- تستعد «دار النهضة» في بيروت، لإصدار مجموعة أعمال وديع سعادة، التي كتبها إلى اليوم، وإن كانت الدار نفسها قد أصدرت سابقاً مجموعة وديع سعادة، فهي أصبحت ناقصة لأنه من عام 2008 صدر له ثلاثة دواوين شعرية ستنضم إلى الكتاب الجديد، وهي: «من أخذ النظرة التي تركتها أمام الباب»، و«قل للعابر أن يعود – نسي هنا ظله»، و«ريش في الريح».
وديع سعادة الذي يقول إنه لا يستدعي الكتابة، ولا يتقصدها، له 13 ديواناً، بدأ بكتابتها قبل أن يبلغ العشرين. «أنا لا أؤمن بالولادة القيصرية للشعر. تأتي القصيدة من تلقاء نفسها أو لا تأتي، بدليل أن مجموعتي الأولى «ليس للمساء إخوة» التي تضم 52 قصيدة، استغرقتني 13 عاماً من عام 1968 حتى 1980، وبين الديوان والآخر تمر 3 سنوات أحياناً».
يكرر سعادة حكاية طريفة، هو أنه كان يكتب الشعر العمودي، في قريته شبطين (شمال لبنان) التي ولد فيها عام 1948، ولم تكن تصل إليها أي كتب حديثة لا سيما في الشعر، وأنه لم يكن قد سمع بـ«قصيدة نثر». «ذات نهار قررتُ أن أمزّق قصائدي العمودية وأكتب شعراً غير مقيّد بوزن ولا بقافية، مأخوذاً بحرية الكتابة غير المقيدة بأي قيد». بقي في ذاك النهار يتمشى على سطيحة بيته في شبطين، جيئة وذهاباً، متسائلاً: «كيف سيتلقى القارئ هذا النوع من الشعر وهل أمزق قصائدي العمودية أم لا؟ وقررت أخيراً أن أمزق هذه القصائد وبدأتُ كتابة أولى قصائدي النثرية التي كانت بثلاث كلمات فقط: (ليس للمساء إخوة). ثم جعلتُ هذه الكلمات عنواناً لكتابي الأول». «حين ذهب إلى بيروت، وبعد أن اكتملت المجموعة «وقفت في الشارع ووزعت الديوان بخط يدي على المارة، قريباً من كلية الآداب للجامعة اللبنانية، بعتها بليرتين لمن يملكهما، وبالمجان لمن لا يملك. كنت أريد أن أختبر كيف ينظر الناس إلى الشعر والشاعر. وددت أن أكسر مقولة إن الشاعر يسكن برجاً عاجياً». لكن هذا الديوان، سيكون فاتحة خير على الشاعر، الذي سيكتب عنه النقاد وبينهم عصام محفوظ، ويلفت النظر إلى موهبته من حينها.
بين شبطين والبترون التي انتقل إليها مع والدته ليلتحق بالمدرسة، قضى وديع الصغير سنواته الأولى. في عمر الـ14، كان عائداً من المدرسة، ذات يوم، استوقفه عمه وأخبره أن والده قد مات، ذهب إلى القرية فوجده متفحماً بفعل حريق. «تلك الحادثة أثرت على كل حياتي. كانت أول صدمة أمام الموت، ثم ازدادت بالحروب وبسبب العالم العنيف. بقيت ثيمة الموت ترافقني في كل شعري». لم يكمل وديع تعليمه. بعد الشهادة الإعدادية، ضاقت الأحوال المادية، وكان عليه أن يتدبّر أمره، وقد فعل.
