رواية “ماذا بعد؟” لعادل جابر عرفة دراسة تفكيكية تحليلية
د. نجلاء نصير
تعتمد هذه الدراسة النقدية على آليات ما بعد الحداثة لفحص رواية “ماذا بعد؟” للكاتب عادل جابر عرفة، باعتبارها نصًا سرديًا يشتبك مع مفاهيم الذات، التفكك الاجتماعي، والاغتراب الوجودي. توظف الدراسة التحليل السيميائي للعنوان كبوابة تأويلية مركزية، إضافة إلى تحليل التعدد الصوتي، التفكك البنائي، واللعب الزمني واللغوي بوصفها استراتيجيات نصيّة ما بعد حداثية. وتسعى الدراسة لتبيان كيف يتقاطع السرد مع واقع اجتماعي مأزوم ومع خطاب أنثوي مقموع يحاول استعادة الصوت والهوية. مقدمة: ينتمي النص الروائي “ماذا بعد؟” إلى سياق سردي معاصر تهيمن عليه رؤية ما بعد الحداثة التي تُعلي من التشظي وتعددية المنظور وتُقوّض مركزية المعنى. يقدّم الكاتب بطلته (الراوية) كساردة مركزية تستعيد شريط حياتها عبر تداعيات الزمن النفسي لا الخطي، في محاولة لتفكيك التجربة من الداخل واستعادة الذات الأنثوية من سطوة المجتمع الأبوي والزوجي. أولًا: تحليل سيميائي للعنوان لتحليل عنوان رواية “ماذا بعد؟” للكاتب عادل جابر عرفة تحليلًا نقديًا يستند إلى آليات النقد الأدبي الحديث، سنستعين بمقاربات لغوية ونفسية وسيميائية وفلسفية تكشف دلالة هذا العنوان المفتوح وشحنته الرمزية: ✦ أولًا: البنية اللغوية للعنوان العنوان مكوَّن من كلمتين استفهاميتين: “ماذا” (اسم استفهام يدل على المجهول)، و**”بعد”** (ظرف زمان مفتوح على المستقبل). الجملة كاملة سؤال ناقص الجواب، لا يرتبط بشخص أو زمن أو سياق محدد، مما يُدخل القارئ مباشرة في أفق تأويلي مفتوح. علامات الترقيم، وخاصة علامة الاستفهام “؟”، تُمثّل جزءًا من العنوان ذاته، وتُعمّق من حالة القلق والتساؤل. تحليل لغوي: اللغة هنا ليست ناقلة فقط للمعنى، بل مولّدة له عبر الحذف، والغموض، والإبهام الذي يستفز التلقي. ✦ ثانيًا: التحليل السيميائي “ماذا بعد؟” يحمل طابعًا بنيويًا دائريًا: يبدأ بالسؤال ولا ينتهي بجواب. هو عنوان يُحاكي الحيرة الوجودية. يشير العنوان إلى لحظة انتقال أو مفترق طرق، سواء في حياة الشخصية أو المجتمع أو العالم الداخلي. الغياب هو ما يُميز العنوان: غياب الزمن، الفاعل، والمصير. تحليل سيميائي: العنوان يُنتج دلالاته من “الصمت”، من الفراغ بين ما كان وما سيكون، ويعيد تشكيل العلاقة بين القارئ والنص على أساس الترقب والتأويل ✦ ثالثًا: التحليل النفسي العنوان يعكس سؤالًا وجوديًا مأزومًا، ينطوي على: قلق المستقبل. الخوف من التكرار. الشك في الجدوى. يُمكن قراءته كتعبير عن تجربة إنسانية داخلية تمر بها البطلة “ناهد” كما ورد في فصول الرواية: من الانتقال من بيت الأسرة إلى زواج غير سعيد، ثم اغتراب، فأمومة، فخذلان، ثم مواجهة المصير. التحليل نفسي: “ماذا بعد؟” هو سؤال الذات حين تصل إلى نقطة الانكسار وتبحث عن أفق بديل للحياة. ✦ رابعًا: الدلالة الفلسفية