الناقد حاتم الصكر
لكل قارئ مقياسه.. والحداثة مشروع لم يكتمل
الشعر فن نخبوي، لا نفترض أن يفهمه من لا يمتلك العدة الجمالية لتذوقه وفهمه
لا يوجد تابو يمنع الكاتب من أن يمارس الكتابة في حقل آخر
أنفقتُ جهداً كبيراً ولسنوات، في الانتصار لمشروع حداثة قصيدة النثر، وللكتابة الجديدة، والتجريب في الرسم والسرد
حوار آمنة جبران*-
يسعى الناقد والكاتب العراقي حاتم الصكر للانتصار لمشروع حداثة قصيدة النثر والكتابة الجديدة والتجريب في الرسم والسرد والأدب النسوي، معتنيا بالنص التراثي، حيث استكمل جهده بدراسة الفن التشكيلي، لتساهم بذلك كتاباته في إثراء المكتبة العربية.
وأشار حاتم الصكر، في حواره مع “إرم نيوز”، إلى أن مشروع الحداثة لم يلقَ مساندة نظرية بسبب عدم انتظام جهود نقاد الحداثة في مشروع عربي نقدي مشترك والانغماس في النظرية الغربية.
والدكتور حاتم الصكر كاتب وأكاديمي عراقي له أربعة دواوين شعرية، واثنان وعشرون كتابا نقديا، أحدثها: “أقنعة السيرة وتجلياتها ـ البوح والترميز في الكتابة السير ـ ذاتية”، و”نقد الحداثة- قراءات استعادية في الخطاب النقدي المعاصر وتنويعاته المعاصرة”، و”الثمرة المحرمة – مقدمات نظرية وتطبيقات في قراءة قصيدة النثر”، و”تنصيص الآخر – المثاقفة الشعرية والمنهج ونقد النقد”.
خضت في قضايا الحداثة والمعاصرة من جوانب عدة على مدى سنوات.. كيف تقيّم إنتاجك الذي أثرى المكتبة العربية؟
يُفترَض أن تقييم أية تجربة هو فعل ينجزه الآخرون. لكنني، متابعا، مراحل تطور أو تحولات تجربتي في الكتابة النقدية أحس أن ثمة الكثير مما كان عليّ نشره.
صحيح كما تفضلتِ في سؤالك أنني خضتُ في قضايا متنوعة ومن جوانب عدة، لكنّ ما يوحّد تلك الكتابة على تنوعها هو الرؤية التي تبنَّيتها، وهي عندي أهم من المنهج بل تسبقه، وعلى أساسها يكون الاصطفاف والانتماء. وأصف رؤيتي دوما بأنها حداثية، مُشغِّلها ومُحرّكها هو الاعتقاد بأن الحداثة لم تنتهِ بعد، ولم تستنفد مهماتها، وإن تم تجاوُزها نظريا في ما يعرف بـ ما بعد الحداثة.
وبهذا الصدد، أتبنى رؤية هابرماس الذي وصف الحداثة بأنها مشروع لم يكتمل. وساوى بين معاداتها أو الادعاء بتجاوزها، رافضا الرأييْن.
بمقياس الحداثة، أجد أنني أنفقتُ جهدا كبيرا ولسنوات، في الانتصار لمشروع حداثة قصيدة النثر، وللكتابة الجديدة، والتجريب في الرسم والسرد، مكملا ذلك بإضاءة جوانب في الكتابة السيرية المتعلقة بحريّة الكاتب في البوح، وصولا إلى كتابة المرأة المهمشة في أدبنا وكتابتها للسيرة الذاتية بوجه خاص.
لكن القراءة الشاملة لجهدي النقدي خلال أكثر من أربعة عقود تؤكد ذلك الوضوح في الموقف والرؤية الحداثية، بجانب التحول المنهجي التدريجي من الانطباعية والبنيوية إلى مقولات منهج القراءة والتلقي، كونه يوازن بين كثير من المبررات النظرية للمناهج السياقية والنسقية ويخفف من غلوائها، ويُشرك القارئ في بناء النص، بالقراءة المتفاعلة معه لا المنفعلة.
