الحياة بوصفها نفاية مؤّولة في أعمال هاشم تايه …. طالب عبد العزيز

شارك مع أصدقائك

Loading

الحياة بوصفها نفاية مؤّولة في أعمال هاشم تايه

طالب عبد العزيز
عبر أعماله المختلفة، وفي أكثر من معرض يقدّم الفنان هاشم تايه الحياةَ بوصفها نفاية مؤوّلة، فهو يصنع مادة أشكاله مما يلفظه الإنسان في رحلته اليوميَّة، ومما انتفت الضرورة لوجوده في بيوتنا، لأنَّه يعتقد بأنَّ الوجود الإنساني برمته آيلٌ لكي يكون نفاية في الأخير، وما نحن إلا نفايات تتجدد، وتتخذ أشكالاً لن تمكث طويلاً في كتاب الجمال والقبح، إذ لا جمال أبدياً، ولا قبح نهائياً. ترى إلى مَ ستظل نفايات تايه تستفزنا وتتحققُ من وجودنا، عبر تشكّلها الخرافي في هيئاتنا وممارساتنا اليوميَّة للحياة؟
في البدء يحقُّ لنا أن نسأل ما هي النفاية، وهل من تعريف لها؟ في كتابه (النفايات- مدخل إلى الشك والخطأ والعبث) يقول جوزيف سكالان، وهو باحث أكاديمي: “إنَّها كلُّ ما يتبقى بعد انتزاع ما هو جيد، ومثمر، وقيّم، ومغذٍ، ومفيد”.
إذن، هي ما تخلّف حولنا مما كان لنا، وارتبط بقيامة حياتنا. ما فعله هاشم في أعماله، التي قاربت الثلاثين عملاً والتي جمعها على طاولة كبيرة، في ركن القاعة، وبدت كما لو أنّها قطعة الأرض التي اجتزأت من حياتنا، اجتمع الخوف والدهشة والرعب والسخرية واليقين، واليأس، والتفوق، والإحباط.. في لحظة إنسانيّة نادرة، فهو لا يرى في ما نترك من قناني الماء الفارغة وعلب السردين وأنابيب البلاستيك وأسلاك الكهرباء وغيرها إلّا تفاصيل رحلتنا من الوجود المبهم الى الوجود المعلوم، ومن التكوين الأكمل إلى الأقل كمالاً، إذ تتجدد الفكرة، وتستبدل الاشكال أدوارها، فتكون المآلاتُ الأولى والأخيرة معا مادة الخلق ثانية وثالثة والى ما لا نهاية، ذلك لأنَّ التعريف الفلسفي للنفايات يقول بأنَّها “العدميَّة التي يهربُ منها الشكل”.
في المعرض المشترك (عرقنة وأمركة) لهاشم تايه وياسين وامي والمقام على قاعة جمعية التشكيليين بالبصرة، كنت قد وقفت طويلاً عند اعمال هاشم اللافتة للنظر، هذه النفايات التي استعادت حيواتها في عملية السحق والدعس والتحطيم، فتخلقت ثانية، بآدميتها أو بوحشيتها بيننا، النفايات التي جاءت من أكثر من مكبٍّ، ورمتها أيادٍ كثيرة، وأشاحت عنها أعين لا تحصى، وعافتها النفوس.. كيف لها أنْ تملي عليَّ حياتي ثانيةً، وتهددني بمصيري؟
الهيئات المغلّفة بأوراق الصحف، هذا الجسد المكتوب، والموشوم بأحرف لا تقرأ، الاشكال التي لا يُستدلُّ عليها إلا لتزيدنا إيهاما وحيرةً.. أنَّى لها استفزاز وجودي غير المعلوم أيضاً؟
