بقلم: بروفيسور إبراهيم طه
دائرة التشخيص: ثلاثة مستويات
الشخصيّة المركزية في الرواية، هي بصفة أو بأخرى، جمعيّة. وهي تتشكّل من محمد الأعفم وسلوى الأعفم. ذكر وأنثى. محمد الأعفم عازب في الستينيّات من عمره وهو لذلك مشروع ضعف وعجز، أما هي فشابّة، تبلغ من العمر نصف ما هو يبلغ، تفاجئ محمد الأعفم بجرأتها وجموحها.
ولعلّ هذا التشخيص المؤسّس على ثلاثة مستويات من التقسيم (الجندر: من ذكر وأنثى، العمر: من كهل وشابّة، القدرة: من مشروع ضعف ومشروع جموح) هو من ضرورات الغاية التي تسعى الشخصيّة الجمعيّة إلى تحقيقها مثلما سنبيّن لاحقًا.
نكتفي في هذه الدائرة بتحديد هويّة الشخصيّة المركزيّة والتعريف بها في خطوط عريضة.
نذكّر فقط بأنّ هذه الشخصية المركزية استجابت لكلّ المعايير والضوابط التي حدّدناها لتحديد هويّة الشخصيّة المركزيّة وهي: المعيار الكمّيّ التراكميّ ما يعني حضور محمد وسلوى الأعفمين على امتداد النصّ كله، وإن كان محمد الأعفم قد سبق سلوى في حضوره لأنه أصلا يعود إلى مرحلة الطفولة.
أما سلوى فتظهر متأخّرة قليلا لكي تكون امتدادًا لمحمد الأعفم. أما معيار التأثّر والتأثير فواضح تمامًا في تشابك العلاقة وتطوّرها بين محمد وسلوى الأعفمين إلى حدّ يظهران عنده كشخصية واحدة ملتحمة لا تكونان على انفصال في نهاية الرواية.
حتى أنّ الصوت صار واحدًا ينطلق من حنجرة واحدة في المقطع الختاميّ للرواية. أما المعيار القرائيّ فهو في المحصّلة الأخيرة نتاج المعايير السابقة.
ما يعني أنّ احتفال القارئ واحتفاءه وانفعاله بالشخصيّة، التي يجعلها الكاتب مركزيّة، مردودٌ بالضرورة إلى كونها تراكميّة امتداديّة في حضورها وفاعلة في قوّة تأثيرها على مجريات الأحداث وتأثّرها بها.
دائرة السعي: العودة ثلاثة أشكال
محمد وسلوى الأعفم في الأصل من قرية المنارة (ميعار) المهجّرة أهلها. يحلمان بالمنارة والعودة إليها. والمنارة قد خرّبتها إسرائيل وهجّرت أهلها. والعودة في هذه الرواية على ثلاثة أشكال:
العودة الحقيقيّة والكاملة التي لا تكون إلا باستعادة المنارة وعودة أهلها المهجّرين للسكن بها وإحيائها من جديد كما كانت قبل التهجير والتخريب. وهذا بالضبط أقصى ما تطمح إليه الشخصيّتان المركزيّتان محمد وسلوى الأعفمان.
العودة المؤقّتة. وهذا النمط من “العودات” يحصل في الرواية. ويبدو أنّ محمد الأعفم يحرص باستمرار على زيارة المنارة من حين إلى آخر منذ كان صبيًا أو طفلا. ولعلّ أول عودة له إلى المنارة كانت برفقة حمدة حين كان طفلا. وغاية هذا النمط من العودة هي التأكيد على الحضور المادّيّ الجغرافيّ للمنارة في القلب والوعي، من باب “القريب من العين قريبٌ من القلب”.
إذا كان الحديث عن “عودات” مؤقّتة إلى المنارة، وليس عن عودة واحدة، فهذا يعني الرغبة في التذكير، تذكير الشخصيّتين المركزيّتين بوجود المنارة جغرافيًا وحضورها المادّي.
العودة بالوعي عبر الحلم. وهذا النمط حاضر بقوّة أيضًا على امتداد الرواية كلها. حتى أنه يشكّل المقطع الختاميّ في الرواية. وهو مثلما يبدو يشكّل بديلا مؤقّتًا أو مرحليًا فقط لتحقيق النمط الأول من العودة.