ومن ملامح تجربتي التي أشار لها دارسو كتبي من الأكاديميين في رسائلهم الجامعية أو من الزملاء النقاد الأدبيين، أنني أعتني على مستوى القراءة بالنص التراثي، ولكنْ بذلك النص المتضمن أبعادَ حداثةٍ ظرْفية تتجاوز الوعي الجمْعي لعصرِها، وتبني علاقات متقدمة مع قارئها.أمثّل لذلك بكتابات الجاحظ ،وعبد القاهر الجرجاني، وكتاب المقامات والمنامات، وأدبيات المتصوفة في النثر، وشعراء الحداثة المبكرة في التراث أبي نؤاس وأبي تمام والمتنبي والمعري.
لقد هيأت نفسي للذهاب إلى التراث زائرا ومستفيدا مما فيه من تجاوز وتجديد، دون الارتهان بزمنيته أو النظر إليه صفقة واحدة يتم قبولها وتقديسها، أو رفضها والاستعلاء عليها.
ولم يحلْ ذلك بيني وبين الاهتمام بالتجارب المعاصرة، فقد أصدرتُ كتبا عن شعر الشباب السبعينيين في العراق، وشعراء قصيدة النثر العرب، والكتابات النسوية والكتابة السيرذاتية والحداثة في الفن التشكيلي.
واستكملت جهدي بدراسة الفن التشكيلي اعتقادا مني بانفتاح الفنون والآداب على بعضها، والإفادة من تقنياتها. وكانت لي ثلاثة كتب منشورة في هذا المجال التشكيلي، وبضع دراسات في المواقع والمجلات المتخصصة، حيث أعدّ الرسم والتشكيل عامة ثقافة بصرية لها جمالياتُها، ونصوصا لها شعريتُها وحداثتها التي تعضّد الحداثة الشعرية، والقراءة كممارسة وفعل. تقدم من التأثر بالنص الآخر واستيعابه. وكان كتابي (تنصيص الآخر- في المثاقفة الشعرية والمنهج ونقد النقد) جزءا من اهتمامي.
حاليا بموضوع المثاقفة، كنمط من القراءة يتجاوز التأثير والتأثر إلى عمق التعامل مع نص الآخر، وكيفية استيعابه في ما هو أعمق من التناص، إذ يتمظهر ذلك النص في أساليب ورؤى تدمج ذاتها بتلك النصوص، لتغدو قراءتها متجددة يمتصها النص التالي بنديّة وتأمل وزوايا نظر ذاتية. وليس كما رأتها القراءات السابقة وجرى تنميطها على أساسها.
القراءة الشاملة لجهدي النقدي خلال أكثر من أربعة عقود تؤكد الوضوح في الموقف والرؤية الحداثية.
تطرقت إلى إشكالية النقد العربي في كتابك “نقد الحداثة”.. ما الذي توصلت إليه في نقدك للنقد بعد أن تعمقت وأبحرت في هذا المجال؟
فكرة هذا الكتاب ليست في توجيه النقد السلبي للحداثة كما قد يوهم العنوان، بل كانت الفكرة التي جسّدتْها دراسات الكتاب هي مساءَلَة النقد المحايث للحداثة الأدبية- والشعرية خاصة، في قراءات استعادية لتلك الجهود. منذ الربع الأول من القرن العشرين. وأعني هنا الجهود التي كان لها موقف من المعاصرة والتحديث. واخترت مَن ترك أثراً في الكتابة، حتى من موضع الاعتراض أو المخالفة.
