حوار مع الروائي الكبير فؤاد التكرلي.. حاورته الناقدة فاطمة المحسن

شارك مع أصدقائك

Loading

 

 

الناقدة فاطمة المحسن

 

 

لطالما جرت بيني وبين فؤاد التكرلي حوارات حول القصة والأدب ولم أحاول نشرها، لأنها دائماً كانت معلّقة وتحتاج إلى استكمال. التكرلي من الكتاب الصامتين، وإنْ تكلم فباختصار شديد. هدوؤه وكياسته وتواضعه دون تصنع، تدفع إلى التصور بأن الروايات والقصص التي خرجت من بين يديه مجرد رياضة ذهنية تبعد عنه التصادم مع الحياة. فهو لا يحمل حساً تراجيدياً ازاء الأحداث وما اشتكى من أزمة على رغم معاناة أبطاله أزمات نفسية ومعاشية، بل وجودية. ولعله من بين الشخصيات الثقافية العراقية القليلة التي لم تتصادم مع السلطات وما تورطت مع الأحزاب التي تناحرت في العراق عبر المثقفين والثقافة.

ولد التكرلي في محلة باب الشيخ، قرب الطاق، وهو من بقايا بغداد القديمة، ومقابل ضريح الكيلاني، نشأ  لعائلة قضاة، ومارس هذه المهنة التي دفعته إلى إشكالية مع عدد من المثقفين الشيوعيين الذين مثلوا أمامه بتهم سياسية، وكان أمامه حد المحافظة على حرفية المهنة وحرية الزميل أو الصديق الذي يحاكمه. هذه الأحداث تنطوي على جانب تراجيدي في قصة العراق الثقافي، ولكن التكرلي خرج منها دون خسائر، فهو من بين أكثر المثقفين العراقيين الذي يشعرك بالبعد الإنساني لوجوده الودود المسالم الذي لا يضمر الأذى أو يحمل ضغينة…

التكرلي جايل السياب والبياتي وكان الأخير من بين أفراد مجموعته الثقافية الصغيرة في الخمسينيات، ولعل قصته مع البياتي ومع موجة الشعر الحر تحدد بعض أسباب اختياره القصة، ومن هنا بدأ حوارنا في اللقاء الأخير معه، في احتفاء المدى الثقافي به قبل فتر ة قصيرة من رحيله العام .٢٠٠٧..

: لابد لكل كاتب عربي أن يمر بمرحلة نظم الشعر في حياته الأولى، فهو الأبجدية الأولى للكتابة. هل بدأت أول اختباراتك من هذه البداية؟

  • أبداً لم أحاول يوماً كتابة قصيدة أو حتى بيت شعري، على رغم ارتباطي بعلاقات صداقة مع مجموعة من الشعراء خلال مراحل دراسية مختلفة، وكانت الثقافة العراقية تعنى بالشعر قبل كل شيء. بدأت أول مرة محاولة كتابة للقصة في الأربعينيات وكان وقتها عبدالملك نوري ينشر قصصاً فنية في مجلة “الفكر الحديث” لجميل حمودي، ويحاول في المجال النظري لهذا الفن، أي ماذا تعني القصة وكيف ينبغي أن تُكتب. كنت أنا أكتب ولا أعرض أعمالي على الآخرين، معتزاً بها ولا يخيفني الانطباع عنها، وأتخيل أن همي كان منذ البداية كتابة قصة فنية مختلفة عما يُكتب، ولا يهمني إنْ أُعتبرت تلك بداية أو لم تُعتبر. نهاية الأربعينيات وتحديداً 1949التقيت بعبدالملك نوري وربطتني به صداقة عمر نادرة. كان لدي منهج واضح في الكتابة يهتم باللغة والحوار والتقنية الفنية، ولهذا حدث تقارب بيني وبينه قام على الاهتمامات المشتركة…

: عاصرت موجة الشعر الحر، كيف نظرت إلى شعرائها وهل ربطتك بهم صداقة؟

  • :كنت أنظر إليهم بود، ولم التق ببدر شاكر السياب إلا مرات قليلة، كذلك نازك الملائكة، وكان البياتي صديق طفولة. ولكن كنت وما زلت مؤمناً بأن موجة الشعر الحر في العراق محض حركة مفتعلة ولم تأت بجديد، وكل ما أحرزته من تمجيد في العالم العربي سببه الدعاية فقط وطريقتهم في الإعلان عن أنفسهم. موجات الحداثة في الشعر سبقتهم إليها مدارس في مصر ولبنان وهم تلقفوها وحاولوا إعادة إنتاجها على نحو معاصر، ونجاح السياب والبياتي سببه ركوبهم موجات السياسة .