حين تسلمتُ جثة أخي، الذي قتل في الحرب، من مركز تسليم الشهداء، في المعسكر القابع عند نهاية جسر الزبير، بعد أكثر من أسبوع على مصرعه، كنتُ أعاينُ الدود وهو يدبُّ او يسقط من جسده، الآلاف منه وبحركة تتشكل على وفق الوهاد يقطع الدود رحلته في ما تبقى من اللحم والعظام، كانَ الممر الترابيِّ الذي يفصل المركز عن سيارة الاسعاف طويلاً وضيقاً، لكنه ظلَّ رطباً، دودٌ كثير سقط عليه من اجساد كثيرة. الارض تلك لا يتسلم أحدٌ منها جثةً اليوم.
سأرجئُ كتابتي عن أعمال (ياسين وامي) شريك هاشم في المعرض إلى وقت آخر، وأعترف بأنني أحببتُ جدارية القلوب المشقوقة، التي زيّنت جدار المعرض الكبير، كانت عملاً باهراً بحق، واعود الى هاشم، الذي يجدد حضورَنا في ما نراه مغبرَّاً ومشمَأزاً منه من حياتنا، إذ تؤكد أعماله هذه لنا بأننا نفايات مقبلة. يقول (سكانلان) “إنَّ لغة النفايات هي لغة النهايات”، لهذا أصبح بثُّ الحياة في المادة الميتة أسلوباً عند الفنان والنحَّات الأمريكي جوزيف كورنيل (1903 – 1972) وقد تمنحنا معاينة أعمال هاشم تايه فرصة أن نذهب الى معاينة تجارب مجاورة أخرى، فنحن في عالم يقول عنه (سكانلان) بأنّه “يزداد تخصصاً، عالمُ صقلٍ وتشذيب” العالم هذا علينا أن نتقبّله، لأنّنا نرى فيه بقايا ضروريَّة من فائض المادة الذي أُنتُزعَ من الإنتاج الاقتصادي الثمين. كل معاينة لأعمال هاشم تستدعي منا استنطاق المادة التي كانت محتوى لها ذات يوم، بعيداً خارج دائرة ما آلت إليه أمامنا، الآن.
وكمن لا تفزعه الأسئلة الكبرى، كنت كثيراً ما تحدثتُ مع هاشم عن إمكانية تغيير مادة أعماله (الكارتون وعلب السردين وقناني الماء الفارغة..) بمواد أخلدَ وأبقى، تمكّننا من الاحتفاظ بها، هكذا، مثلما كان يفعل كورنيل باستخدام الأشياء الشائعة أيضاً (النظَّارات والرخام والمرايا..) إلا أنه كان يذهب في دفاعه عنها إلى وعيٍّ مطلق، مقتضاه أنْ لا جدوى من الابقاء على شيء، في رحلة الحياة هذه، لأننا في النهاية محض نفايات، فأصدّقه وأذهب معه، ففي عالم المعرفة اليوم يقول كورنيل لا وجود للمدخلات الخاطئة “الأشياء، والأجسام، والأفكار، قد تخرج من الاستعمال، وتصبح عتقية، وتصير إلى خراب، لكنَّ نواتجها تشكل المادة الأوليَّة لأشياء جديدة”.
لا تنحصر معاينةُ أعمال هاشم تايه الأخيرة بزاوية الجميل والقبيح بقدر ما تذهب في تأملها الى الأسئلة الكبرى، حين تكون الإجابة نفاية في الكلام.
الأسئلة تلك هي التي تحدد وجودنا، وتنفتح أو تنغلق على مصائرنا، في محيط استهلاكيٍّ، بات الإنسان فيه المُسْتَهلَكَ الأكبر- الاستهلاك هنا من الهلاك- أعمال هاشم تجرّدنا من كينونتنا، وتجعلنا في مواجهة ذواتنا، فنتحسس وجوهنا وأيدينا ولغتنا قبالتها أيضاً، فهي تكشفُ ما يمكن أن نكونه في لحظة أخرى، حين نقف مجرّدين من أناقة السؤال أمام تهمة الإجابة.
شارك مع أصدقائك