الحاجة إلى الإله

شارك مع أصدقائك

Loading

أحمد الكناني

 

عن أيّ أله نتحدث؟

الآلهة متعددة بتعدد أذهان البشر!

والحاجة اليها تختلف باختلاف أمزجة البشر أنفسهم.

فلابد من تعيين الموضوع أولاً ثم الحكم عليه آخراً.

هذا هو السؤال الأكبر في موضوع الاله، وعليه مدار الدراسات الحديثة في علم النفس الديني وكذلك أبحاث الاجتماع الديني.

ولماذا جعلوه ضمن موضوعة الدين؟

باعتبار ان الله هو محور الأديان، وعليه بنى رجال الدين معتقداتهم الدينية، تصوراَ منهم ان الله يخصهم وحدهم وصورته تلك المرسومة في كتبهم السماوية.

القضية أعمق من تصوراتهم …

حينما يتكلم أيٌّ منّا عن الله فأنه يرمز الى شيء متصوَّر عن الله في ذهنه، ومن دون تلك التصورات لا يمكن الحديث عن الله، والتصورات بطبيعة الحال تختلف باختلاف طبيعة الذهن البشري، فهناك تصور أكثر معقولية ومقبولية من الآخر، وهذا معناه ان لكلٍ منّا آلهه الخاص.

وبحسب نتائج أبحاث المختصين في علم النفس الديني فان التصورات عن الله لها منابع شتى احداها: انها تنشأ في مرحلة الطفولة والتربية المصاحبة لها، والظروف المحيطة بها؛ كل ذلك يصيغ صورة الله في الذهن، كما هو رأي هانز آيزنك فيما كتبه في علم النفس الديني.

والتصورات عن الله لا تختص باهل الدين من المنشغلين بعلم الكلام واللاهوت ليطلقوا الاحكام على مخالفيهم؛ فهناك إله الفلاسفة واله المتصوفة، وللفقهاء إلههم أيضا، وقد يجحد أحدهم باله الأديان لكنه يوْمن باله ارسطو وهكذا..

 فالحديث عن الله يأخذ ابعاداً مختلفة:

بُعد مفهومي: وهو البعد الفلسفي وحديث الفلاسفة عن الله الواجب الوجود.

بُعد تجربي: وهو البعد العرفاني وحديث العرفاء والمتصوفة عن الله من خلال تجاربهم الاشراقية.

بُعد افعالي: وهو البعد الديني ولغة المتون الدينية و حديث الأنبياء عن الله الخالق للكون والمنزل للمطر وانباته للزرع.

وكل تلك الابعاد هي ابعاد إنسانية، وكلام انساني حول الله لا يعدو كونه رمز ونموذج ليس أكثر، ولا يشير الى حقيقة خارجية واحدة.

ولو ناقشنا من احتكر الإله وسّوقه الينا كبضاعة مزجاة ضمن الدائرة الإسلامية نرى ان شكل الاله الذي يتصدر الأبحاث الأصولية والمدونات الفقهية هو متحوّر عن تلك الصورة التي رسمها الأنبياء وانعكست في آيات القرآن، بعد مروره عبر فلترات فلسفية وكلامية، واخضاعه لأبحاث معمقة في أصول الفقه تبلور لنا الهاً رباً خالقاً متأنساً مشرّعا للأحكام في كل صغيرة وكبيرة وما من واقعة الا وله فيها حكم.

لا ادعي السنخية والتطابق بين الالهين اله القرآن والاله الذي صاغه الفقهاء؛ لكن هناك مشتركات وصفات بين الإلهين، وتبقى الصورة هي ذاتها في الأصل مع رتوشات ادخلها رسام بارع ليكون هو وبمرور الأيام جزء اللوحة لا ينفك عنها تتراءى للناظر وكأنها هو، ذلك هو اله الفقهاء.