: إذن أنت ترى أن تلك الموجة بالطريقة التي استقبلها الوسط الثقافي العربي، حجبت القصة القصيرة العراقية ومنعتها من الانتشار عربيا؟

  • : نعم القصة العراقية القصيرة كانت تؤسس لموجة حداثة غير مسبوقة في العالم العربي وليس في العراق، ولكن قلة من النقّاد من التفت اليها، لأن الثقافة العربية تحتفي بالشعر. كانت الدعاية وراء انتشار موجة الشعر الحر العراقي فدخل روادها في حملة ترويج لأنفسهم حتى صدقوا كل ما كُتب عنهم. إلى اليوم أنا غير مصدق الخبر الذي قرأته عن البياتي عند زيارته اليمن الجنوبي، فقد استقبلته الحشود، حتى قيل وقتها ان نصف الشعب اليمني خرج لاستقباله.

: ولكن شهرة البياتي والسياب بسبب ما قدموه من تصور و منطق وحساسية جديدة في الشعر

  • : نعم أنا لا أقلل من شاعريتهم، ولكنهم ركبوا الموجة اليسارية، وبعد اختفاء الملائكة وموت السياب خلا الجو للبياتي فأصبح شاعر اليسار.

: كان وراء شهرة البياتي الأولى الناقد الأشهر في العراق وقتها نهاد التكرلي أخوك، أليس كذلك؟

  • : نعم ولكن تلك قضية تكمن خلفها قصة أقرب إلى خيانة الأصدقاء. كان عبدالوهاب البياتي صديقي وهو من منطقتي باب الشيخ – الصدرية، درسنا في مدرسة واحدة وتخرجنا من الثانوية سوية، هو ذهب إلى دار المعلمين العالية وأنا إلى كلية الحقوق. عرّفته على نهاد التكرلي وعبدالملك نوري لنكون رباعياً معروفاً في المجتمع الثقافي إبان الخمسينيات. كنا نجتمع كل يوم خميس على مدى أربع سنوات. كان البياتي صامتاً نادراً ما يشارك في نقاشاتنا، وفي مرة من المرات أحضر مسودة ديوانه “أباريق مهشمة” فأثار إعجابنا، وطلب من نهاد أن يكتب له مقدمة، فكتب المقدمة التي اشتهرت “عبدالوهاب البياتي: المبشّر بالشعر الحديث”. حمل البياتي الديوان والمقدمة إلى مجلة “الثقافة الجديدة” التي يصدرها الشيوعيون، فقالوا له هذه المقدمة ضد وجهة نظرنا في الشعر، فوافق على نشر الديوان بدونها، ثم أرسل المقدمة الى مجلة “الأديب” البيروتية لتخرج على هيئة بيان تنظيري للشعر الحر، لأن المجلة احتفت بها ووضعتها ما يشبه الكلمة الإفتتاحية.

: هل كان نهاد التكرلي على خطأ؟

  • : لا فقد كان الديوان يبعث على الإعجاب

: إذن أين الخطأ؟

  • : أنا اعتبرتها خيانة في وقتها ولم أكلّم عبدالوهاب البياتي سنوات طويلة، وكنت وقتها قدمت قصة قصيرة إلى “الثقافة الجديدة” عنوانها “الآخرون” طالبت بسحبها، وقلت لرئيس تحرير المجلة صلاح خالص مجلتكم عنصرية ومتزمتة وأنا لا أريد أن أنشر فيها، فاعتذر لأنه أرسل قصتي إلى الطبع فقبلت بالأمر الواقع. بعد الحادثة سافر البياتي إلى بيروت والقاهرة، دون أن نتواصل، ثم صالحنا صديق مشترك في القاهرة هو أحمد مرسي، لينتهي فصل خصامنا.