وهكذا يظهر أنّ النمط الثاني والثالث من العودة، أي تأكيد حضورها الجغرافيّ المادّيّ (في الحواسّ) وتأكيد حضورها في الحلم (في الوعي والذاكرة)، هما الطريق المستقيم والمؤكّد الموصل إلى النمط الأول من العودة (إحياء المنارة بعودة أهلها المهجّرين).
ولعلّ أول ما تحتاجه العودة، كغاية قصوى تطمح الشخصيّة المركزيّة إلى تحقيقها في النصّ، هو هذا الجمع بين الشخصيتين محمد وسلوى لتشكّلا شخصيّة جمعيّة أو كلًا واحدًا لا يكونان على انفصال.
الجميل في هذه الرواية أنّ البقاء في هذه المنطقة الوسطى بين الحقيقة والحلم يستدعي ممارسات أرضيّة عمليّة وإلا سيكون محمّد الأعفم حالة مَرَضيّة، شخصيّة مهوّسة موهومة مقطوعة غير موصولة.
وإذا كان محمد الأعفم حالة مَرَضيّة فعلا فكيف نفسّر كلّ ما فعله إذًا من فعل معقول ومنطقيّ على امتداد الرواية كلّها؟!
وحتى لا يكون محمد الأعفم حالة كهذه أجاء الكاتب سلوى الأعفم إلى عمق النصّ لتحقّق توازنه وتجسّد صفاء ذهنه وعمق وعيه. أجاءها لتشكّل المعادل الموضوعيّ للمنارة، المعادل الجسديّ والروحيّ على حدّ سواء. سلوى الأعفم هي “امرأة المنارة” كما يسمّيها وهي في أصلها من المنارة أيضًا كمحمّد الأعفم نفسه. هي الحقيقة الثانية المؤجّلة المؤقّتة المستبدلة التعويضيّة، هي المنارة المنتظرة التي يمارس محمّد الأعفم وجوده الجسديّ والروحيّ والإدراكيّ من خلالها.
ولذلك كان اسمها سلوى تُذهب الغمّ والهمّ وتُنسيه. وهي مثله تمامًا ترى فيه منارتها المؤجّلة. هكذا تتأسّس العلاقة بين الأعفمين، محمّد وسلوى، على رغبة متبادلة في ممارسة طقوس الخروج من الحلم إلى الحقيقة وبالعكس (329 – 354). هذه الممارسات الجامحة المشبعة بالرغبة في الدخول والخروج من الحلم والحقيقة حوّلت الشخصيّتين إلى حالة واحدة، كيان موحّد في فصل الحلم (355 – 365) الفصل الختاميّ من الرواية.
ولم يكن “الحلم”، هو خاتمة الفصول في الرواية، صدفة بطبيعة الحال فيه يتوحّد الأعفمان في وحدة صوفيّة غريبة. هذا التوحّد الصوفيّ في نهاية الرواية هو توحّد متخيّل محلوم به، هو توحّد رمزيّ.
وفعل الترميز في هذا مردود إلى وعي الشخصيّتين، محمّد وسلوى كليهما، بلعبة الحقيقة والحلم وممارستهما لها بصراحة مكشوفة. إذا كانت كلّ شخصيّة من الأعفمين تتقن أصول اللعب و”تستغلّ” الشريك الآخر لتحقيق الذات فلا بأس، فالذات واحدة والغاية واحدة.
تنهض استراتيجيّة السعي إلى الغاية القصوى على فلسفة المفكّر الجزائريّ مالك بن نبي وهي ما يُعرف في الدراسات الغربيّة بالقابليّة للاستعمار (Colonizability)، أي التأكيد على دور المستعمَر (Colonized) في كلّ حالة استعماريّة، بعكس ما يفعله إدوارد سعيد في تركيزه على دور المستعمِر (Colonizer).
ويلخّصه مالك بن نبي نفسه في قوله المشهور: أخرجوا المستعمرَ من عقولكم يخرجْ من أرضكم. وهذه الاستراتيجيّة فرضت على الكاتب آليّة السعي وهي النقاش الحادّ مع أعداء هذا النهج وهم ثلاثة، لكلّ منها نصيب في الرواية:
الذهنيّة الإسرائيليّة الصهيونيّة وما أفرزته من سياسات وممارسات استعمارية حوّلت حقيقة المنارة إلى حلم. إسرائيل وسياستها التدميريّة التي حوّلت المنارة إلى “رجمة”. أما إسرائيل فيحاسبها بأثر رجعيّ عبر جملة من النقاشات السياسيّة مع ممثّليها غير الرسميّين.