للعنوان يتقاطع العنوان مع مفاهيم فلسفية مثل: العبث (ألبير كامو): حيث لا معنى ثابت، والسؤال يبقى دون إجابة. الزمان الوجودي (هيدغر): “ماذا بعد؟” يضع الإنسان في صلب الزمن ككائن قلق. التمرد الصامت: رفض الاستسلام لما هو كائن دون أن نمتلك إجابة لما سيكون. التحليل فلسفي: العنوان لا يطرح فقط سؤال “الحدث القادم”، بل يعيد تشكيل فكرة الزمن بوصفه اختبارًا للمعنى. ✦ خامسًا: تكامل العنوان مع مضمون الرواية الرواية تحكي تجربة امرأة واحدة (ناهد) لكنها ترمز لتجارب جماعية نسوية ومجتمعية. السرد يقوم على مفاصل وجودية: ماذا بعد الزواج؟ ماذا بعد الاغتراب؟ ماذا بعد الأمومة؟ ماذا بعد الموت؟ وهكذا يتحول العنوان إلى سؤال بنيوي يتكرر في كل مرحلة من مراحل الرواية. يشكل كل العنوان “ماذا بعد؟” وحدة دلالية مفتوحة تُجسّد جوهر الكتابة ما بعد الحداثية؛ فالسؤال لا يحمل دلالة يقينية، بل يعكس القلق الوجودي، وحالة الانتظار المعلّق، واللايقين المستمر. هو عنوان استفهامي، ينهض على بنية الفراغ، ويُسائل المصير، ويدعو القارئ إلى ملء الفراغ التأويلي بنفسه، مما يجعله “علامة ناقصة” تحتاج اكتمالها في المتن. إليك تحليلًا نقديًا للإهداء في رواية “ماذا بعد؟” لعادل جابر عرفة، باستخدام مداخل نفسية وسيميائية وشعرية: الإهداء: “إلى الأحفاد مالك وعائشة، أنتما من أعاد النبض إلى قلبي بعد مشيب الروح والجسد… فأنتما لي الربيع بعطره، ونسيم البحر في الصيف الحار، سأظل أهديكما أعمالي كافة، فأنتما الحبر للقلم، والنغم للحروف، والعطر للعبارات.” 1 -الوظيفة النفسية للإهداء الإهداء في جوهره بُوح وجداني مكثّف، يصدر عن ذاتٍ كاتبة تستعيد معنى الحياة من خلال امتدادها الطبيعي: الأحفاد. ثنائية المشيب والبعث: يُقابل “مشيب الروح والجسد” بـ”الربيع” و”النسيم”، في تلاعب شعري يعبّر عن تجدّد الأمل وسط شعور بالانطفاء الوجودي. النفس المتكلمة في الإهداء تشعر أنها تجاوزت دور الكاتب إلى دور الجد الحالم، ما يُظهر مدى انخراط الكاتب عاطفيًا في فعل الكتابة كاستمرار روحي. 2- السيمياء الرمزية للإهداء استخدام الصور المجازية مثل: “الربيع بعطره” = رمز للبدايات المتجددة. “نسيم البحر” = رمز للراحة والسكينة وسط الحرارة/الضيق. “الحبر للقلم / النغم للحروف / العطر للعبارات” = تثبيت الأحفاد في بنية الكتابة نفسها، كأنهم جزء من النص لا من الحياة فقط. هذا الإهداء لا يكتفي بالإشارة إلى المخاطب، بل يحوّله إلى مكوّن فيزيائي داخل النص، مما يمنح الإهداء طابعًا استعاريًا وجوديًا. 3- العلاقة بين الإهداء ومحتوى الرواية رواية “ماذا بعد؟” تتحدث عن حياة امرأة تمزقها التحولات والأسئلة الكبرى. وهنا يظهر الإهداء كمضاد نفسي لمحتوى الرواية الحائر. فبينما تسأل الرواية “ماذا بعد؟”، يُجيب الإهداء: بعد الألم يأتي الامتداد، يأتي الحفيد، ويأتي الدفء. الإهداء يوفّر للنص بُعدًا دائريًا: الحكاية تدور حول فقد المعنى، والإهداء يقدّم بذرة جديدة للمعنى. 