:هل كنت ضد الشيوعيين؟

  • : لا، بل كنت يسارياً، ولكني كنت ضد تصرفاتهم وخاصة بعد ثورة تموز، كنت قريباً منهم ومعظم أصدقائي ماركسيين أو شيوعيين، ولكنهم بعد الثورة أساءوا إليّ…

: ما وجه الاساءة؟

  • كنت حاكماً للتحقيق في المحكمة ومدير الشرطة كان من الشيوعيين ولا أعرف لماذا حسبني بعثياً فبدأ بمحاربتي، ولكنه عندما عرف من الأصدقاء قربي من اليسار بدأ يتغير معي…

: كيف عرفت علي الشوك وربطتكم تلك الصداقة العميقة؟

  • عرفت علي الشوك سنة 1960عندما قدمت “الوجه الآخر” لنشرها في منشورات “الثقافة الجديدة” وكان الشوك مسؤول النشر في وزارة المعارف فوافق عليها، لأنه خبير عندهم وتبرعت لهم ب 150نسخة مجاناً.

: مجاملة لهم؟:

  • لا، تشجيعاً للقراء. الطريف بعد أسبوع جاءني الشاعر حسين مردان وقال كتابك يباع على العربات بثلاثين فلسا، لم أنزعج وقتها رغم انني حسبتها لعبة سيئة، لأنها أتاحت للكتاب الانتشار…

: ماهي طبيعة العلاقة بينك وبين الروائي غائب طعمة فرمان؟

  • : غائب كان إنساناً نبيلاً ووديعاً وكان من الشيوعيين الذين تحترمهم حتى ولو اختلفت معهم. كنا معاً في مدرسة واحدة في الرصافة أيام المتوسطة.

: وعلي الشوك؟

  • صادفته بعد انقلاب 63موقوفاً وكنت حاكماً للتحقيق، حاولت إنقاذه وإنقاذ مجموعة من المثقفين وفعلاً نجحت في بعض الحالات …

: بعد 1963بقيت حاكم تحقيق؟

  • بعدها سافرت إلى باريس في إجازة دراسة، وابتعدت عن جو العراق، وانشغلت باللغة الفرنسية ودراسة القانون، ولم أعد إلاّ في عهد عبدالرحمن عارف.

: هل شعرت يوماً انك غير قادر على العودة إلى الكتابة؟

  • : لا ، دائماً الكتابة كانت تطاوعني. الكتابة هي متعتي، ولكن قبل السبعينيات لم أكن أكتب على نحو منتظم، فاستغرقت رواية “الرجع البعيد” لديّ أكثر من عقد من الزمن، وما جاء بعدها لم يأخذ وقتاً طويلاً…

: قال عنك محمد خضير في ورقته التي قدمها الى ندوة المدى القصصية، ان روايتك هي رواية الطبقة الوسطى، هل يصح القول أنك تابعت سجلات الطبقات الوسطى في العراق؟

  • :نعم جُلّ اهتمامي في الرواية كان مُنصبّاً على هذه الطبقة، والفقيرة منها على وجه التحديد، ولكن المتعلمة، التي لها صلة بالثقافة والتحضر. قبل فترة حاول أحد الفنانين مسرحة رواية “الرجع البعيد” رفضت نصه لأنه وضع على لسان الأبطال كلام الرعاع، أبطالي فقراء ولكنهم متحضرون ولا يصل حوارهم الى هذا المستوى .

: ألا ترى أن هذه الطبقة ضعفت في العراق كثيراً وصعد من تسميهم “الرعاع” محتلين المشهد العراقي؟

  • هذا مؤسف، فالطبقة الوسطى هي المعوّل عليها في بناء العراق، هم المثقفون ولديهم حب الدراسة ومتواضعون، وليست لديهم مشكلات مع الآخر المختلف، ولكن واقع الحال هو الذي دفعهم إلى الواجهة، الاحتلال سمح لهؤلاء المشاركة في السلطة وهذه الطامة الكبرى، وكانت العملية قد بدأت على عهد صدام، حيث كان رهطه من هؤلاء، كما كان يحتاج إلى من يصفق له دون شروط. طبقات العوام لا تملك ولا تستطيع أن تخلق مشروعاً لخدمة العراق.