حكّام العرب من أبناء جلدتنا في بلاد العرب “الشقيقة”. وهم مثلما يظهر في الرواية أحرص على مصالح الصهيونيّة من الصهيونيّة نفسها. السياسة العربيّة التي كرّست ما بدأته إسرائيل وعمّقته وحوّلته إلى تجارة بائرة.
وحتى يحاسبهم الكاتب على تخاذلهم وهوانهم وضعفهم المهين كان لا بدّ أن يرسل والدة محمّد الأعفم إلى بعض هذي البلاد لتضرب عصفورين بحجر واحد: لتحجّ وتلتقي أهلها المشرّدين في مخيّمات اللاجئين في سوريّا ولبنان. وهنا في هذه الفصول، فصول التصادم الفعليّ في الرواية مع دول العرب، يستغلّ الكاتب فكرة الحجّ ليشنّ هجوما قويًّا مقنعًا على هذه الدول الشقيقة، الدول الشقيّة الشاقّة.
قال محمد الماغوط مرّة في إحدى المقابلات معه: كلّ طبخة سياسيّة في المنطقة تعدّها أمريكا وروسيا توقد النار تحتها وأوروبا تبرّدها وتقدّمها لإسرائيل لتهنأ بأكلها ولا يبقى للعرب إلا غسل الصحون.. لم ترَ والدة الأعفم أحدًا ممّن بقي من أهلها بسبب انشغال الأنظمة في غسل الصحون! هذا في زمن قبل أن تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقبل أن تذهب بقيّة من ماء الوجه كانوا يحفظونها.
تخاذل رجال الدين. الدين الذي يتلهّى به بعضهم وبه يتغافل عن عظام الأمور. ومن هنا نشهد في مواضع كثيرة من الرواية نقاشات فكرية مطوّلة مع ممثلي الدين الذين يُبقون الدين في أماكن خاصّة ويقصرونه على بعض الفرائض والواجبات.
هذه الأشكال الثلاثة هي المعيقات التي تحاربها الشخصية المركزية، هي آليّات التعطيل التي تعترض طريق الشخصيّة المركزيّة وتمنعها من الوصول إلى غايتها القصوى.
بخلاف رواية “فاطمة” لمحمد نفاع التي تُقدّم فاطمة الإنسان على الأرض والتي تجعل الأرض جزءًا من فاطمة، يأتي محمّد هيبي ليقلب المعادلة فيجعل سلوى الأعفم جزءًا من المنارة من ترابها وهوائها وسمائها. لشدّة تشبّثه بالحقيقة راح محمّد الأعفم يبحث عنها في الحقيقة، وليس في المتخيّل، في التاريخ وحكاياته الطريفة النافذة كقصّة عمّه أو قصّة الحمار. وكلّها مسحوبة من التاريخ الشخصيّ الخاصّ حتى تكاد ملامح السيرة الذاتيّة تطغى على هيكلة الأحداث وتشكيلها في كثير من تفاصيل الشخصيّات والزمان والمكان.
ولعلّ هذا ما منح الرواية كثيرًا من الصدق. إنّ هيكلة الرواية بجملة من أدوات التعالق والتمازج، ما جعلها رواية شبكيّة محكمة، لم ينحصر في اللجوء إلى التاريخ الخاصّ ومزجه في الحاضر بل تعدّاه إلى التشكيل المكانيّ في الرواية. ولهذا جاء السفر والرحيل بين الأمكنة المختلفة، كالجليل والناصرة والضفة الغربيّة ولبنان والأردن والسعوديّة وسوريا، ليضيف بعدًا شموليًّا للرواية وطرحها الفكريّ.