4 -الوظيفة الشعرية للإهداء الإهداء لا يُكتب بلغة تقريرية، بل بلغة مجازية شاعرية، فيها من البلاغة والاستعارة ما يجعلها تصلح كنص موازٍ مستقل. هذا ينسجم مع تقاليد ما يُعرف بـ”المدخل الأدبي” للنصوص، حيث يكون الإهداء بمثابة تأشير شعري على مضمون الرواية. إهداء رواية “ماذا بعد؟” لا يؤدي وظيفة شكلية فقط، بل هو جزء من البنية الشعورية للنص. إنه لحظة صدق حميمي، تؤسس لتوتر وجودي بين مشيب الذات وتجدد الحياة، بين سؤال الرواية و”جواب القلب”. يستبطن الإهداء موقفًا فلسفيًا من الزمن والكتابة والورثة: فالحفيد ليس امتدادًا بيولوجيًا فحسب، بل امتداد لغوي وفني. ثانيًا: التفكيك البنيوي وتعدد الأصوات تعتمد الرواية على تعددية الأصوات (polyphony)، إذ تُكتب من خلال منظور داخلي واحد ظاهريًا (بطلة الرواية)، لكن السرد يحتشد بأصوات مجتمعية وثقافية متعددة: الأب، الأم، الزوج، الصديقات، الجارات، المجتمع، وحتى الأصوات الداخلية للبطلة. يتم تفكيك المركز السردي لصالح التعدد والانقسام، كما ترفض الرواية النموذج التقليدي للبطلة الخيّرة أو المظلومة، بل تعرضها بشريّة، مرتابة، قابلة للانكسار والتناقض. ثالثًا: التقطيع الزمني وتفكيك الحبكة يتبدّى الحس ما بعد الحداثي بوضوح في تفكيك البناء الكلاسيكي للحبكة؛ فالرواية لا تسير وفق خط سردي واحد، بل تنتقل بين الحاضر والماضي، الحلم والواقع، والداخل والخارج، بطريقة تنسجم مع التداعي النفسي والتذكر غير المنتظم. لا نجد ذروة درامية تقليدية، بل سردًا مفتوحًا على الاحتمال والتأويل، يعكس فوضى الحياة وتبعثر الذات. رابعًا: خطاب النوع والأنثوية في مواجهة الهيمنة تُعد الرواية استعادة جذرية للصوت الأنثوي في مجتمع سلطوي، وتطرح أسئلة متداخلة حول الجسد، العاطفة، الحرية، والقهر. البطلة لا تُقدَّم كضحية سلبية، بل كذات تُسائل، تندد، تتراجع، ثم تُعيد التشكّل. وهذا الشكل من التمثيل للمرأة يتوافق مع النقد النسوي ما بعد الحداثي الذي لا يبحث عن “بطلات إيجابيات” بل عن ذوات مقاومة ومتعددة. أولًا: بنية الحبكة وتطورها -بنية خطية نفسية قائمة على التحول الحبكة في الرواية تُبنى حول شخصية محورية (ناهد) تتعرض لتحولات حياتية متعددة: من الفتاة الحالمة، إلى الزوجة المغتربة، إلى الأم، إلى المرأة المهزومة التي تكتب لتتجاوز حيرتها. الحبكة لا تعتمد على الإثارة أو المفاجآت، بل على التحولات النفسية الداخلية، في تسلسل زمني يمتد من المراهقة حتى مراحل النضج والخذلان، مع قفزات استرجاعية تحركها المذكرات والمواقف الحياتية. ثانيًا: مراحل الحبكة بالأمثلة 1- البداية – السؤال الكامن الراوية تبدأ منذ اللحظة الأولى وهي تسأل نفسها: “وماذا بعد؟! عن السؤال الذي لازمني طويلًا… لعلي يومًا أستطيع الإجابة” هذه الجملة تضع القارئ في قلب الإشكال الوجودي، وتكشف أن الرواية هي تطور بطيء لإجابة متعذرة. 