* أمينة عباس
يجمع النقاد على أن الشاعرة الراحلة سنية صالح التي ولِدت في مثل هذه الأيام من عام 1935بمدينة مصياف-محافظة حماة-صوت شعري متفرد في إطار قصيدة النثر العربية ومن أعذب التجارب الشعرية العربية وأكثرها فرادة وصدقية، لذلك بقيت قصائدها حية وستظل لأنها منبثقة من المادة الحية للوجود، قصيدة ذات أفق إنساني وقد قال عنها أدونيس: “لا أبالغ إن قلت إنّ سنية صالح قد تكون أهم شاعرة عربية في السنوات الخمسين الأخيرة” ومع هذا وبشهادة كل النقاد لم تأخذ حقها وهي التي كانت ميالة إلى الخفر والتواضع والابتعاد عن النجومية والترويج الإعلامي، فكانت دائماً في الظل بالرغم من فرادة قصيدتها وحداثتها ورؤاها الفلسفية التي عمّقتها على مدار دواوينها الأربعة “الزمان الضيق، حبر الإعدام، قصائد، ذكر الورد”.
حزن دفين
عاشت سنية صالح حياة يلفها الحزن من جميع الجهات، فقد ولِدت لأبوين عائدين من دفن ابنهما الوحيد، وفي عامها الثالث فقدت أمها حاسة السمع وهذا ما جعلها تقتصر في كلامها، حتى أن شقيقتها الناقدة والكاتبة خالدة سعيد تقول في مقدمتها للأعمال الشعرية الكاملة لسنية صالح: “لا أكاد أذكر من كلامها في تلك السنوات الأولى إلا ما يعبر عن حاجة.. كان موت الأم هو الفجيعة الأولى التي فتحت باب الحزن في حياة سنية التي واجهت ذلك بالصمت والانطواء على جرحها السري الذي تتحاشى الإشارة إليه، لكن صمتها لم يكن صمتاً خالياً مقفراً، بل كان ينحني على أسراره وآلامه وأخيلته”.. تقول سنية صالح: “في طفولتي لم أكن أحلم إلا بالموت وبأشياء مخيفة، فكنت لا أشعر بالاطمئنان إلا في سرير أبي وفي حضنه.. كنت أحدّثه عن أحلامي فيقول لي حاولي أن تفكري بالغابات الخضراء والأشجار العالية حيث العصافير تغرد.. وعبثاً كنتُ أحاول رؤية تلك الغابات في أحلامي، وكنت أخاف أن أنام فينام قلبي”.
أعجز من أن تغير العالم
كانت سنية صالح تكتب الشعر على هوامش كتبها المدرسية دون أن تهتم بالاحتفاظ بالنصوص أو عرضها على أحد، ولم تكن تعتبر المسألة أكثر من خربشة عفوية شخصية ولدَت نتيجة إحساسها العميق بالأشياء، إلى أن شاركت -بحكم وجودها في لبنان التي كانت تدرس فيها الأدب الإنكليزي- بمسابقة مجلة “شعر” وحصول قصيدتها “جسد السماء” على الجائزة عام 1961 ووصفت حينها لجنة المسابقة القصيدة الفائزة بأنها يتيمة من يتيمات الشعر الحديث، ليس لها أب فارع ولا نسب، أي أنها كانت من خارج التيارات الجديدة والموروث الشعري، وكانت هذه الجائزة إعلاناً عن ميلاد الحياة الشعرية الحقيقية لها وانطلاقتها المدوية التي وضعتها في قلب الساحة الشعرية وسط مجموعة من الشعراء آنذاك بصوتها الشعري المتفرد وألمها الشخصي: ”لا صوت لي ولا أغان.. خلعتُ صوتي على وطن الرياح والشجر، وما من أغنية تضيء ظلمات الأعماق، لكن الأصداء تدق صدر الليل، فأنام في صدري” وفي أول تصريح لها بعد نيلها الجائزة قالت بعد أن سُئلت”ما طموحك الشعري؟”: “ليس لي أي طموح من أي نوع كان.. أنا أعجز من أن أغير العالم أو أجمّله أو أهدمه أو أبنيه كما يقول بعض الشعراء.. أحس أنني كمن يتكلم في الحلم.. ماذا يؤثر في العالم الكلام في الحلم؟ باختصار ليس لي أي طموح من أي نوع كان.. فقط أسترخي وأترك زحام العالم يتدافعني كشيء صغير جداً لا وجود له، وأحتفظ لنفسي بحرية الحلم والثرثرة”.
