(
العقدة :تتمثل العقدة في ذروة الألم أو الصراع الذي تواجهه الشخصيات.
التفكك واللغز )في بعض القصص( :بعض القصص، مثل “درة التاج” و”الوافد الجديد”، تعتمد على حبكة غامضة أو لغزية، حيث يُكشف عن الحقائق تدريجياً، مما يُزيد من التشويق والرعب.
الخاتمة :تختلف الخواتيم بين القصص، فبعضها يحمل لمسة من الأمل أو التوبة، وبعضها الآخر ينتهي بالموت أو الاستسلام للألم.
5-النهايات
تتنوع الخواتيم في المجموعة القصصية، مما يعكس تباين وجوه “الألم” وتداعياته:
النهاية المأساوية/المفتوحة :بعض القصص تنتهي بموت الشخصية أو استمرار معاناتها، مما يترك القارئ مع شعور بالحسرة أو التساؤل عن المصير .على سبيل المثال، في قصة “اغتيال “حيث يتلاشى البشر، أو قصة “قربان” حيث تُصبح الفتاة ضحية للوشم الملعون.
النهاية التي تحمل بصيص أمل أو توبة :في بعض القصص، يُظهر الشخصيات تحولًا إيجابيًا أو إدراكًا جديدًا بعد المعاناة .في قصة “رزقت حياة”، تُدرك الزوجة قيمة أبنائها وتتوب .في قصة “آخر الزمان”، يُدرك الناس ضرورة اللجوء إلى الله في لحظات الكارثة.
النهاية الرمزية :بعض النهايات تكون رمزية، تترك للقارئ مساحة للتأمل والتفسير، مثل الجدة في قصة “في ظل الشجرة” التي تُوارى الثرى ولكن روحها ترد السلام.
النهاية الصمود :تبرز بعض الخواتيم فكرة الصمود والتحدي رغم الألم، كما في قصة “أضغاث آلام” حيث يعود ماهر ليكمل حياته بجانب حبيبته.
بشكل عام، تعكس النهايات فلسفة الكاتبة حول الألم، حيث إنه قد يكون مدمرًا، ولكنه قد يكون أيضًا دافعًا للتغير، أو الكشف عن الحقائق، أو حتى طريقًا للخلاص الروحي.
6ا-للغة والأسلوب
تتميز اللغة والأسلوب في المجموعة القصصية “في ظل الشجرة” بعدة جوانب:
اللغة العربية الفصحى :تُستخدم اللغة العربية الفصحى الواضحة، مع ميل نحو الفصاحة والأدبية في الوصف
والتعبير.
الصور البلاغية والمجازات :تزخر القصص بالصور البلاغية والمجازات التي تُضفي على النص عمقًا وتأثيرًا عاطفيًا .على سبيل المثال: “كبدر هبط من السماء “، “عيونها النازفة قهرًا “، “شياطين الذكريات”.
التفاصيل الحسية :تُركز الكاتبة على التفاصيل الحسية )البصرية، السمعية، الشمية( لإشراك القارئ وجعله يعيش التجربة .مثل وصف “رائحة جلدها المحترق “أو “رائحة الجاز النفاذة”.
التعبير عن المشاعر :تُجيد الكاتبة التعبير عن المشاعر الإنسانية المختلفة )الحزن، الشوق، الخوف، الغضب، الحب، الأمل( بصدق وعمق، مما يُمكن القارئ من التعاطف مع الشخصيات.
الأسلوب السردي المتنوع :يتنوع الأسلوب السردي بين الوصف، السرد المباشر، الحوار، والمونولوج الداخلي .
الوصف :يُستخدم الوصف بشكل غني لخلق الأجواء والشخصيات والأماكن.
المونولوج الداخلي :تُستخدم هذه التقنية للكشف عن أفكار الشخصيات ومشاعرها العميقة، كما في قصة “براءة” حيث تحدث أميرة نفسها.
o الحوار :تُوظف الحوارات للكشف عن الشخصيات ودوافعها وتطوير الحبكة.
التكرار الرمزي :تكرار بعض العبارات أو الأوصاف يُعزز الدلالات الرمزية، مثل تكرار “في ظل الشجرة” كعنوان لكل ألم.
الاستعارة والتشبيه :تُستخدم الاستعارات والتشبيهات بشكل فعال لتجسيد المعاني المجردة .على سبيل المثال: “دموعها حممًا “، “ذكريات كالرصاص تخترق عقلها”.
التدرج في عرض الألم :تُعرض القصص الألم بتدرج، حيث تبدأ بحدث صادم ثم تتكشف تداعياته النفسية والجسدية على الشخصيات.
بشكل عام، تجحت عبير سعد في خلق جو من التعاطف مع شخصياتها، وتُقدم رؤية عميقة لمعنى الألم في حياة البشر، مستخدمة لغة غنية وأسلوبًا أدبيًا يُثري التجربة القرائية.