: ولكنهم الأكثرية، ويمثلون الشارع فلماذا يحاول المثقف حجبهم أو دفعهم الى الكواليس، ألا تعتقد ان الحراك الاجتماعي سيسمح لهم بتطوير قدراتهم؟

  • : الرعاع في كل مكان هم الأكثرية، ولكن لا ينبغي لهم أن يحكموا العراق. باعتقادي يجب أن يقود الشعب من يستطيع أن يرتفع بمستواه، الديمقراطية وسيلة لخدمة ثقافة المجتمع وفكرة التطور والانفتاح على العالم، ولا أتخيل ديمقراطية مع حكم الجهل والتخلف…

: عدت الى بغداد قبل الحرب والاحتلال ، فكيف وجدتها؟

  • : كانت مختلفة، الطبقة الوسطى تعاني الكثير، وهناك صعود للتخلف، روايتي الاخيرة تسجل فترة الحصار، هذه الفترة المؤلمة في حياة العراقيين التي لم يُكتب عنها إلا القليل.

: هل تحاول في رواياتك وقصصك تسجيل المراحل التاريخية في حياة العراق؟

  • : حدث الأمر بالصدفة، ولكنني مسرور لأنني حاولت هذا الأمر، فلدينا الكثير من الأحداث التي يغفل عن رصدها وتسجيلها كتّاب علم الاجتماع.

: في رواية “المسرات والأوجاع: رصدت فترة الحرب العراقية الايرانية، على نحو فيه الكثير من الدقة والرهافة، ولكن بطلك استغرق في مغامرات جنسية بدت فائضة على الرواية، وغريبة على شخصيتك، كيف تنظر الى الانتقادات التي وجهت الى هذا الجانب من الرواية؟

  • أتذكر أحد النقاد المغاربة الذي فسّر الجنس في هذه الرواية على أنه دفاع عن الحياة إزاء فكرة الفناء التي كان يشعر بها البطل، فالحرب تهدد حياة الناس وتجعلهم بحاجة الى الشعور بالأمان، ثم أنا لا أعتقد أن هذا الجانب أخذ الجزء الكبير من روايتي.

” أين بيتك الآن ببغداد؟

  • سوي مع الأرض. بيت عائلتي الكبير ببغداد القديمة تحول خرائب، زرتها قبل أن تصبح مجرد ذكرى. اما بيت الزوجية في المنصور، فقد انتهى بموت زوجتي..

: كل  أحداث رواياتك تجري ببغداد. سكنت أماكن كثيرة خارج العراق، لماذا لم تكتب عنها؟

  • لم تؤثر بي الأماكن الأخرى، لأنني دائماً كنت أعتبرها حالة طارئة. نفسياً أرفضها، وأبقى احلم بفكرة الاستقرار ببغداد.

: أيّ فترة بعمرك تحسبها ذهبية؟

  • الستينيات إلى سنة 1977، كنت أشعر بالاستقرار في بيتي بالمنصور، كانت لدي وظيفة وأصدقاء، عالم ثابت على ركائز، وحياة مليئة بالحيوية. فجأة فقدت كل شيء وهاجرت، وبعنا البيت..

: و لكنك حققت الاستقرار مع زوجتك الجديدة؟

  • نعم أنا مدين لزوجتي الثانية رشيدة تركي بالكثير، فقد انقذتني من الوحدة وكرست جهدها ووقتها من أجلي وانجبت لي ابني الوحيد عبد الرحمن وهو اسم أبي. .

: إلى أين تأخذك أحلامك، الى أي الأماكن والسنوات؟

  • الى بغداد في الخمسينيات، كانت تلك الفترة الزاهية في العراق قبل أن تبدأ الانقلابات والثورات

: هل تفكر بالعودة ؟

  • : يجب أن نعترف أن بغداد انتهت. يصعب الاعتراف بموت الأشياء الجميلة، ولكن هذا هو الواقع. الكتابة وحدها تمنحني القناعة والشجاعة على مواجهة هذا الاعتراف…

 

شارك مع أصدقائك