التحق وديع بإخوته في بيروت حين بلغ العشرين. «سكنت عند أخي في فرن الشباك. نحن عائلة من 6 صبيان و4 بنات، لم يبقَ إلا أنا وشقيقان اثنان. في بيروت، عملت موزعاً لأفلام (كوداك) وأستاذاً للصفوف الابتدائية، قبل أن أنتقل إلى الصحافة والكتابة، أسهر في شارع الحمرا خاصة في (الهورس شو)، ولا ينقضي الليل قبل أن أقرأ من ساعتين إلى ثلاث ساعات». في بيروت تعرف سعادة إلى أنسي الحاج وأدونيس وغادة السمان وعصام محفوظ وشوقي أبي شقرا ويوسف الخال وغيرهم من الشعراء والكتاب والفنانين. وهناك تعرّف على مجلة «شعر» و«مواقف» و«الآداب». «في البدايات كتبت في جريدة النهار». كان ينشر لي شوقي أبي شقرا، قبلها كنت محرراً في «الأسبوع العربي”.
لم تتسع له بيروت، على رحابتها في تلك الفترة. حزم حقيبته وانطلق إلى باريس في مطلع السبعينات. بمال شحيح سافر، ونام بعد أن فرغت جيوبه، في صقيع شهر ديسمبر (كانون الأول)، في مأوى للعجزة، وفي مواقف الباصات، ثم ساقته رحلته إلى الحدود الإسبانية، ولم يتمكن من الدخول لأنه لا يملك سعر الفيزا. «عدت إلى باريس (أوتوستوب) مع عروس وعريس، بتّ في بيتهما ثم كتبا لي يافطة، تسهل لي طريق الرجعة. بقيت في باريس إلى أن أسعفني أخي بسعر التذكرة لأرجع إلى بيروت. من بعدها سافرت للمرة الأولى إلى أستراليا عام 1973، بقيت فيها تسعة أشهر، عملت في المصانع، أحدها كان مصنعاً للسيارات، إلى أن جمعت ثمن تذكرة الإياب”.
لكن لماذا يبحث صحافي وشاعر عن كل هذا التشرد: «أردت أن أسافر. أن أكتشف العالم. خلقت على هذه الأرض وأريد أن أراها، أن أتعرف إليها”.
عاد وديع إلى بيروت، عمل في مصنع للكيماويات، وبائعاً متجولاً للإسعافات الأولية للمسنين، لكن حلم الكتابة لم يسقط يوماً، ولا إدمان السفر. سافر إلى لندن بعد اندلاع الحرب الأهلية وعمل في الصحافة، ومن بعدها في باريس في «النهار العربي والدولي» وفي قبرص في «الموقف الدولي»، وفي اليونان في مشروع ترجمة روايات «عبير» مع جاد الحاج، حيث كان يهتم بالتدقيق اللغوي. وفي عام 1988 كانت الرحلة التي حملته إلى أستراليا، للمرة الثانية، ليستقر هناك إلى يومنا هذا. «عندما سافرت كان عندي زاوية في (النهار العربي والدولي) اسمها (قبض الريح) بمجرد أن وصلت إلى أستراليا عملت في صحيفة هناك اسمها (النهار) وأكملت كتابة زاويتي». رجع الشاعر إلى لبنان تكراراً، من حينها، ذات مرة كان ينوي العودة النهائية، لكن لا شيء يشجع. «آخر مرة زرت فيها لبنان كانت عام 2018، وأنا هناك اتصلوا بي وأعلموني من المغرب أنني حصلت على جائزة (الأركانا)، ومن وقتها لم تتح الفرصة، بسبب الوباء وكل ما تبعه. لعل أفضل ما حصل لي، ليس أنني كتبت 13 ديواناً، وإنما سفري وإقامتي في أستراليا، التي وفرت لي ولأولادي ما لم يعطني إياه وطني من حقوق”.
لكن وديع لا يزال يكتب وكأنه ينهل من نبع قريته، محملة قصائده، بالطيبة، والصور الطفولية، دون أن يملّ من اللعب «الشاعر يجب أن يحتفظ بطفولته، وبراءته الأولى، لأن الشعر انعكاس للروح. الثقافة ليست عملاً كتابياً هي نمط حياة. أعرف أن ثمة من يكتبون عما لا يضمرونه، وأن هناك من يكتب عن المحبة وقلبه ممتلئ بالحقد، لكن الشعر الحق هو صدق الذات. أما المكان، فيحمله الإنسان في داخله أينما ذهب”.