صورة الاله الفقيه تطورت واخذت ابعادا أوسع وصلت الى حد جلوس الفقيه مجلس الاله وبصلاحيات تامة، واله القرآن ليس كذلك، لكن الصورة القرآنية للإله المشرع كانت وما تزال حاضرة في واقع الناس المعاش أحكاما وتكاليف ملزمة للمشافهين ومن بلغ…

وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَنۢ بَلَغ

اله الفقهاء مكانه في السماء يصدر أوامره من الأعلى بمراسيم مولوية قاطعة لعبيده الذين لا حيلة لهم سوى الطاعة العمياء لمولاهم العادل حتى في الأوامر التي يبدو منها بوادر الظلم؛ لأنه مالك يتصرف في ملكه كيف يشاء، فلا يُتصور الظلم فيما يفعله في ملكه، ولو قطع أيديهم وارجلهم من خلاف، ما دامت العدالة تمارس ضمن دائرة المولوية.

من هنا اشترطوا الصدور من الأعلى الى الأدنى في صحة لفظ الامر وانه دال على الوجوب والالزام والفورية، بمقتضى علاقة المولوية.

اله في السماء ثابت منذ الازل وانسان في الأرض يتحرك ويتفاعل مع مجريات الأمور وتغير الازمان والأماكن، من هنا تبدأ مأساة هذا العبد اذ يتلقى الأوامر الثابتة من الأعلى ويراها لا تتناسب مع متطلباته الفكرية والجسمانية؛ لأنها تحاكي انسان في زمان ما وبقعة ما لا ينتمي اليها، لكن هناك من يمثله في الأرض تمر الأوامر من خلاله وهو الأدرى بمصلحته وعليه الامتثال اليها والا فالنيران مستعرة وخزنتها في سؤال دائم: هَلِ امتلأت؟ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ.

ومن خلال المدوَّنات الكلامية تتجلّى صور الله المتكثّرة، وعلى أثرها تشظّى المسلمون طرائق قدداً، وكلٌّ يرى أن صورة الله في ذهنه هي الصورة الناصعة، وغيرها غامضة مشوشة، صورة رسمها في ذهنه وآمن بها و كفّر الاخر لرسمه صورة الله على غير تلك المطبوعة في ذهنه، وكأن ذهن ابن تيمية مثلا هو الذي خوّله الله لرسم صورته حصرا، وكأن حقوق رسم لوحة الاله من مختصاته وحده، ولا يحق لغيره رسم صورة مغايرة.

تكمنُ الآفة الكبرى في الاعتقاد البشري بأنَّه قد أدرك المُطْلَق، وأنَّ إدراكه هو الإدراكُ الصحيح الذي يملك حقيقة صورة الإله، والحال ان القصة ليست كذلك، بل هي أعمق بكثير ممن تتصوره اذهان من اعطى الحق لنفسه للحديث حصراً عن الله دون غيره وهم المتكلمون على الخصوص، بعدها تعدّت الى الفقهاء والاصوليين ليجلسوا مكان الله ويقوموا مقامه ولتصبح كلمة الله تحكم سير الإنسانِ في كل حركاته وسكناته، والحال ان التشريعات بمجملها من بناة أفكار الفقهاء ولا دخل للإله بها على الاطلاق.

وبالرؤية من منظر اعلى لاسم الله لمشاهدة ابعاد الصورة كاملة  ، ينبغي معرفة اسم الله خارج اسوار المعاني اللغوية التي توصف الاله بناء على ما يقوله العرب، ومن خارج توصيف القرآن لله  كذات محورية تدور حولها الآيات وتوضّحه من خلال افعاله وما قام به في الأمم السابقة وما يقوم به ، رؤية تنظر الى اسم الله بمستوى أوسع وارفع ، حينها نراه غير متضمن لمعنى العبودية كما يقره اللغويين في قواميسهم، لان هذا التصوّر مبتنٍ على ما يطلقونه العرب على اصنامهم ويشيرون الى امر محسوس بأنه اله يعبدونه ليقربهم من الله زلفى ، تصور لإله محدود يشير الى اله مطلق وكلاهما يوصف بأنه اله.

