زمن عبد الحليم حافظ.. فاطمة المحسن

شارك مع أصدقائك

Loading

زمن عبد الحليم حافظ

فاطمة المحسن
أدرك عبد الناصر أهمية ثقافة الحب الشبابية التي تشيعها أغنية عبد الحليم، فسعى إلى إعادة برمجتها سياسياً
……
أهدى المخرج محمد خان فيلمه ” زوجة رجل مهم” إلى زمن عبد الحليم حافظ. كان بطل الفيلم رجل مباحث من المرحلة الناصرية، وبطلته ميرفت أمين التي مثلت مع عبد الحليم في فيلم من أفلامه الناجحة. لعل في الإهداء ضربة معلم كما يقول المصريون، فكيف لفنان وهو يقارب مرارة الزمن الناصري،أن يتنكّر للجميل فيه، وبين أجمل ما انتجته تلك السنوات، ظاهرة عبد الحليم حافظ.
ذكرّنّي بعبد الحليم حافظ مغني هندي، وأنا لا أحب من الأفلام الهندية سوى مسرح أغانيها، إنها الجنان الشرقية بحق، الوهم المجسّد بمسرح مضاعف، مولتي مسرح، تختفي فيه الفتاة الجميلة وتظهر بثوب جديد،ومعها النساء بخلاخيلهن وآياديهن الثعبانية وانتظامهن في حركات ساحرة مثل جنيّات ألف ليلة وليلة. المغني الهندي يشبه عبد الحليم في الصورة،وهو عابس مثله ويغني مغلق العينين. لا أخمن مدى الجمال في صوته، لأن المغنين الهنود تتشابه أصواتهم في الأفلام.
لم أكن أنظر إلى عبد الحليم حافظ في مراهقتي كما تراه صديقاتي، معشوقا وليس صوتا فقط ينطق بأحلامهن، فقد كانت صور جيفارا تحتل كل فضاء غرفتي، ولا تترك لسواه حصة. عندما أستعيد اليوم صوت عبد الحليم حافظ، أراكم حصة الثقافة المصرية في زمن ملتبس، في ارتباك تلك الأوقات التي كانت تكتب وتمحي ماضيها، ماضي نهضتها التي مكثت تداوره وتحاوره حتى محت أثاره أو كادت.
عبد الحليم حافظ كان يباغت عشاق أغانيه، فلم يكن مثل عبد الوهاب او أم كلثوم،وحتى فريد الأطرش، فهؤلاء يبدون وكأنهم على ثبات في موقعهم، زمنهم الشرقي متطاول، أمتد به العمر حتى هرموا مع نجاحات تلاحقهم في عز شيخوختهم. في حين كان إيقاع زمن عبد الحليم سريعا ومباغتاً، ولعله اكتمل في موت يشبه أغانيه الحزينة والمفرحة في الوقت ذاته، حيث يموت الحب فيها وهو في عز اكتماله. كان الحب في أغاني عبد الحليم حافظ ممكناً وممتنعاً، سهلاً ولاذعاً حتى يبدو خلف الشباك أو وراء الباب، ولكنه هش وقابل للهجر.
أدرك عبد الناصر أهمية ثقافة الحب الشبابية التي تشيعها أغنية عبد الحليم، فسعى إلى إعادة برمجتها سياسياً، فكان بحكم صلته الوثيقة بحليم، يطلب منه أغنية ويضع الخطوط العريضة لكلماتها التي تناسب كل منجز جديد للثورة.وكما جاء في مذكرات محمد حمزة، مؤلف أغاني حليم الناجحة، ينصرف المؤلف والملحن والمغني إلى تلبية طلب الرئيس. لم تكن معظم تلك الأغاني بروبوغاندا خالصة، فهي محمّلة بنكهة حضارية،وكلمات المديح مواربة ولا تصدم الذوق، وهذا سر شيوعها. كان عبد الحليم يدرك أن شعبية زعيمه لا تحتاج كلاماً ساذجاً كما فعل المغنون في بلدان أخرى، ولعلنا لا نعرف إلى اليوم من كان يستمد من الآخر وهج العاطفة الجماهيرية، الزعيم أم المغني؟ بيد أن الزمن يبقى حكماً، سواء في عدله أو ظلمه، وهكذا ذهبت بعض أغنيات عبد الحليم الوطنية إلى النسيان، مثلما ذهبت تلك الإنجازات. ربما كانت تلك الإنجازات تشبه أغاني عبد الحليم الموعودة بالفراق. عندما حاولت التلفزيونات استعادتها بعد الانتفاضة، لم تكن سوى في مطرح آخر منها، فبدت وكأنها محض صوت لمن لا صوت لهم بين جماهير الشباب، في حين بقيت أغانيه العاطفية ترددها الأصوات النسائية والرجالية الشابة إلى اليوم.
