أعراض جانبية…. زينب الفضالى

شارك مع أصدقائك

Loading

أعراض جانبية
زينب الفضالى
مصر

 

أمطرت السماء فشعرت بوخزات حنين متتابعة تخدش قلبها، هذا مجلسها المعتاد داخل المقهى الصغير القريب من عملها… تحتسي الشاي الساخن بنكهة الليمون المفضلة لديها.. موسيقي حالمة تدفء الأجواء وتملأ روحها خفة ووداعة… تنظر بلهفة يائسة إلى شاشة هاتفها ثم بفتور إلى اوراق عمل أمامها تتفحصها… هل سيتصل؟!… هل يذكرها ويذكر مجلسهما الدائم هنا وحديثهما المتدفق كشلال عن كل شيء وأي شيء؟!
مازالت كلماته الرقيقة تؤرق ليلها ونهارها… ترى هل يمر من هنا؟! هل يقف دقائق امام المكان حدادًا على المشاعر الموؤدة والأحلام الضائعة والأوقات المسكوبة على أرض الخوف الجرداء.. ثم يغادر؟! هل يفتقدها؟!… تعرفه جيدًا لن يتصل ابدًا حتى وإن كان يتحرق شوقًا إليها، لن تعلم بعد اليوم ما يفكر به.. ما يخطط له.. ما يشعر به… لن تختار معه الوان ملابسه وعطوره وماذا سيأكل اليوم… لن تحسم تردده في اختيار هدايا أصدقائه وأقاربه… لن تقترح عليه بعد اليوم اسم فيلمًا في السينما أو حفلاً موسيقيًا في الأوبرا او مطعمًا رائعاً يقدم بيتزا الخضروات… ثم صرخ سؤالاً داخلها يوقفها أمام مرآة الحاضر القديمة:
ألا يكفي ما أهدر من كل شيء؟!!
انتهت اخيرًا – اللعبة المميتة.. انتهت المغامرة المسكونة بالقلق والرهانات الخاسرة… من خلف الحاجز الزجاجي ترآي لها الطريق مفروشًا بسجادة صفراء هشة من الأوراق الذابلة التي سقطت صريعة دورة الحياة.، وبقيت الأغصان العارية الجافة تواجه سيل المطر بكل إباء وكبرياء… هل تنسى الأغصان اوراقها الضائعة؟!… إنها كتماثيل خشبية منحوتة بيد فنان.. ولكنها موحشة وحيدة… وكأن الكون توحد معها في لحظة حنين جارفة تكاد تعصف بها.. كما المطر يحن للأرض بعد ان رحل عنها، يأتي يبثها أشواق الأغتراب حاسمًا لنهايات محتومة وواعدًا ببدايات مزهرة… تمسكت بحسائها الساخن وراقبت الشارع الخالي… هناك على الرصيف قطتان صغيرتان تحتمي أحداهما بالأخرى… فأرتسمت شبه ابتسامة على وجهها المتعب.. النسيان واحة مشمسة بالحقيقة ستبلغها يومًا… ولكن لا…هي لا تنشد النسيان.. النسيان محو للذاكرة وهي لا تريد بتر ذاكرتها ذكرياتها هي فقط تريد تجاوزها والعبور من فوقها كما ستفعل بعد لحظات مع تلك البحيرة الغائرة التي تكونت بفعل المطرفي منتصف الشارع… أرتشفت ما بقى في فنجانها، ذابت في الموسيقى الوتريةوسلافة الطعم الحامضي اللاذع.
استنشقت بعمق عبير الليمون المنعش… كانما تتشرب ألمها قطرة قطرة… المطر لا يتوقف ويزداد غزارة… تتمنى أن تخرج إليه لتغتسل به لعلها تشفى من ذلك المس الجنوني. اقتحمها صوت ارتطام الرزاز بزجاج المقهى وكأنه نداءًا ملحًا في سيلانه وتلاحقه – يهمس لها -:
