صور المخيم
هدى المشهراوي
أبي
مطر في الخارج، هواء شديد يطرق نافذة الغرفة يفتحها وأعيد أغلاقها. أشد درفتيها إلى الداخل، تعاندني الرياح وتشدهما في الاتجاه المعاكس. مللت من المشهد ومن ذلك الشباك العصي على الاحكام لغرفة كل ما فيها آيل للسقوط. شددت الغطاء فوقي ثبته تحت جسدي لأمنع تسرب الهواء البارد إليّ. مددت يدي المرتعشة وأدرت المسجل فامتلأت جنبات البيت كله بموسيقى مقطوعة البوليرو (رافيلو) الأثيرة لدي. صخب حبيب أبعدني عن المكان وسرحت معه إلى أماكن أخرى، مروجاً خضراء وجبالاً يكلل قممها البياض، شواطئ تتلألأ زرقاء كالنجوم في عتمة الليل وبنات يرقصن تحت ضوء القمر. أغمضت عيناي لأبتعد أكثر، ورأيتني أطير في الهواء، لا أشعر ببرد ولا تعيق انطلاقي حبات المطر التي كانت تسقط فوق مسامي، تحييها وتملأها خفة، فأصير ريشة تحملها الريح، وأطير في كل الاتجاهات أرقص، وكلما دنوت نحو الأرض رفعتني الريح لأطير معها وأتمايل من جديد. هبطت، عدت إلى مكاني على وقع صرخات جدتي التي أبت أن تتركني لصفو لحظات كنت أسرقها من حاضر بائس، أهرب فيها الى أماكن أكثر رحمة من صنع الخيال. لم تتوقف جدتي عن الصراخ حتى أطفئ هذا الزعيق الذي ــ حسب رأيها طبعاً ــ يعكر صفوها.
أخرجت يدي من تحت اللحاف وأخفضت صوت المسجل، رفعت رأسي قليلا، فوقع بصري على الحائط المقابل حيث تتربع صورة لأبي يرتدي قميصاً ما زال معلقا في خزانة البيت، هو كل ما تبقى منه، حافظت عليه أمي ولم توزعه على المحتاجين كما فعلت بباقي ملابسه. بقي القميص في الخزانة وفي داخل صورة حتى يكون شاهداً حقيقياً على أن هذا الكائن المثبت على حائط قد كان. رحلت إليه، إلى أيام ليست بالبعيدة عشتها معه، حين كنت ساعده الأيمن في إدارة دكانه الصغير.
ذلك الرجل الضخم الذي عاش بقلب طفل رحل باكراً، لم تتحمل رقته قسوة الحياة. لم يدخل المدرسة أبداً، لم يتعلم الكتابة والقراءة ولا حتى الأرقام التي كان يحتاجها في عمله. لم ولن أنسى ضحكته الصاخبة وفرحته التي أنارت وأبهجت الدنيا من حولنا، حين كتب أسمه بخط يده لأول مرة، بعد أن علمناه كتابة الأحرف، لم يصدق وهو يرى إسمه مرسوما أمامه على ورقة (سعيد). كنت أسجل حسابات الدكان وديون أهل الحارة التي كان أغلب سكانها يقضون حاجاتهم بالدين ويدفعون حين ميسرة.
أنا الابنة الثالثة التي جاءت إلى الدنيا على استحياء، لم أتعجل النزول من رحم أمي رغم كل الألم الذي عانت منه في انتظاري. كأنني كنت أعتذر مسبقاً لأبي الذي حمل لقب أبو البنات منذ ولادة البنت الأولى. ربما أردت أن أخفف عنه وزر إلصاق ذلك اللقب الذي ورثه عن أمه إلى الأبد في عائلة لا تؤمن بالبنات.