2- الصراع – التمزق بين الأدوار ناهد تواجه صراعات عاطفية واجتماعية مركبة: بين الواجب الشخصي والواجب العائلي، بين الرغبة في الحب وبين الحفاظ على الكرامة. تقول: “لا أعرف ماذا أفعل؟ حائرة، ولا يمكنني أن أعترف لأحد” يُبرز هذا الاقتباس التمزق الداخلي النفسي، والذي يشكل جوهر الحبكة، ويقود كل تحركات الشخصية. 3- التحول – قراءة مذكرات الأم نقطة التحول تبدأ عندما تقع البطلة على مذكرات والدتها، حيث تقول: “سقطت عبراتي فوق مذكرات أمي… دفعني الفضول لقراءتها” وهذه اللحظة تُفعّل خطًا سرديًا مزدوجًا: حكاية الأم تقابل حكاية الابنة، مما يجعل الحبكة مرآة أجيال. ثالثًا: تحليل تكرار العبارة المركزية “ماذا بعد؟” تم رصد العبارة “ماذا بعد؟”: عدد مرات التكرار سبع مرات في سياقات متعددة. كل تكرار يأتي عقب لحظة انكسار أو مواجهة مصيرية. تتكرر الجملة بصيغ متعددة أحيانًا ضمنية (مثل: لا أعرف ما الذي سيحدث)، لكنها غالبًا واضحة: “ماذا بعد؟! هل أستطيع المضي قدمًا؟” “ظل السؤال يرافقني حتى في لحظات الفرح العابرة” الوظيفة الدرامية: العبارة تعمل كـ”خيط حبكة داخلي” يربط الفصول ويؤكد الطابع الحائر المفتوح للنص. فالحبكة في رواية “ماذا بعد؟” لا تقتفي أثر العقد والحلول بالمعنى التقليدي، بل تتأسس على تدفق وجداني داخلي، يتكشّف عبر مراحل من التذكر والخذلان والأسئلة. السؤال “ماذا بعد؟” لا يُجاب عليه، بل يتحول إلى نداء داخلي دائم، يجعل من الرواية تجربة شعورية مفتوحة تتجاوز القصة إلى التأمل. سادسًا: اللغة والتقنية السردية توظف الرواية لغة مشحونة بالعاطفة، لكنها خالية من الزخرفة، وتقترب من شَعرنة اليوميات. كما تعتمد على الحوارات الداخلية والمونولوجات الطويلة التي تخلق حالة من التواطؤ العاطفي بين القارئ والشخصية الساردة. تستخدم الرواية أيضًا التناصات غير المباشرة مع السينما، والأدب الرومانسي، وأدب الرحلة، مما يعكس انفتاح النص على عوالم متعددة. سابعا : تحليل النهاية نهاية دائرية مفتوحة الرواية تنتهي دون إجابة واضحة، بل بامتداد لصوت السؤال: “صوت أمي يتردد داخلي، وصوتي يكرره: ماذا بعد؟” هنا النهاية لا تُغلق القوس، بل تُعيد فتحه بصيغة شبه وجودية. القارئ يُترك في مواجهة الحيرة ذاتها التي عاشتها البطلة. وظيفة النهاية: تُكرّس اللاحسم كأفق فلسفي للرواية. تُعيد القارئ إلى لحظة البداية، مما يجعل البنية دائرية. تُعزز من مركزية المرأة/الذات/الزمن بوصفهم أطراف معادلة مستحيلة التوازن. ومجمل القول إنّ:رواية “ماذا بعد؟” ليست مجرد سيرة ذاتية لبطلة منكسرة، بل هي تفكيك سردي لواقع اجتماعي وثقافي مأزوم، تكتبه ذات أنثوية تحاول استعادة حريتها من خلال اللغة. وتأتي أهميتها من كونها تقدم نصًا غير مكتمل، مفتوحًا، يحتفي بالتشظي بوصفه وسيلة للخلاص لا علامة على الانهيار، مما يجعلها نموذجًا لكتابة ما بعد الحداثة في الرواية النسوية العربية.