“أبو الريش” رواية عبدالستار ناصر….فاطمة المحسن

شارك مع أصدقائك

Loading

إلى روح الصديق الجميل ستار ناصر

“أبو الريش” رواية عبدالستار ناصر الأشرار والأخيار في حكاية عراق اليوم
فاطمة المحسن

May be an image of 1 person

في المقدمة التي كتبها عبدالستار ناصر لروايته “أبو الريش” يرجو القارئ تأملها بهدوء واسترخاء، ويتمنى أن يأخذ هذه الرواية على أنها زيارة إلى بغداد اليوم، بغية اكتشاف حجم الزلزال الذي ضرب العراق وعمق الهوة التي تفصل الشعب عن حاكمه.
في اشتراطات مثل هذه، تكون دعوة الكاتب أقرب إلى الإيحاء بأن عمله من صنع الواقع، وليس من صنع خيال المؤلف، أو أن الخيال يحاول استنساخ الواقع. غير أن المحاكاة في هذه الحالة، تبدو وكأنها اعتذار عن أحداث عصية على الفن الروائي، أو أن الخيال يأبى أن يطاوع الواقع ليوازيه أو يتفوق عليه. فمحفزات الرواية كما يضعها عبدالستار ناصر في مقدمة عمله، تعود إلى يوم أُعدم أخ له بتهمة باطلة وطالبوا أهله بثمن الرصاصات، وبدفنه على وجه السرعة دون قراءة الفاتحة على روحه، ثم اعتذروا بعد خمسة شهور بأنه كان من شهداء الغضب.
على أن الكاتب يستعجل الزمن في تسجيل ما فاته طوال العقود المنصرمة، ليعود إليه في روايتين متشابهتين صدرتا في وقت متقارب: الأولى (نصف الأحزان) والثانية هذه الرواية (أبو الريش) عن الموضوع ذاته سجن العراق وأهواله.
غير أنه ينهي مقدمته بالإعلان عن كون هذا العمل آخر رواية له، ليعود بعدها إلى القصة القصيرة التي كتبها منذ الستينيات، وهو إعلان غريب قدر غرابة الظرف الذي كتب فيه روايته تحت وطأة الإحساس بمهمة يجب أن ينهيها كي يعود إلى عمله الأول.
(أبو الريش) تبدأ بمقبرة الشيخ معروف الكرخي التي تقع في قلب بغداد، وهي المكان المناسب لتصعيد نبرة التراجيديا في خطاب الرواية. فليس هناك سوى السجون والمقابر ما يضع القارئ وجها لوجه أمام المأساة العراقية. غير أن تلك الأماكن من فرط تمثلها للمآسي، تقطع الطريق من أوله على ممكنات الترميز أو التأويل، أي أن اللعبة الروائية تشتغل بشروط خارج إرادتها، فهي محشورة في الزوايا الأكثر ضيقاً في التراجيديا. فما من مكان يأتي إليه الموت مثل المقبرة أو السجون، وما من زمان يساوي ذلك الزمان المسقط من انتظارات الحياة العادية إلى انتظارات أخرى قاسية لا يشبه مللها ملل الحياة اليومية ولا خوفها خوف الحياة. فالأبطال مثل أحداث الرواية يعيشون على حد السكين وينقسمون إلى أشرار وأخيار، لأن النص لا يحتمل أوجهاً أخرى للشخصية التي تجمع النقيضين وتحتاج إلى سبر ومشاركة في التقصي من لدن الكاتب والقارئ معاً.
بطل الرواية الذي يسمي نفسه إبراهيم عريان الضبع يحل في مقبرة الشيخ معروف هرباً من السلطة التي قتلت عائلته وسلبته كل شيء ليكتشف نظيره في كل شيء حتى في اسمه المزور، حارس المقبرة الذي ينطوي شخصه على سر شبيه ولكنه أكثر خطورة فهو من المحاولين اغتيال الرئيس. هذه البداية التي تستخدم لعبة القناع أو التوأم، تبدو الخطوة الأولى نحو تغريب الواقع، بدمج مادة التخاطر بين الشخصيتين مع الخوف والشك اللذين ينزرعان بينهما، غير أن القاص يهملهما أو يحاول توظيفهما لمهمة تلح على الكاتب، وهي حميمية العلاقة والمصائر المشتركة للمظلومين أو المضطهدين.