علاوة على التنقّل بين الخاصّ والعامّ، بين المنارة الصغرى المنارة الخاصّة ميعار، البلد الذي هجّر منه الأعفم وهيبي من قبله، والمنارة الكبرى فلسطين كلّها. والغلاف بتصميمه الذكيّ يؤكّد هذا الجمع بين المنارتين. تُضاف إلى كلّ هذا الرحيل والسفر بين الأمكنة على أنواعها تنقّلات من أنواع أخرى، تنقّلات بين الأنا والآخر اليهوديّ والإسرائيليّ، وتحرّكات مستمرّة بين الوعي والخارج.
ونشهد إلى جانب ذلك كلّه حركة يقظة من الرحيل بين الضمائر، الغائب والمخاطب والمتكلّم. ولعلّ هذا الرحيل بين الضمائر يجسّد تفاعل الكاتب نفسه مع حركة الأحداث في النصّ وابتعاده قدر ما يستطيع عن حالة التوصيف المحايد. الرواية ليست حالة توصيفيّة في منحاها العامّ بل هي في أساسها دراميّة وإن كانت تستعين بالتاريخ. على العموم، في التوصيف محاولة للنأي بالنفس عن موضوع الوصف وفي الدراما جنوح نحو التورّط والتوريط. محمد هيبي ليس محايدًا. محمّد هيبي منتمٍ متورّط بمادّة الرواية إلى حدّ بعيد.
وهو لا يستغلّ التاريخ للتوصيف بل لتأكيد انتمائه وتورّطه في هذا التاريخ. وهذا جزء من سياسة التشبيك التي ينتهجها هيبي في حبكة الرواية. ولعلّ العلاقة البابوشكيّة بين أركان الرواية وبين الكاتب نفسه، بين سلطة الكاتب وسلطة النصّ المكتوب، هي من أبرز الأدوات لتأكيد فكرة الانتماء.
وتأكيد الانتماء لا ينحصر في أدوات التداخل البابوشكيّ بل يظهر بوضوح في اللغة الغنيّة الحيّة التي يكثر هيبي من توظيفها، اللغة التي تتقافز بروحها المتوثّبة المسحوبة من قرارة النفس وعمق مشاعرها. لغة شعريّة على مستوى الألفاظ والجمل والتراكيب، مليئة بالأسئلة والتكرار ما يُؤكّد ركونها إلى شعور يضجّ بالحياة والحركة والوجع والألم والضياع.
دائرة النتيجة: وصول أم سعي؟
نتيجة هذا السعي: ما حقّقه الكاتب في الرواية هو تثبيت المنارة جغرافيًا أمام العين وتثبيتها في الوعي، ما يعني تثبيتها في القلب والعقل، ما يعني أنّ الكاتب وضّح الطريق، حدّدها ورسم معالمها. أمّا الشخصيّة المركزيّة فلم يبقَ أمامها غير السير في الطريق.
ما حقّقته الشخصيّة المركزيّة بلغة الأرقام هو نمطان من أنماط العودة الثلاثة التي حدّدناها في الدائرة الأولى. وفي هذا التحقيق تحقيق لمقولة مالك بن نبي من خلال وعد تقطعه الشخصيّتان المركزيّتان أمامنا بتثبيت المنارة في الوعي والعقل كخطوة قبليّة لتثبيتها على الأرض “ريثما تشرق في ربوعها شمسُ يومٍ جديد”.
ما يعني في المحصّلة الأخيرة أنّ اللقاء الحقيقيّ والدائم بميعار ما زال على بعد خطوات. وهذا اللقاء لا بدّ أن تسبقه مرحلة من التكريس في الذاكرة والوعي كشرط قبليّ للوصول إلى ميعار الحقيقيّة.
تسير الحركة الداخليّة للرواية بشكل دائريّ من الحقيقة إلى الحلم وينعكس. كانت المنارة حقيقة فصارت حلمًا. وهذا التحوّل من الحقيقة إلى الحلم هو نفسه محرّك الأحداث للعودة إلى الحقيقة المفقودة. والأمر لا يخلو من مفارقة مرّة. لكنّ الحقيقة، في الحقيقة، قد لا تكون مفقودة تمامًا بل هي مؤجّلة.