الحب في كل زمن هو صورة من صور الثقافة، ولعل مفهوم المجتمع عن الحب الذي تسجله الأغاني، أقرب إلى سجلات سيرة المجتمع السرية والعلنية. ولا يمكننا أن ندرك قماشة تلك الثقافة دون أن نعرف التباس الدورين الانفعالي والموضوعي في الحب، فالأول هو جماع الفطرة التي يعممها الذوق السائد، أو الذوق الشخصي، والثاني تفرضه ظروف معينة، ففرق بين سطور حب تكتب في مجتمع متوتر وآخر مستقر، أو تلك التي تقال وسط طبيعة باذخة وأخرى شحيحة،أو غنية وفقيرة.،ولكن الخيال التأليفي والموسيقي يتخطى كل العقبات. فهل كانت أغاني الحب التي غناها عبد الحليم تتمثل مرحلة حضارية كان يعيشها المجتمع المصري والعربي عموما، ام كانت تتجاوزه؟ ربما كان لأغاني عبد الحليم حافظ دور في برمجة مشاعر الحب عند الشباب، شأنه شأن كل مغن جماهيري،ولكنها تبقى في النهاية نتاج ثقافة ذاك الزمان، ثقافة الميني جوب، وحرية تنوس بين القبول والرفض.
حكاية الحب في أغاني عبد الحليم تبدأ من منتصفها، فهو يعيش حلم الحب ويفسره بأوصاف تناسب طالبة مدرسة أو جامعة، شعرها حرير وعلى الخدود يهفهف. ولن تجد اليوم في شارع شعبي بمصر من تسير برشاقة وشعرها يطير مع الريح، فقد اختفت الفتيات خلف جبة تستر شعرهن وجسدهن المتهالك وتبدل ذوقهن. حاولت السينما والمسلسلات المصرية تدارك خيبة شارع محمد علي في قلب العاصمة، حيث لن تجد سوى نساء سمينات ينضحن عرق الحر والغبار. وعلى النيل تتمخطر الشابات بحجاب لا يعلن عن ما نشاهده في السينما، ولكن الغريب يلحظ ظاهرة غريبة، وهي أن كل اللواتي يقفن على النيل مع عشاقهن، محجبات.
يستعين المخرجون اليوم بالبيوت والشاليهات الفارهة وبنات الذوات اللواتي ما زلن على ثبات مع زمن عبد الحليم حافظ. كنا قد نسينا نحن الجيل الذي نشأ مطلع شبابه على تلك الفترة التي تسمى ذهبية، ولم تكن ذهبية في كل أحوالها، ولكنها تغدو أكثر من هذا في ما يتعلق بحرية المرأة وذائقة الناس وعلاقات الحب، إن قيست بزمننا العربي الذي نعيشه. ومن علامات ذلك النسيان صورة المرأة المصرية بين جمهور المستمعين التي شاهدتها بالصدفة في أغنية لأم كلثوم، ربما سجلتها في الستينات. استمعت إلى تلك المقاطع المملة التي تعيدها بإصرار كي أحظى بلقطات أرى من خلالها جمهورها ” أنساك دا كلام” . كانت نسبة النساء بين الجمهور تزيد على النصف، ومعظمهن يرتدين أجمل الملابس وأكثرها أناقة وجرأة. تضع المرأة الساق على الساق، وتدخن السجائر في حدائق الجيزة. أين تقع تلك الحدائق اليوم، شاهدت ما يشبهها في سفرات إلى القاهرة، تنام فيها العوائل الفقيرة، ويأكل الغلابة على عشبها خبزهم بأيادٍ معجونة بالتراب والمرق.