صالح والماغوط
في بيت الشاعر أدونيس زوج شقيقتها خالدة سعيدة اندلع الحب بين سنية صالح الشاعرة الرقيقة الخجولة والشاعر محمد الماغوط البدوي الأحمر الحادّ صاحب الأمزجة المتقلبة، وقد اعترف حينها لأختها: “أروع ما في سنية روحها.. أستطيع أن أراها تماماً كما أرى قطرة المطر وراء الزّجاج كما أرى الطائر بين الأغصان” أما هي وفي حوار أجرته معها مجلة الحسناء عام 1980، أعلنت أنها: “أحبّت الماغوط بعنف وصدق وإخلاص لا مثيل له، لقد غزاني بالشعر في وقت لم يكن يملك فيه إلاّ الشعر” وحين تزوجا كانت شهرة الماغوط مدوية فيما كانت سنية صالح تكتب وتنشر بصمت مطبق، فكان هو يزداد حضوراً وهي تزداد خفوتاً وتعيش حياة مضطربة معه، فيها الكثير من الحدة والعنف إلى جانب الحنان والحب، وقد عانت من سوء التفاهم المزمن بينهما ومن قسوته وظلمه لها بتقلبات مزاجه والطعن بشِعرها الذي خاطبت به المرأة وعذاباتها: “ألا تشعرين بتأنيب الضمير وأنت تكتبين بمعزل عن قضايا أكثر أهمية وإلحاحاً من عذاب امرأة غير متآلفة مع بيئتها؟” وقد حاولت سنيّة صالح ترويض شراسة البدوي الأحمر دون جدوى فخاطبته في إحدى قصائدها: “إنك من الزرنيخ يا سيدي.. أفتح فمي كل صباح وأبتلع جزءاً فيك ولم تنته” ومع هذا عاشت فخورة بأعماله ومؤمنة بمكانته الأدبية فيما لم يبادلها هو ذلك الإعجاب كما تشير كتابات تناولت حياتهما، تقول سعيد واصفة علاقة شقيقتها بالماغوط والتضحيات التي قدمتها إلى جانبه: “سالبان لا يصنعان زواجاً ناجحاً” فيما يعترف محمد الماغوط أنه في حياته كلها لم يتفق معها: “نحن من عالمين مختلفين رغم التشابه.. لم تأخذ حقها نقدياً.. ربما آذاها اسمي، فقد طغى على حضورها.. كانت شاعرة كبيرة.. في كل قصائدها تبدو زهرة عارية إلا من عطرها وعمرها القصير، تبحث وسط عري الكتب والأشخاص والأيام عن ربيع ما، ربيع ضائع قد لا يأتي أبداً.. تبدو قصائدها وسط اللطخ الفكرية والسياسية والاجتماعية التي تغطي العالم العربي بيضاء ناصعة كثياب الراهبات”.
وحدها في السماء
اكتملت حياة سنية صالح التراجيدية بإصابتها بمرض السرطان الذي عانت منه كثيراً، وحين رحلت كتب الماغوط مرثية مليئة بالندم والحزن ضمَّنها في مؤلفه “سياف الزهور” وصفت بأنها من أفضل المراثي الأدبية في العصر الحديث، تحدث فيها عن قسوته وظلمه لها كامرأة وشاعرة عانت كثيراً من أجل حياتهما معاً، وأنها كانت حبه الوحيد، وقد عاشت معه ظروفاً صعبة، لكنها ظلت على الدوام أكبر من مدينة، وأكبر من كون، وكان رأيها أساسياً بما يكتب، فإذا كتب شيئاً وترددت أمامه ولو للحظة كان يمزقه ويعيد كتابته من جديد، أما إذا قالت “جميل” فكان يشعر باطمئنان.. لقد كانت قارئته الأولى ومعلمته الأولى في الشعر والحياة، وحين كانت مريضة جلس بقربها وهي على فراش الموت يقبّل قدميها المثقوبتين من كثرة الإبر، فقالت له: “أنت أنبل إنسان في العالم” وحين رحلت قال: ”ثلاثون سنة وأنتِ تحملينني على ظهركِ كالجندي الجريح، وأنا لم أستطع أن أحملك بضع خطوات إلى قبرك.. أزوره متثاقلاً، وأعود متثاقلاً لأنني لم أكن في حياتي كلها وفياً أو مبالياً بحبّ أو بطولة”.. وعلى شاهدة قبرها كتب: “هنا ترقد الشاعرة سنية صالح آخر طفلة في العالم” وكان يقول: ”حزني عليها لا أعرضه في المقاهي والشوارع.. إنه إحساس شخصي جداً ومدفون في الأعماق دون شاهدة.. سنية هي المرأة في كل ما كتبت.. كانت كعروق الذهب في الأرض.. كل النساء من بعدها نجوم تمرّ وتنطفئ وهي وحدها في السماء”.