لذلك لم تتحقّق العودة إلى المنارة الحقيقيّة في نهاية الرواية، على النحو الذي يرتضيه محمّد الأعفم نفسه، وظلّت مؤجّلة حتى اختتمت الرواية بالحلم. والتأجيل يضمر شعورًا بالأمل، ما يعني بالتالي أنّ التشبّث بالحلم هو حاجة فطريّة طبيعيّة فوق سلطة المشيئة الذاتيّة. التشبّث بالحلم هو محطّة قد توصل إلى الحقيقة في مرحلة متأخّرة لأنّ الحلم الذي يحلمه محمد الأعفم هو حلم يقظة، محسوب يكرّسه الوعي. وحلم اليقظة يقع في المنطقة الوسطى بين الواقع والمتوقّع. هكذا بالضبط “يعيش” محمّد الأعفم في الرواية على الحدود بين الحلم والحقيقتين، الحقيقة الأولى حقيقة المنارة التي صارت أثرًا بعد عين والحقيقة الثانية المؤجّلة المؤقّتة المستبدلة التعويضيّة على نحو ما سنراه لاحقًا.
ويظلّ السؤال الأعمق: هل يؤمن محمّد الأعفم ومحمّد هيبي من ورائه بالعودة إلى المنارة الحقيقيّة أم هو يكتفي بالسعي دون أن يشغله سؤال الوصول في هذه المرحلة؟ يبدو لي أنّ الأعفمين مشغولان بضرورة السعي عبر “العودات” المرحليّة المؤقّتة وعبر العودة بالحلم كشرط قبليّ للوصول إلى المنارة الحقيقيّة نفسها.
وعلى نحو ما نجده في قصّة زعبلاوي لنجيب محفوظ يبدو البحث في ذاته هو نسغ الحياة. والبحث لا يستمرّ إلّا إذا كان هناك أمل. والأمل يسطع في نور المنارة ونور النمر الأبيض. إنّ “ظهور” زعبلاوي في نهاية القصة في داخل الحلم بصفة أو بأخرى هو الأمل الذي يمدّ الراوي بضرورة البحث.
لم يجد الراوي زعبلاوي، في قصّة نجيب محفوظ، بمعنى لم يحظ به لكنه تيقّن من وجوده وثبّته في وعيه. وهذا البعد الصوفيّ نجده نفسه في رواية نجمة النمر الأبيض رغم الفوارق الكبرى بين النصّين.
مثلما انتهت قصّة زعبلاوي بشكل من أشكال الحلم هكذا انتهت رواية محمّد هيبي بحلم “ريثما تشرق في ربوعها شمس يوم جديد” (365). لكنّ الحلم سيظلّ رومانسيًّا طفوليًّا ساذجًا إذا ظلّ محصورًا في محمّد الأعفم. والأعفم ليس طفلًا فهو في الستّينات من عمره مشروع ضعف وعجز كما يشهد على نفسه.
والأحلام عند الشيخوخة أو عند مشارفها هي استرجاعيّة ورائيّة، تحكمها شحنات كبيرة من الحنين المقرون بالحسرة على ما فات ولن يعود. لذلك كان في حاجة إلى مشروع حماس وقوّة قادر على أن يحمل الحلم مقرونًا بالأمل مقطوعًا عن الحسرة. وسلوى هي هذا المشروع المطلوب.
شابّة جامحة طافحة بالرغبة والأمل. هي الأنثى الأقدر وهي المبادرة تفاجئه دائما بجرأتها وجموحها. هذه هي الصفات التي يحتاجها الكاتب في سلوى كي يُسلّمها محمّد الأعفم الأمانة التي تسلّمها من أمّه وأبيه. وهي نجمة النمر الأبيض التي “تعني المرأة التي لا يُقاوم سحرها”، مثلما تظهر في رواية “جبل الروح” للكاتب الصينيّ غاو شينغجيان، كما يقول هيبي في هوامش روايته. وهنا بالضبط تدخل النموريّة في عنوان الرواية. فالنمر هو الحيوان البرّيّ الوحيد الذي لا يروّض ولا يغيّر هويّته النموريّة كما قال زكريّا تامر عن اختياره للنمر في قصّة النمور في اليوم العاشر. مثلما يستحيل ترويض النمر هكذا يستعصي ترويض محمّد وسلوى الأعفمين. لا يروّضهما طول الشعور بالهزيمة وامتداد العمر وامتهان الغضب. سيظلّ كلاهما يحلم بالمنارة ويحميها بوعيه من كلّ عين تفلق الحجر والشجر والبشر. كانت المرأة والمنارة كيانًا واحدًا دائمًا تعيشان في علاقة بدليّة مطابقة، تستبدل الواحدة الأخرى في كلّ شيء، حتى في علاقته الأولى بالمرأة، التقى محمّد الأعفم الصبيّ الغرّ بحمدة النافرة الساخنة بين بقايا المنارة. في هذا الفصل الجميل المقنع “وهج الطريق إلى المنارة” كان اللقاء العذريّ الأوّل بحمدة في المنارة. وكأنهما لا يكونان على انفصال.