ورثت جينات والدي بالتساوي، كنت الفتاة الشاطرة اللمّاحة التي تحب الكتب، وتحل كل الالغاز كأمي، وعن أبي ورثت حبه للحياة وتمتعه بكل ما هو جميل، ضحكته الهادرة وجموحه للمغامرة وحبه للناس. مثله أنا أيضاً مولعة بالغناء والموسيقى والرقص. كان أبي من هواة الطرب الأصيل ويستمع إلى عمالقة الغناء في ذلك الزمان مثل عبد المطلب، عبد الوهاب وأُم كلثوم. في الوقت نفسه كان يميل بكل جسده طرباً للأغاني الخفيفة لطروب وأُختها ميادة وأغاني صباح وغيرهم. هدى سلطان التي حملت اسمها، كانت مغنيته المفضلة. باختصار كان أبي ابن دنياه، ذو روح مرحة يحب الخفة والدعابة ولا يحتمل تعقيد الأمور، محب بتفان للحياة التي وللأسف لم تمنحه أكثر من 39 عاماً.
الأغاني الشعبية المصرية، كانت اللون الغنائي الأقرب الى قلبه خصوصا محمد رشدي وشريفة فاضل. كان في بيتنا مشغل اسطوانات يطلق الموسيقى في أرجاء الدار أغلب ساعات النهار. يحمله معه حين يذهب الى الدكان مكان عمله وعملي كمساعدة له بعد دوام المدرسة.
كنت أطرب للأغاني التي تصدح بها اسطواناته، إلا أنني لم استسغ أبداً محمد طه لم أكن أحب أغانيه الشعبية لكثرة ما كان يعيد ويزيد ويغني على نفس الوتيرة. لم أفهم بالطبع سر نفوري منه في ذلك الوقت، لكنني اليوم أستفقت على تلك الذكرى، وعرفت السر حين وجدت نفسي أدندن أغنية شفيقة ومتولي التي يتغنى بها محمد طه، ببطولة وشجاعة العسكري متولي الذي قتل أخته لسوء سلوكها. تسلطت على رأسي موسيقاها وكلماتها أيام متوالية. ربما يكون شوقي لأبي هو الذي أثار شجوني وأخذني اليه بعد أن شغلتني الدنيا عنه، وأبعدتني عن زيارة قبره القصي، الأمر الذي جعل ذكراه تتلاشى بعيداً. عاودني ظله اليوم شغل قلبي وعقلي ولم أدر إلا وأنا أدندن كلمات تلك الأغنية القديمة التي كنت أسمعها معه.
صغيرة كنت ولم أنتبه حينها أو أفكر في كلمات تلك الأغنية وما تحمله من دم وتكريس لمفهوم الشرف وغسل العار. تجمدت في مكاني وأنا اردد تلك البشاعة وكل ذلك العنف في كلام مغنى. رحم الله أبي الذي كان مفطوراً على الحب والحنان ولم يكن ليقدر على قتل نملة.
سنين كثيرة تفصلني اليوم عن تلك الذكرى، عن ذلك الإرث الشعبي الذي كبرنا على قصصه وحكاياته وأمثاله. عن الكثير من الأهازيج والأغاني التي زرعت في وجداننا أن أمثال هذا القاتل أبطال شرف، يستحقون أوسمة في الشجاعة بدل السجن.
أخاف أتصبب عرقاً ورعباً، لأن هذا القاتل وأسطورته ما زال يعيش بيننا، بطلاً في وعينا وفي أعين الكثيرين.
لو يعود الزمن بي، لو أمحو تلك الصورة من الذاكرة، ليس من ذاكرتي وحسب، بل من الذاكرة الجمعية التي كبرت معنا. أرسم مكانها حقولاً خضراء، وزهوراً صفراء، بيضاء حمراء وبنفسجية، سهولاً واسعة تموج بالسنابل، وهضاب مكللة بالحب، تحت أشجارها عناق وضحكات وقبل. لو أرسم نجوماً تتلألأ، تحرس شواطئ ترقص على رمالها بنات سمراوات يشبهننا، يتمايلن بشعورهن المنفلتة الحرة الجميلة على وقع نغمات البوليرو وتحت القمر