مشبعة بالحساسية
وصفها الشاعر ممدوح عدوان بأدق وصف حين قال: “سنية صالح امرأة مشبعة بالحساسية وموشكة دائماً على البكاء.. توشك أن تبكي حناناً، وتوشك أن تبكي وحشةً، وتوشك أن تبكي غضباً، وتوشك أن تبكي حكمةً وحباً للطبيعة وخوفاً عليها، والأمر الذي يبعدها قليلاً عن البكاء هو المرض الذي يشدُّها نحو الموت”.. في حين تقول أختها الناقدة خالدة سعيد: “في شعر سنية صالح عالم معطوب ورؤيا جامحة وفوران سديم وأحشاء غاضبة وخيال طفولي.. إنها من هؤلاء الشعراء الذين يتعاملون مع الشعر كالأمومة، فعل وجود، وهي ألقت بكيانها في الشعر، فكان حربها وصراخ جسدها وروحها، وكان ثأرها وخشبة الخلاص.. هو شعر على حدة لا يشبه أحداً وليس منضوياً في تيار”.وفي تقديمها للأعمال الكاملة الصادرة عن وزارة الثقافة كتبت سعيد تحت عنوان الشعر فخ الأمل: “سنية صالح من الشعراء الذين علقوا الخط الفاصل بين مستوى الشعر ومستوى الحياة، مع ذلك لا يمكن أن نعرف شعرها، استناداً إلى حياتها، ولا نقدر أن نكتب حياتها، انطلاقا من شعرها، مهما كانت الوشائج بين المستويين، لأن لسنية صالح كيمياؤها الشعرية الخاصة شأن الشعراء الحقيقيين”.
“ذكر الورد”
كتبت صالح ديوانها الأخير “ذكر الورد” وهي على سرير الاحتضار بين باريس ودمشق، وكانت قصائده من أكثر قصائد الشعر العربي صدقاً وتعبيراً عن الألم: ”لا تُخــرجني من وكري عنوة أيها الشتاء، فقبل أن أنحني لك تكون قد طعنتَني ولم يبق في داخلي إلا ممــر طويل للنفايات يعبره العالم الخارجي، لذا أسـوق باطــني بعصاي وأعود إلى نقطة لا تطالها الجهات”.. وفي مقدمة هذا الديوان الذي صدر بعد وفاتها تحدثت صالح عن استراتيجيتها الشعرية: “عندما تحضر الحمّى الشعرية أخفف من حدة يقظتي وأستسلم، ألغي مقاومتي لأعماقي إلى أقصى حد ممكن، تلي ذلك عملية تدفق داخلية، ترافقها عملية استسلام في الإرادة والحواس، ثم أدوّن ما أحصل عليه في مرحلة الهذيان هذه”.
سنية صالح
توفيت عام 1985 بعد رحلة علاج طويلة من مرض السرطان، أصدرت أربع مجموعات شعرية “الزمان الضيق، حبر الإعدام، قصائد، ذكر الورد، كما أصدرت مجموعة قصصية حملت عنوان “الغبار” فازت بجوائز منها: جائزة مجلة “حواء” للقصة القصيرة 1964وجائزة مجلة “الحسناء” للشعر 1967.
*-جريدة البعث 26-أبريل-2023