رؤية نقدية لمجموعة (هجرة بلا تأشيرة)…. د.وسام علي الخالدي

شارك مع أصدقائك

Loading

حين يهاجر الحلم بلا جواز

رؤية نقدية لمجموعة (هجرة بلا تأشيرة).

د.وسام علي الخالدي

 

في زمنٍ تكسّرت فيه الجغرافيا على أقدام اليائسين، وتحوّل فيه البحر إلى مقبرة للأحلام، تنبثق مجموعة “هجرة بلا تأشيرة” كصرخة سردية حارقة، تستنهض الإنسان في هشاشته وتعيد تشكيل ملامحه فوق تضاريس المنفى والوجع والاغتراب. إنها ليست مجرد نصوص عن الهجرة، بل هي روافد شعورية تنضح بالألم، تسيل من جراح القارة السمراء، وتتجسد في ملامح منسيين يحاولون عبور الصحراء والبحر والقدر بحثًا عن لحظة ضوء. ينسج الكاتب رؤوف عزيزي في هذه المجموعة سردًا شديد الإنسانية، يتحرك بين الشعرية والتوثيق، ويعبر من خلال شخصياته – وفي مقدمتهم سميرة ويوسف – عن قلق وجودي عميق، يجعل من فعل الهجرة فعلًا داخليًا بقدر ما هو خارجي. فالهجرة ليست هنا مجرد انتقال من وطن إلى وطن، بل من حال إلى حال، من أمل إلى ندم، ومن حلم إلى سؤال لا ينتهي. يبدع عزيزي في رسم تضاريس الألم دون مبالغة، معتمدًا على لغة تقطر وجعًا ولكنها مشبعة بالحنين، لغة تنقل صمت الشخصيات ودموعها ببلاغة لا تحتمل الصراخ. وتتكرر في نصوصه استعارات الأرض، الشمس، الطريق، العيون، الصمت، كرموز تتكئ على حقول دلالية مثقلة بالتعب، فيتحول السرد إلى مرآة لعالم ينهار من الداخل، لا يحتاج إلى زخارف بل إلى صدق إنساني يُسمع دون أن يُقال. كما تتضح براعة الكاتب في معالجته للتناقضات: العودة التي تساوي الغربة، والوطن الذي لا يحتضن أبناءه بل يستقبلهم ببرود كالمنفى، والحلم الذي حين يتحقق يضيع معناه. إنه يقدم لنا شخصيات تعيش على الحدّ: بين الحياة والموت، بين الأمل واللاجدوى، بين أن تكون أو تُنسى. أما البنية السردية فتتّسم بالتماسك، والانتقالات الدقيقة بين المشاهد، وتكثيف المشاعر داخل لحظات صامتة تبدو بسيطة لكنها مشحونة بكل ما هو إنساني. يلامس الكاتب بأسلوبه المتأني والمتأمل ثنايا النفس البشرية، ويترك القارئ في نهاية كل قصة أمام مرآة تشبهه أو تُخيفه من أن يشبهها. “هجرة بلا تأشيرة” ليست فقط وثيقة أدبية عن جراح الهجرة السرية، بل هي سؤال كبير عن العدالة، وعن معنى الانتماء، وعن قيمة الإنسان في عالم يقتله اللون والحدود والاسم. إنها لحظة صمت طويلة كتلك التي تسبق الغرق، لكنها ممتلئة بصوت واحد: الإنسان، حين يقرّر أن يحلم رغم كل شيء. ولعل أكثر ما يلفت في هذه المجموعة هو أن الكاتب لم يقع في فخّ الخطابة أو التقريرية، بل حافظ على نبضٍ سرديّ داخليّ يجعل القارئ يشعر وكأنه يمشي بصمت مع الشخصيات فوق رمال الصحراء، أو يتأرجح معهم في قارب مهترئ وسط أمواج المتوسط، أو ينكمش تحت بطانية باردة في غرفة ضيقة بباريس. اللغة هنا ليست أداة للقول فقط، بل وسيلة للإحساس، تُحمّل التفاصيل اليومية بما يشبه الشعر، وتجعل من أبسط الحركات – نظرة، تنهيدة، انكسار في الوجه – محطات تأمل وجودي. كما أن الجانب الرمزي في المجموعة لم يكن مُتعسّفًا أو مجرّد زخرفة فنية، بل جاء نابعًا من صميم التجربة: فالبحر ليس فقط ماءً، بل مرآة للقدر المتقلب، والحدود ليست خطوطًا سياسية، بل جدران نفسية تُمزق الحالمين، والوطن ليس فقط الجغرافيا، بل هو سؤال متجدد عن الانتماء والانكسار والانبعاث. نجد أيضًا أن الكاتب يمارس نقدًا اجتماعيًا وإنسانيًا من داخل الحكاية، دون أن يُلوّح بأصابع الاتهام. هو يكتب عن صمت الحكومات، وبرود العائلات، وقسوة الأنظمة، لكنه لا يصرخ. فقط يجعل القارئ يرى ويسمع ويشعر، ويدرك وحده أن الألم لا يحتاج إلى تبرير. أما بناء الشخصيات، فقد جاء متقنًا ومتدرجًا. فـ”سميرة” لا تتحول إلى أيقونة بطولية، بل تظل امرأةً عادية جدًا، تدفعها الحاجة، والخوف، والحلم، لتخوض رحلة قاسية لا تبحث فيها عن المجد، بل عن شيء من الكرامة. و”يوسف” هو الوجه الذكوري المكمل لتجربتها، ليس فارسًا ولا منقذًا، بل كائن هشّ مثقل بالتناقضات، يعيش فقره الداخلي مثلما يعيش شقاء جسده في ورشات البناء أو حقول الطماطم. ومعًا، يشكلان ثنائية تمثل جيلًا كاملًا من التائهين في الأزقة الفاصلة بين الجنوب والشمال. وفي القسم الأخير من المجموعة، حين يعودان إلى الوطن لفترة قصيرة، يبلغ النص قمته المأساوية. إذ يتحول الوطن الذي لطالما كان الحلم البديل عن الغربة، إلى مكان خامل، باهت، بارد المشاعر، وكأنه لم يعد يتعرف إلى أبنائه العائدين. فينهار بذلك الحلم الثاني، ويصبح “الوطن” مجرد مسرح قديم لم يعد يستوعب الحكاية الجديدة. هذه العودة الصادمة هي لحظة استنارة سردية، تكشف أن الغربة ليست فقط في المدن الأجنبية، بل يمكن أن تكون في العيون التي كانت تعرفك ثم نسيتك. وبين صفحات الألم والانكسار، لا ينسى الكاتب أن يترك خيوطًا رقيقة من الأمل: التوأم، الولادة الجديدة، التمسك بحبّ الحياة ولو في حدّه الأدنى. إنها النهاية التي لا تنتهي، فالهجرة هنا ليست مجرد طريق، بل قدر معلق في الحلق، لا يجد تأشيرته لا في الوثائق، ولا في الأرض، بل فقط في

 

شارك مع أصدقائك