في الأيام الأولى للإنتفاضة المصرية، تغير المشهد، وخرجت الفتيات من جب الحجاب، ولكن المشهد سرعان ما تبدل بعد الأسبوع الأول، فظهرت المحجبات والمنقبّات، فكان الشارع المصري، وهو يستعيد السيطرة على التظاهرات، قد محى المشهد الأول، أو كاد. ولكن التنوع والقبول بالإختلاف كان سمته اللافتة، وهي على الأرجح مؤجلة إلى حين.
عبد الحليم مات فخرجت الجماهير بالألوف لتوديعه، ومن بمقدوره اليوم أن يودع مغنياً بهذه الحشود. قفزت فتاة من شرفة بيتها وماتت على اسفلت الشارع، مر الموكب وصورت الكاميرات تحول حزني إلى ضحك لم أعرف سره، لماذا امتلكت تلك القسوة ؟ ربما لانني خلته فيلما ميلودراميا مثل أفلامه.
تصدح الموسيقى في فضاء الحدائق الغنّاء” أنساك دا كلام” وأنا أصبر على هذا الملل الذي ينغّص علي الصورة التي أريد الإمساك بها كاملة دون نقصان، صورة تلك المرأة التي تشبه طلتها الرائعة، فاتن حمامة او لبنى عبد العزيز او ناديا لطفي. الدانتيل الذي يحز الخصر ويعري الأكتاف، التنورة الفارهة التي لم ينجح الأبيض والأسود محو قرنصاتها . لم تكن المرأة التي ترصدها عيني، وحدها بهذا الجمال القادم من زمن غابر، فنساء الحدائق تلك كن نائيات حتى خلتهن قادمات من زمن أسطوري، زمن حلمي تومض فيه الذبذبات الضوئية لتعبر ذاكرة العدم.
بيد أننا نمتلك الذرائع دائما كي نمسك الأزمنة الهاربة، تلك التي تكون هنا وهناك، في هذا النأي عن النفس، وفي ذاك التشكّل من هباء التوقع. توقع أن تحلم بحلم الماضي، وإلا كيف لنا أن نعشق مصر المحلومة من ذاكرة السينما والكتب.
أقسم أنني خطوت على اسفلت الأسكندرية بعربة يجرها حصان. هل حدث هذا وأنا اتتبع خطوات “جوستين” في غدوها ورواحها . متى حدث هذا، في حلم القراءة أم خلف شاشة يوسف شاهين وهو يصور فيلماً لأندريا شديد. اختلطت عندي الذاكرات، وأنا أجرجر معي في ما خفي في رأسي صورة يحي حقي الذي علّمني أبجدية الكتابة. أدركته بعد أن غبر زمنه، ولكني أحتفظ إلى اليوم بمجموعته القصصية، أنقلها من منفى الى آخر. لم أعد إليها، ولم أكتب عنه. كنت أخاف اكتشاف ما لم اكتشفه في معلمي الأول. هل جاء عبد الحليم بعده أم قبله، وأنا أستمع إلى صوته في سطح من سطوح الصيف ببغداد؟ كنت اقرأ كلمات يحي حقي، فانقلبت الموجة وجاء صوت عبد الوهاب . حزنت في البداية ولكن الليل الساجي ساعدني على ان أستمع جيدا لبيت لا أنساه ” إن يكن مر وحيا من بعيد أو قريب / فصفيه وأعيدي وصفه فهو حبيبي” كيلوباترا لم ألمح طيفها في مصر، ولا عرفت دربها حين زرت القاهرة مرات. كل نساء الفراعنة يشبهنها في المتحف البريطاني أو في الجيزة حيث تربض الأهرام. فهي إذن قادمة صدفة من زمن عبد الحليم ذاك. يوم عَلِقتُ بحلم من أحلام المراهقة، وأنا أمخر عباب النيل في مركب سكران.
All reactions:

You, نعمان المحسن, Mushtaq Al-Abedi and 69 others

13 comments
Love

Comment
View more comments

 

شارك مع أصدقائك