حينها نراه ايضاً ليس باسم علم جامع لصفات الالوهية كما يقرّه المتكلمون؛ بناء على الاوصاف المذكورة في القرآن التي تحاكي صفات البشر.

بل اكثر من ذلك لا وجود لتوصيف لله في القرآن، لان اصطلاح الصفة من فعل الوصف بمعنى التوصيف والبيان، وما جاء في القرآن تصوير بصورة الاسم الوصفي، وفرق بين اطلاق الوصف و وصف الاسم، وما موجود في القرآن أسماء للإله وليست صفات.

ومقولة الصفات الإلهية في الإسلام ظهرت بتأثير من مذهب التثليث المسيحي؛ وكما يقول ولفسون جاءت نتيجة للمناظرات التي نقلها ابن ميمون في كتابه دلالة الحائرين الذي اشتمل على تفاصيل مجادلات المسلمين حول مشكلة الصفات الإلهية، واستخدم اصطلاح الصفة والذي يعكس اللفظ اليوناني المستخدم بما يتعلق بالتثليث.

وينقل ولفسون مقولة وليم اوكام في الصفات والاسماء، ويصحح تلك المقولة بأن لا وجود لمشكلة الصفات طالما ان المقصود هو الاسم لا الصفة:

” هكذا كان اوكام ينظر  الى لفظ الصفات على انه لفظ مستحدث جاء ليحل محل لفظ الأسماء ، ويوضح اوكام دون ان يخطئ في ذلك أنه لم تكن هناك مشكلة خاصة بعلاقة الصفات بالله طالما كان لفظ الأسماء مستخدما بدلا من لفظ الصفات ، اذ ان المشكلة أثيرت مع ادخال لفظ الصفات ، وهكذا كان لاستخدام لفظ الصفة ولإثارة مشكلة الصفات في الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط اصولهما في الترجمة اللاتينية لكتاب ابن ميمون، هذه الكيفية التي دخلت بها مشكلة الصفات الإلهية عند المسلمين الى الفلسفة المسيحية الوسيطة ، ومن الفلسفة المسيحية الوسيطة عبر ديكارت، والفلسفة اليهودية الوسيطة عبر سبينوزا دخلت الى الفلسفة الحديثة فيما بعد”.(١)

لا حاجة إلى الإلهة

تموت الالهة من تلقاء نفسها بعد ان يسطع نورها ليصل الى اعنان السماء، ثم تهبط الى الدرك الأسفل حتى لا تكاد تُبِين،

وبعد قبضة تامة ومحكمة على مقاليد أمور الانسان الى حدّ العبودية، تبدأ المنازلة الشرسة بين الانسان والالهة وتكون الغالبة دائماً للإنسان؛ لأن الآلهة تدخل لملئ الفراغات بين الانسان ومحيطه لإيجاد حالة من التنظيم لشؤون الحياة، وبعد استغلال تلك الفضاءات والتمادي فيها بطريقة تسلب حرية الانسان.. هنا يأتي الوعي الإنساني ليحل محل الاله، بعد ان يدعه وشأنه الى مصيره المحتوم ليموت تدريجياً، والحقيقة ان موت الالهة يعني خروجها من حياة الانسان، والاعلان عن موتها يأتي ضمن هذا السياق.

نتشيه عندما صدح بمقولته ” لقد مات الله ” تكرر صداها عند سارتر ومَن سار على نهجه ممن يروَن ان الفجوات التي كانت تملؤها الالهة قد مُلِئت بالوعي البشري، وان النظّارة الإلهية لم تَعُد تنفع لرؤية الأشياء بعد ان كانت تُرى من خلالها؛ فالرؤية البصرية الحادّة للإنسان صارت ترى حقيقة الأشياء دون الحاجة الى منظار إلهي …

هؤلاء الذين حضروا جنازة الله في الحقيقة انهم وضعوا عوينات الله على نعشه بدلاً من الزهور، وأعلنوا أن لا حاجة لنا بها بعد اليوم.