وعلى العموم، كانت علاقة محمد الأعفم بالمرأة، مع حمدة وسلوى والمحاضِرة اليهوديّة وأمّه مظلّلة كلّها بهاجس المنارة. المرأة في الرواية تمنح القوّة وتحمل الحلم.
ومن الذكاء أن تبدأ هذه العلاقة المنوّعة بلقاء حمدة في المنارة وهي في العشرين من عمرها في حين كان هو صبيًّا لم يبلغ بعد نصف ما بلغته هي من عمر. وتنتهي بعلاقة مقلوبة حين تجاوز الستّين من عمره وسلوى في الثلاثين. المرأة هي التي “عرّفته” على معنى اللقاء الحميميّ وكيف يكون فوق تراب المنارة التي صارت “رجمة”.
كأنها هي التي سلّمته أمانة المنارة وهي، بشخصيّة سلوى، التي تسلّمت منه هذه الأمانة. وهكذا حقّقت الشخصيّة المركزيّة بشقّيها جزءًا كبيرًا من الغاية العظمى التي حدّدتها لنفسها. لكنها لم تصل إليها كاملة، ما يجعل بطولتها منقوصة في الرواية على النحو الذي تقدّم بيانه.
إذا كان الوصول إلى المنارة كغاية قصوى متعذّرًا في هذه المرحلة وفي هذه الظروف القاهرة، التي حاولت الشخصيّة المركزيّة مواجهتها، فلتحافظ عليها في قلبها وعقلها على الأقلّ.
بعد الكلام
“نجمة النمر الأبيض”، رواية الدكتور محمّد هيبي، هي رواية ذكيّة عن طقوس الحلم والحقيقة. وهذه من الإفرازات التحتيّة لفلسفة الفَقْد. أما الفاقد فهي الشخصيّة المركزيّة الجمعيّة، محمّد وسلوى الأعفمان.
أما المفقود فهي المنارة، هي ميعار التي هدّمت وهجّر أهل الكاتب منها، وهي معادل صريح لفلسطين كلّها. أما علّة الفقد فهي الصهيونيّة العنصريّة الجشعة، تخاذل الحكّام العرب وتخاذل رجال الدين.
والفَقْد، كلّ أشكال الفَقْد الحقيقيّ والمتوهّم، هو القوّة الدافعة لحركة الشخصيّات المركزيّة وسعيها في الرواية من بدايتها حتى نهايتها. والسعي ينضبط بضابطين: الغاية في ذاتها والطريق إليها.
والغاية قد تنتهي على أحد ثلاثة وجوه: إمّا أن تتحقّق بالكلية وإمّا أن تتحقّق بالبعضيّة وإما أن تظلّ مفقودة.
والطريق إليها إمّا أن تكون فعليّة وإمّا داخل الوعي. وفي البدء كان الوعي، وهو يشمل القلب والعقل بنفس القدر بالضبط. والوعي يسبق الفعل، أو هكذا يجب أن يكون.
قال من قال: السلاح قبل الكفاح. محمد هيبي يدفع الشخصيّة المركزيّة للكفاح والسعي بكلّ الوسائل المتاحة والممكنة في هذا الظرف العصيب.
ويقول محمّد هيبي في روايته ما معناه ثبّتوا “المنارة” في عقولكم تثبتْ على أرضكم. وبين طرفي هذه المعادلة، بين التثبيت في العقول (والقلوب) والثبات على الأرض، يحاسب محمّد هيبي بحدّة ومرارة، كلّ المثبّطات المعيقات المعطلات، بكثير من الغضب وقليل من اللين.
ولأنّ فيها كلّ هذا فهي رواية دراميّة حركيّة لا تخلو من ذكاء واضح تضبط إيقاعها فوضى الصعود والهبوط في الحركات والأقوال والمشاعر.