يكتب الشاعر مقاطع من سيرته الذاتية، لكنه يؤكد أنه لا مشروع لديه لأن يجمعها في كتاب، فهي نتاج ما يفكر به يسجله على السجية.
لا يحب وديع سعادة أن يتحدث عن شعره «بصراحة لا أعرف. أنا فاشل في الكلام على شعري. وفاشل جداً في النقد الأدبي. وما أكتبه لست مصراً على تسميته بقصيدة نثر. أنا أسميه النص الشعري الحديث. الحداثة هي في المضمون الذي ينطوي على الفلسفة والرواية والتشكيل. أنا في غالبية شعري كأنني أحكي عن نفسي. لكنني في الوقت نفسه، أتحدث عن ملايين البشر الذين يشبهونني».
لكن الشاعر الذي يعيش في قارة بعيدة، بقي مكرماً باستمرار. فقبل عام صدرت مجموعة أعماله في القاهرة، عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب» في مجلدين، وقبلها صدرت له في القاهرة أيضاً مختارات، كذلك صدرت مجموعته الكاملة عن «دار راية للنشر» في فلسطين. ونوقشت عن أعماله رسالة دكتوراه لضوي محمد الضوي في مصر عن «الرؤية والتشكيل في شعر وديع سعادة»، وصدرت في كتاب، وكذلك نوقشت رسالة ماجستير.
صدرت له ترجمات عدة لأعماله ومختارات بالإنجليزية، والإسبانية والإيطالية، وتُترجم حالياً إلى السويدية، كما تُرجمت له مجموعتان إلى الكردية. لحّن له مارسيل خليفة قصيدته «الهجرة» التي غنتها عبير نعمة، كما غنى ولحن له باسل زايد الفلسطيني المقيم في أميركا 3 قصائد.
يؤكد وديع سعادة أنه لم يسعَ يوماً لا لطباعة ولا لتكريم أو جائزة. «هم من يبحثون عني. أنا أنشر كل شعري على موقعي الذي فاجأتني به الشاعرة سوزان عليوان، ويهتم بنشر نتاجاتي عليه صديق لي في ملبورن. هكذا يتاح ما أكتب لكل من يريد، ومن يحب أن يطبع يجد ما يشاء”.
ألا يحدّ هذا من عدد الدواوين المبيعة؟ «أنا لم أجنِ من كل دواويني التي طبعت قرشاً واحداً، مع أنني حين أسأل عن كتبي في المكتبات يقولون لي إنها نفدت. بينما حين ترجم ونشر لي المستشرق الألماني شــتيفان فايدنــر قصيدة من سبعة أسطر، بعد ثلاثة أشهر، وصلني إيميل من الجريدة يريدون معرفة رقم حسابي، كي يسددوا لي مستحقاتي. أنا في الأصل لم أسأل دور النشر، ولم أطلب منهم شيئاً، لكنني أروي ذلك فقط من باب المقارنة”.
آخر ديوان صدر للشاعر هو «ريش في الريح» عام 2014، «من يومها لم أكتب شيئاً قط. فكما قلت الكتابة ليست وظيفة ملزمة
لا يريد وديع سعادة الحديث عن شعر الآخرين. يكتفي بالقول إنه يتابع الحركة الثقافية في لبنان والعالم العربي عن كثب عبر الإنترنت: «أبارك لكل من يكتب، لكنّ هناك استسهالاً. ثمة كتّاب ممتازون، لكنني أرى أن المستوى في لبنان قد هبط كثيراً”.
* • صحيفة “الشرق الأوسط” في 6/4/2022: سوسن الأبطح–