الله العنوان

ما نحتاجه اليوم هو العنوان

الله هو العنوان المشار اليه بلفظ الله ، وهو عنوان على قدر عال من الأهمية ، بعض النظر عما يعتريه من  الأسماء والصفات الذاتية والعرضية ، وهي ليست بذات أهمية تُذكر ، رغم الجدل الطويل بلا طائل، وينبغي حصر النظر اليه من زاوية كونه عنوان ومثال؛ لان العناوين والمُثل العليا لها قيمة في حياة الانسان ، بل الانسان يعيش من اجل تلك العناوين والمثل ، كعنوان الاُم الذي يملأ حياة الانسان معنوياً ، بعض النظر عن بعدها الجسماني والصفاتي، والبيت الذي هو عنوان السكن والسكينة لا البيت بجدرانه وأثاثه، والوطن بعنوانه ورمزيته لا الوطن بأرضه وترابه ومياهه؛ كذلك الله الملهم.

اسم الله له أهمية خاصة عند الانسان وله ميزة الهامية وقيمة معنوية، دون الالتفات الى معرفة صاحب الاسم بميزاته وتشخيصاته وصفاته.

ولذا ينبغي الحفاظ على العنوان وتصحيح التصور عنه لأنه ضروري لإنسانية الانسان.

والبحث عن الله لابد ان يكون في العدم ليفهم منه الوجود، اذ لا معنى للوجود من دون العدم، بل هو أساس الوجود، هكذا يقول من غاص في الأعماق من فلاسفة وفلاسفة دين وأصحاب تجارب روحانية.

أبو حامد الغزالي في تأملاته في الآية الثامنة والثمانين من سورة القصص: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ يرى ان لا وجود الا هو، وكل شيء سواه إذا اعتُبِر ذاته من حيث ذاته فهو عدم محض؛ وإذا اعتبر من الوجه الذي يسرى إليه الوجود من الأول الحق رؤيَّ موجوداً لا في ذاته لكن من الوجه الذي يلي موجده، فيكون الموجود وجه الله تعالى فقط.

فلكل شيء وجهان: وجه إلى نفسه ووجه إلى ربه؛ فهو باعتبار وجه نفسه عدم، وباعتبار وجه الله تعالى موجود. فإذن لا موجود إلا الله تعالى ووجهه. (٢)

لكن بما الانسان انسان فلا مناص من الإشارة إلى شيء موجود، ولا خيار له غير ذلك مهما حَلَّقَ الانسان بروحانيته يبقى ضمن اطر الانسان المحدودة ولو كان نبياَ او فيلسوفاَ او عارفاً؛ كونه يعبّر عن شعوره بأدوات التعبير من الالفاظ والرموز، وكلها عاجزة عن وصف العنوان.

لكن يبقى الله سر مرموز مجهول، الا ان المجهولية لا تمثل عائقاَ في طريق معرفة العارفين، ولا حرج على الباحث في الظلمة لسد حاجة او ارواء رمق وان لم يعثر على أثر، لأنه يعلم انه لا يعلم وهو مقام جليل، وفرق بين من لا تعنيه مسألة البحث عن الله فلا حاجة الى البحث في الظلمة او الضوء فهو لا يعلم ، وبين من تعنيه الحاجة الى عنوان الله فيقصد البوار ويسلك الاغوار فيحار امام تعدد الطرق ، حينها يعلم انه لا يعلم وتلك هي حدود المعرفة البشرية.

ولذا يمثّل الله سر العالم وسيبقى كذلك.

 

المصادر:

(١) ولفسون، فلسفة المتكلمين، ج١ص٤٨٣

(٢) أبو حامد الغزالي، مشكاة الانوار، باهتمام وترجمة إنكليزية ديفيد بوشمان ١٩٩٨، ص

شارك مع أصدقائك