في النهر حيث تعيش الطيور الملونة.
*****
في نهر ( ريودي لا بلاتا ) تعيشُ طيور الباميا والطوقان الأبيض الزمردي ، والنورس بُنِّي القناع و الأوز المطوق ،
في قلب العاصمة ( مونتيفيديو ) شمال النهر حيث العراقة مصبوغةٌ بلون السماء تجمع آلالاف المشيعين في كافة أنحاء الأوروغواي في وداعٍ مهيبٍ ووسط تصفيقٍ حار يغادر محمولاً على عربةٍ تجرها الخيولُ من مقر الرئاسة إلى مبنى البرلمان ليودع الجميع أفقر رئيسٍ بالعالم (. خوسية موخيكا ) أحد رموز اليسار في أمريكا الجنوبية أو ربما أعظم اليساريين في العالم
نموذجٌ مختلفٌ لأي سياسي أو رئيس دولة . إنه رجل الجنوب الحكيم بيبي موخيكا كما كان شعبه يسمونه
فنظنه في وداعه طيراً ملوناً محلقاً بعيداً لما وراء النهر مشهد فيه جلالٌ لا حدود له يختلف تماماً عن وداع النخب السياسية الأخرى حيث الموت عندهم منصة عرض سياسي مُتقن أو لحظة بروتوكولية باردة
فما المعطيات الإيجابية التي جعلته يرحل هكذا نبيلاً في يومٍ مشمشٍ جميلٍ ؟
إنه الليبرالي الاجتماعي الذي أنزل السياسة من قصورها لقلب الشعب .
نموذج ٌ لرئيس بحث عن إرضاء شعبه والعيش معهم فكان بسيطاً في منظره ، حاداً في مواقفه ، رفيعاً في أخلاقه السياسية لم يمتهن
العقاب فلم يُشعل النار في الغابة كلها ليصطاد فريسةً واحداً
اعتماده أسلوباً ناجحاً للتعامل مع الطبقة المتوسطة كرفض الانتقال للمقر الرئاسي و بقائه مع زوجته المقاتلة السابقة دون مساعدة أو حماية أمنية في مزرعته مع ارتدائه ملابس غير رسمية
رسالة منحته القرب من الطبقة المتوسطة وجعلت منه رجل الجنوب الحكيم الرئيس و الفيلسوف الذي قاد منطقةً ليست بمتجانسة لغوياً وثقافياً مليئة بقصص القوة و الإبداع
مضى وقتاً طويلاً من حياته بحرب العصابات في أوائل الستينيات ، تلك الحركة التي تشبه روبين هود فكان فارساً شجاعاً معذباً طائشاً خارجاً عن القانون فيلقى القبض عليه أربع مراتٍ و يهرب من السجن مرتين فيتعرض للتعذيب ويقضي ظروفاً قاسية كادت تصيبه بالجنون لدرجة انه كان يتحدث مع النمل _كما قال واصفاً حالته في تلك الفترة _
خرج روبين هود من السجن انساناً كما دخله دون ان تلوث القسوة نفسه و تنتصر الديمقراطية على الأنظمة الديكتاتورية و الجينيرالية
المدعومة بطابع وكالات الاستخبارات المركزية الأمريكية و ينسحب العسكريون من الأورغواي و كذلك من امريكا اللاتينية برضاهم .
ويعتمد بيبي موخيكا اسلوب اقتصاد السوق الحر فيتحرر الاقتصاد الموجه الذي كانت تمارسه السلطات العسكرية الحاكمة سابقاً
فينمو في حكمه الاقتصاد بمعدل سنوي ٤، ٥ ٪ و تنخفض معدلات الفقر
خوسيه موخيكا تجربة من أقصى الجنوب تبرهن على أن السياسة يمكن ممارستها بعيداً عن الفساد والظلم و الرفاهية و الفخامة
وان الرئيس ليس بذلك التمثال الجامد إنما شخص من لحم و عظام ودم
تجربة تستحق بنا نحن العرب جميعاً احترامها و دراستها بل و الاستفادة منها مع تجنب ما لا يتفق مع تشريعاتنا الدينية و الاجتماعية .
فنحن أمة عريقة خالدة لها تاريخ عظيم و متنوع ، و لكن حينما يتعلق الأمر بالسياسة تبدو كأنها بلا تاريخ و بلا تجارب و كثيراً ما يشبه اليوم بامبارحة فلا نتعلم و تصبح ذاكرتنا كالسمك
ربما أمران يمنعاننا من الاستفادة من تلك التحارب الديمقراطية
الأول : المواطن العربي يرى نفسه بسيطاً بعيداً عن التنظيرات و الايديولوجيات و يستعيذ بملء أصغريه من السياسة و من يمثلها مردداً قول الإمام محمد عبده ( أعوذ بالله من السياسة و مَنْ ساس و يسوس و سائس و مسوس ) .
و ببساطة مثلكم تماماً أقول إن استطعت أن تبتعد عنها فهل ستبتعد هي عنك ؟
الثاني : إفلاس الرأس مال السياسي و الشفافية و حصر المساهمة السياسية بين اثنين لا ثالث لهما ما بين الجوقة و العازفين المنفردين
غير ان الأمر في حقيقته مشروع وعي و ثقافة و رؤية وفقا لمعطيات اللحظة التاريخية و الاجتماعية و الإنسانية و الاقتصادية
فهل ما نتعاطاه من طروح سياسية متلعثمة قادراً على خلق انبعاث ثقافي حقيقي يساعد كل من الحاكم و المحكومين على رؤية العالم و الحياة معاً و العيش بالقرارات لا بالشعارات ؟
هل يتساوى كل مَن ظفروا بكل شيء كمن خسروا كل شيء ؟
و هل يمكن أن نجد وسط الضحالة الثقافية و الفكرية و كذلك السياسية رؤيةً أكثر اتساعاً من كرسي البرلمان ؟ و ثقافة تتجاوز الشعارات ؟
الإجابات متروكة للمحنكين ، ولست منهم ، أنا فقط هذا الإنسان البسيط الذي يطلب العدالة الاجتماعية لا الحماية الاجتماعية و يستطيع فقط التفريق بينهما
بالنهاية أرى رسالة بيبي موخيكا رسالةً إنسانية مفادها أن غاية السياسي الحقيقي ليظل عالقاً في ضمير و ذاكرة شعبه أن يكتشف مواطن الحب و الحياة و الحرية قبل القوة و السيطرة وحتى القضاء على الفاسدين
وأن الأشياء البسيطة هي أكثر الأشياء تميزاً و صدقاً
وأتذكر جزءاً من رواية خوسيه ماورو ( شجرتي شجرة البرتقال الرائعة ) كأنها تتردد على لسان بيبي حين وداعه : كم كان من السهل الموت بالنسبة إلى البعض ، يكفي أن يأتي قطار ملعون لينتهي كل شيء بالنسبة لي ، كم كان من الصعب الذهاب إلى السماء ، الجميع أمسكوا بقدمي كي يمنعوني من الذهاب … )
لكنه ككل الأشياء و الأشخاص ترحل منفردةً تاركاً علامة أو أثراً
حقاً عاش حكيم الجنوب كبيراً مناضلاً و مات تاركاً من النزاهة و البساطة و الكرامة إرثاً على الإنسانية قراءتها و الاستفادة منها .