العلاقة التي توحد مصير الشخصيتين تنبني على فضول معرفة هوية الموتى الذين يجلبهم رجال الأمن إلى هذه المقبرة من السجون، ولكن الفضول وحده لم يكن الدافع إلى تلك المغامرة، بل إن الشعور بهول الجريمة التي يشاركان في قبرها يكمن وراء الطاقة التي تستحوذ عليهما لطرد المخاوف ومعرفة ما تعرض له الموتى من تعذيب. حينها يبدأ الانتقام وتصفية رجال الأمن الذين يأتون مع الجثث ورميهم في مستنقع قريب. انتقل الراوي من الفعل السلبي إلى المقاومة وهي انتقالة كلفته الكثير من الشرح والاستفاضة وتسليط الضوء على حال الناس وما يتعرضون له في الشارع والسجون من اضطهاد على يد عزام جبارة في إشارة إلى اسم الرئيس.
الحوادث والمشاهد التي يقصها الراوي تشكل ذاكرة العراقيين اليومية، وعلاقة تلك الذاكرة مع السلطة لا تقتصر على سيرة القسوة فقط، بل سيرة أخرى موازية وهي جعل الحيلة والتزوير والغش والنهب، قوانين مقبولة وسائدة يحق للرئيس وابنيه وأقاربه ممارستها في كل الأوقات.
غير أن الكاتب الذي يستفيض في تسجيل واقع الحال، ينسى أن يتمثله جدلها. إن استغراقه في الوصف أنساه مهمة الدراما الأولى وهي البحث عن تقنيات تستطيع أن تكون بموازاة هذا الواقع فنياً، أو تكون على قدرة في أن تبزه وتستطيع أن تظهر مقدار التشوهات والعطب فيه. هذه المهمة هي التي بمقدورها أن تبعد عن الوصف تقريريته التي تقبل الدحض بمجرد أن نقول إنها تحوي بعض التصنع أو الكذب. فما قيمة أن تغتصب الأم أمام طفلها، مهما كان هول هذه الجريمة، لو نقلت روائياً على هيئة خبر يتكرر على لسان البطل؟ وما قيمة أن نقول إن صور الرئيس وجدارياته تزحم حياة الناس وتحولها إلى عيون ترقبهم، لو كانت مجرد منلوج يخطر في بال البطل؟
إن شروط اشتغال الرواية تضعف إن وضعت ضمن إطار الكشف عن واقع حال من دون أن تمر بمصفاة التمثل الفني، لأن الجدل والحالة هذه لا ينصب على طبيعة التقنية الأدبية، بل حول طبيعة الواقع، صدقه أو كذبه، وما يلحقها من تبعات حول مهمة الفن وقدرته على الإقناع.
يصوغ المؤلف ماضي الشخصيتين الرئيستين في الرواية بما يسمح لهما المضي بمشروع النضال إلى النهاية: الأول مساهم في اغتيال الرئيس في حادث الدجيل المشهور وهو من الأبطال الذين دوخوا رجال الاستخبارات والأمن، والثاني هارب من هول ما تعرض له وعائلته من قتل واغتصاب وتشريد غير أن القارئ يبقى يجهل ماضيهما الآخر، أي حياتهما الطبيعية من دون تشنجات أو حدود قصوى للمواقف. وهذا الحال يتكرر مع الشخصيات الجديدة التي يلتقيها البطل بعد هروبه إلى البصرة، فهم أخيار وطيبون وشجعان، وعلى ثقة ببعضهم وبالغرباء إلى الدرجة التي لا يتحملها وضع العراق الملتبس . وهكذا ستجرنا تلك الأوصاف إلى مناقشة ليست من اختصاص قراءة العمل الأدبي حين نحاول البحث في صدق واقعيته او تصنّعها.
