إكرام… نذل
الى
رعاع الصدفة
…….
في مقام التوصيف
لا…. الذم
……………
لا أدري لماذا قادني العنوان الى مقاربة شكلية ومضمونية مع رواية ” عرس بغل ” للروائي الطاهر وطار ، ولكني بعد أن رجعت بذاكرتي لرواية وطار وجدت ان ” اللاوعي ” قد قادني الى ما كنت اقصده تماما ، لأن روايته كانت تتحدث عن ” معاناة العاهرات في حاضرَهُنّ الموصوم بالعار، ويكونُ الجسَد هو السبب المباشِر في هذا العار.. لكن في ذات الوقت يصبح سببًا مباشِرًا في تأسيس سلطتهنّ المؤقتَة على مجتمع الذكور المترددين على الماخور”
وهكذا فالكلمة ايضا شرف ومسؤولية ، حين تكون في حضرة الجمال والابداع والسمو الروحي. الكلمة جسد وروح وضمير ، لا تصبح سلعة يكون ناطقها ” بائعا ومبيوعا ” في سوق الحياة .
وهي محنة الكائنات التي اعتاشت على مواخير الشهرة في زمن مائع لا طعم له ولا رائحة ولا قامة وسمو ، كائنات باعت الكلمة ” كعواهر العصر ” لكي تتكسب منها موقعا ووجاهة وحضورا أصفر .
وفي الذاكرة الجمعية البشرية ، تحضر حكمة الأمثال والأقوال والأشعار لتوصيف حال هذه الكائنات المسمومة والمجبولة على نكران الجميل ، ومصابة بداء الكلبية النابحة والغرابية الناعقة ، والمصطفه في سرب الحمام ” تقيّة ونفاقا ” .
والحياة دروس ، ولكن العبرة في عبور النهر مرة واحدة ، كما قال هيراقلطس ، او في حكمة ” المرء لا يلدغ من جحر مرتين ” ..
وسوف اذهب الى توصيف الفعل كظاهرة اجتماعية ، ليس مرتبطة بنمط بشري مخصوص بل ظاهرة للعبيد واصحاب الأقنعة في كل العصور .
في ديوان العرب اشارات مهمة الى هذا النمط السلوكي الجاحد للفضل والخير ، ماديا او معنويا ، ولعل من اجمل ما قيل من شعر في هذا الاتجاه هو بيت شعري جاء في الصميم :
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
وصفة اللؤم في العربية تحيل الى شحة المرؤة والحياء ، واستعلاء النذالة والوقاحة والدناءة والنقص ، وسيادتهما في زمن مختل الموازين ، ومصاب بداء ” الحول والعور والتخفي ” .
ولعل من نافلة القول ان حكمة الآباء تشير الى اقتران الصفات والافعال ، إذ كان ابي يقول : البخيل جبان والسخي شجاع ، وهو لا يعني البعد المادي فقط ، بل الى استعارة ذكية ، لسخاء المال والموقف ، وبالاعتراف بالفضل لأهله .
ولكن ” النذل ” او النذالة صفة ” تعيش في مستنقعات النفس السوداء وغابة الروح وجهالة العقل ، لذا يأبى الأدنياء إلا ان يكونوا حاضرين في الاضواء لحظة خروجهم المسرحي الى الضوء من عتمات روحهم وسموم نواياهم .
يجلس النذل على مائدة الكرماء ، لا لإعلان الشكر في اقل تقدير ، ولكنه يحمل سلّة نوايا ، يُقشر بها المشهد الجمالي ويُلطخه بسواد روحه ، ووساخة عقله ، ويدوفه بقيء افكاره ، ليخرج بخلطة سٌميّة قاتلة ، للخير وأهله ، على مقدار تصوره وقصوره ورضا لغروره فقط .
يعتقد الأنذال ، ان حضورهم بكرم الآخر وتصدره الصفوف بحياء المُضيف ، يجعلهم في خانة الأوصياء والمبجلين ،.
يجلسون عابسين ، تقلقهم كل لحظة جمال ، ينتظرون دورهم في اعتلاء المنصة ، ليقروأ وصايا مُجعدة في محفل البهاء والجمال ، يرفعون سبابتهم مع طبقة صوت مأجوره لجميع المناسبات ،فهم سمسارة في سوق الكلام ، يعلنون عن بضاعتهم لطوابير الباحثين عن لذة عابرة .
والأكيد ان هذا ” اللُئم ، والجحود ، المتخفي بثياب الحمل ” قد يفضحه الخطاب ويتحقق ما لم يكن يعرفوه ، عندما قال سقراط :
“تكلم كي أراك ”
وحين تنكشفت سوؤة الخطاب ، في تجهيل اهل الفضل له ، لا كرامة ولا اعترافا بمكانه لان يكون على مائدة الجمال ، ولكنهم جاوؤا من ثقب حكمة ” الف عين لأجل عين تُكرمون ”
فجاء للعرس حاملاً قارورة ماء عكرالحياء مُداف بدم العار ، ليكمل دوره في المشهد ، ويوليّ الأدبار الى كهوف نفسه وجهالة عقله وخسّة طبعه ، ليعلن انه جاء من ” كوكبنا” المليء بالمحبة برسالته ، أو ” عبوته الناسفة” لأهل الخير ، ممن كرموه ووضعوه تحت شمس قلوبهم العامرة بالبهاء والجمال .
مهمتهم رفع منسوب السم نوايا ، ولكنه معجون بعسل الكلمات !!
ولكن الفضل يعرف أهله ، وله ألسنة تنطق ، وللحق أجنحة تُبطلُ عبوة الجحود الناسفة ، يضطرهم عنوّة على تغيير القناع ليرمموا فحيحهم بميوعه خطاب ناعم ، ولكن ” لات ساعة ندم ” .
ومن صمت أولياء العزم ، كان لوثة الصامت عن الحق .. والمتلطخ في جرح الجمال .
ولأننا اصحاب مشاريع ضاربة في عمق المصداقية والشفافية والجمالية ، وشهدَ لنا القاصي والداني ، فلن يكون خطاب الأدعياء مدعاة لتوكيد اي صفة لوجودهم سوى مقولة ” العفو عند المقدرة” ..
فما زال المعروف عند أهله ، وقافلتنا تسير مع نباح الكلاب ولدغات الأفاعي ، نرتدي الجمال رسالة والمحبة دينا ، ولاشك ان درس الأفاعي سيمر كزوبعة في كأس نشوتنا في تحقيق عرسنا الجمالي لا يسع لغير الحالمين بالحياة والسلام والجمال والابداع .
وسنبقى صنّاع الجمال والكبرياء والفن.
ونتذكر مقولة السيد المسيح كلافتة حمراء ودليل وجود الكائن في مراجعته لذاته حيث قال :
ماذا ينتفع الانسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه ” “؟؟
هكذا نربح الخاتمة وحسن الطريق الى فضاءات البهاء والجمال والسمو .
ولهم عهر الزمن الأملس ، ستبقى الكلمة شرف ، والموقع تابوت ينتظر مدافن ومزابل التاريخ .