حتى وإن عاد… حتى وإن عاد… حتى وإن عاد… هو ما فعل وليس ما قال!… فانتفضت تلملم اوراقها المبعثرة وتستعد للخروج….
في سيارته متجهًا إلى عمله، المطر يعيق الرؤية ومساحات الزجاج لا تعمل… عبر الزجاج المغيش رأى طفلاً وحيدًا يحتمي بتندة محل مهترئة… أبطء السرعة شعر ببرودة مفاجئة تتخلل جلده وعظامه… هاجمته ذكرى مجلسهما وذلك المقهى الصغير ومذاق البوح لها – الذي لم يعرفه إلا معها – وعبق الليمون ينبعث مع خيط البخار الهائم من فنجان الشاي المحتضن بيديها الرقيقتين… هل تذكره؟!
هل حاولت مكالمته ولو مرة؟! كم تعذب الفترة الماضية..! إلتقط هاتفه فجاءة وراح يبحث عن إسمها في قائمة الاتصال.. تأمل الاسم الحبيب والقلب الأخضر الصغير بجانبه… لم يستطع محو إسمها ابدًا… يحاول بيديه المرتعشة أن يضغط على زر الاتصال… كم يفتقدها!! رغبة حارقة تتملكه الآن لسماع صوتها… وتسأله:
افعلت ما فعلت لأنك تخشى عليها من نفسك؟! ام تخشى على نفسك منها؟!
مسح دمعة فرت وألقى بهاتفه بعيدًا.. وفرضًا اتصل بها.. هل من كلمات باقية؟!… كيف تفكر فيه الآن؟! كيف تراه؟!… لن يعرف أبدًا.. هل من فرصة أخيرة خلف غيوم الأيام؟!… كلا لن يستطيع ولن يفعل!! كيف يواجه عينيها الموصولة بروحه؟! العقل يهرب من مجرد الذكرى والقلب يئن حنينًا وينتحب ألمًا…!! وكيف للحب أن يبقى آمنًا والخوف غول يتعقبه؟! وكيف له – أيضًا – ان يعيش بدونها؟!… يوقن أنه لا يستحقها…!! لم تكن مجرد امرأة يحبها بل هي مدينة يسكنها ويعشق دروبها وغدًا من دونها شريدًا تائهًا… القى بنفسه في جحيم من الأسئلة المبهمة والصور المتلاحقة… لقاءتهما.. إبتسامتها… همساتهما… عطرها الهادئ… مداعباته لها وخجلها البرئ… بكائه بين يديها… صورًا عزيزة تنهمر أمام عينيه والمطر لا يتوقف… كأنها سياط تجلده… والندم ذلك الخنجر المغروس بقلبه لا هو يميته ولا هو يقوى على انتزاعه… سيظل يحيى به كجزء منه… كندبة… كعاهة… كعطب في الروح.
اهتزت السيارة اهتزازًا عنيفًا لإصطدامه بمطب كبير… أفاق من إفكاره على صياح غاضب لرجل مسن يعبر الطريق:
ياسيدي حااااااسب غرقتنا….!!
لم يعره اهتمامًا ولم يلتفت… الجو يزداد برودة…
كم يحتاج الآن إلى ما أسمته هي يومًا (عناق الأيدي)
عندما استاذن ان يعانقها يوم ان مات أبوه…. كم كانت رائعة وهي تقول برقة وعذوبة:
يقولون أن خطوط الكفوف محفور عليها أقدارنا…. وإذا تعانقت إيادينا فإن اقدارنا تتعانق!!!
لحظتها مد يده ومدت يدها وتعانقا…
يومها شعر لأول مرة بالأمان… وبأنها قدره ومصيره.
فهل يهرب الإنسان من قدره ويعاند مصيره؟!!
مآساته ان الزمن لا يرجع للخلف أبدًا.
المطر والأسئلة لا يتوقفان… ودموع السماء ودموعه تحجبان الرؤية… ضجيج الطريق يخنقه… والصداع وحشًا يفترس نصف رأسه… ولكنه رغمًا عن ذلك واصل المسير…

شارك مع أصدقائك