ليس هناك بلا شك وصفة محددة لكتابة الرواية، ولكن الذي يحدد قيمة العمل الروائي لا ينحصر بمعرفة ما هو متداول في الذاكرة السياسية القريبة، فهذه الذاكرة إن لم تتخلص من نزعتها الإرشادية لتصبح مطواعة قصصياً، تشتغل على نحو عكسي فتفسد قيمة الإبلاغ فيها، مثلما تفسد اللعبة الفنية ذاتها.
والحق أن العبء الذي نحاول أن نرجعه إلى إحداثيات العراق الحالي ومسؤوليتها عن فساد العمل الفني، هو مجرد افتراض يقبل الدحض بسهولة. فسنوات القمع الطويلة والأساليب الغريبة التي استخدمتها السلطة لتطويع الناس، خلقت تلك النماذج التي تكمن في شخصيتها عنصر الدراما الحقيقي إن صح التعبير، تلك التي تحمل في داخلها صخب ذلك الازدواج الغريب بين الإعلان عن موالاتها للسلطة والانخراط في مشاريعها، وبين ما تضمره من كراهية وحقد عليها.
قابلية القراءة في العمل الروائي تكمن في اكتشاف ممكنات جديدة لضبط الأحداث المبعثرة، غير أن هذا المنهج لا يتطلب مخيلة طازجة فقط، وقدرة علمية على ترتيب الأولويات الفنية وليست الواقعية، بل إلى تدقيق تجربة الحياة وإعادة النظر في لغة تخاطبها الخاصة، أي ثقافتها التي تعكس أعرافاً وطرائق للنظر موروثة ومتداولة بين الناس. فالعراقي ينظر اليوم إلى مأساته غير ما ينظر إليها العالم، حتى ولو تشارك معه في مفهوم موحد عن التاريخ وآلية اشتغاله، والموقف من الحرية والسلطة وما إليها من حيثيات. تلك الخصوصية تبسط أمام الروائي مساحة لا حد لها من المقترحات الفنية، وخياراته لا تسير مطابقة بالضرورة مع ثقافته المحلية وحدها لأن المطابقة تلك لن تنتج تفاعلاً جدلياً معها. فصورة العامة عن أنفسهم تشبه صورتهم عن سلطتهم، مثلما صورة السلطة عن الناس الذين تسوسهم، فيها الكثير من التهاون في معرفة حوافي التماس الملتبسة في كل تلك التشابهات والاختلافات الممكنة والمستحيلة بين الجلاد والضحية في حالة مثل العراق على سبيل المثال. وهذه هي بالضبط بين أكثر المساحات رحابة لتحرك ثقافة القاص أو الشاعر أو أي فنان في كل الميادين. لغته التي يتشارك مع الشارع في تطويعها
ا والارتقاء بها من لغة عادية تقريرية إلى لغة فيها فجاجة الواقع وقباحته وعنفه، مثلما فيها من توق إلى سمو الابتكار وجنونه.
في رواية مثل رواية عبدالستار ناصر (أبو الريش) يبقى الإطار العام للعمل يؤشر إلى توق الأدب في جانب من مهمته، إلى أن حسم ذلك التشظي والارتباك في الحالة العراقية. التاريخ الذي يكتب على نحو متسارع هذه الأيام، يبدو في جانب منه وكأنه فعل عبثي، غرائبي، ويحتاج النظر فيه إلى تفتيت وقضم وتناسي الكثير من أطره العامة، كي يمسك من يتمثله فنياً بعض نثار مادته. ولكن مادة التنظيم تلك هي التي تتيح للخيارات الفنية قدرة على معرفة أطراف الصراع الاجتماعي إن أرادت أن تقاربها. وهي في الحالة العراقية من التشعب ما لا تتحمل ذلك الاختزال العجيب الذي أتت به الرواية: سلطة ومعارضة، خير وشر. لا لأن الكتابة ستنزلق إلى ثنائية قاتلة، بل لأنها حتى وإن أرادت محاكاة الواقع فهي تكذّب عبث فوضاه وغرابة أحداثه.
شارك مع أصدقائك