بهذا التوجه، استعدتُ قراءة مشروعات من أقطار عربية مختلفة كان لها أثر في الثقافة العربية تتصل بالتحديث، بدءاً من روفائيل بطي في العراق وجماعة الديوان وطه حسين في مصر وكتيب الشابي عن الخيال الشعري عند العرب، والغربال لميخائيل نعيمة، وتحرير المرأة لقاسم أمين، وصولاً إلى كتابات الجابري وعلي الوردي ونازك الملائكة، حتى من كانت مشروعاتهم متواصلة غير منتهية، مثل أدونيس وكمال أبو ديب وجبرا إبراهيم جبرا وجابر عصفور وعبدالله الغذامي والمقالح وسعيد يقطين، والنقاد العراقيين عبر أجيالهم.
ولأن مشروع الحداثة متعدد الجوانب وأسهم فيه كتاب من حقول محايثة، فقد درست جهود كتّاب اجتماعيين أو تنويريين، يصب جهدهم في كسر الثوابت والانطلاق بالمجتمع صوب التجاوز وقبول الجديد.
في المحصلة، وجدت أن مشروع الحداثة لم يلقَ مساندة نظرية كافية لسببين، الانغماس في الهبَّة النظرية المجردة القادمة من الغرب، دون تكييفها بشكل كافٍ للتطبيق على النصوص، ولسبب آخر هو عدم انتظام جهود نقاد الحداثة في مشروع عربي نقدي مشترك، فلم يضمّهم تجمعٌ، كتجمع شعراء مجلة ( شعر) اللبنانية مثلا، ولم تتبلور نظرية نقد عربية متعددة الرؤى والأساليب. بل كانت اللقاءات والمؤتمرات أشبه بعزف منفرد دون رابط مشترك بين الملتقين.
ولم يسهم النقد الأكاديمي في تعضيد الحداثة في مظاهرها أوملامحها ونصوصها، بسبب مناوأة المدرسة العربية للحداثة وتجلياتها، ومظاهرها ونصوصها حتى وقت متأخر. وتلاحظين ذلك في قلة الدراسات الأكاديمية العربية في هذا المجال، فيما كانت أغلب الأطروحات الحداثيّة مكتوبة في الغرب، رسائل كمال أبوديب وكمال خير بك ومحمد أركون وسواهم، وثمة استثناءات نادرة في الجامعات العربية كرسالة أدونيس حول الثابت والمتحول – بحث في الاتباع والإبداع عند العرب التي أنجزها في معهد الآداب الشرقية -جامعة القديس يوسف ببيروت.
درست جهود كتّاب اجتماعيين أو تنويريين يصب جهدهم بكسر الثوابت والانطلاق بالمجتمع صوب التجاوز وقبول الجديد.
لقد كان النقد المحايث أو التالي للحداثة الشعرية والسردية لا يقدم دعماً كاملاً للمشروع التحديثي، بسبب ذلك الغياب للنظرية العربية الذي تحدثت عنه، وأيضاً للتردد الواضح إزاء سؤال المنهج. فكانت ثمة فترة انقطاعات وقطيعة أيضاً بين النص ونقده.
لقد نشأت جماعة كالديوان لغرض هدم شعرية شوقي؛ فضاعت بسب ذلك مقترحاتها الاصطلاحية والمفاهيمية دون أن تطورها أو تجعلها مبدأً لها. إذ سرعان ما نقضتها هي ذاتها، عبر معاداة العقاد لكل جديد في الشعر العربي.
وفي العراق هناك تجربة روفائيل بطي، ودعوته (للخروج من مضيق التقليد إلى فضاء الإطلاق). وحديثه عن الشعر الطلق، وترحيبه بالشعر المنثور، وإطلاقه لقب والت ويتمن العرب على أمين الريحاني، مطلع عشرينيات القرن الماضي في مجلته (الحرية) الصادرة ببغداد، لكن ما قدمه تعرّضَ من بعد للقطيعة، ولم يصمد أمام التقليد السائد.
وحتى وقت أقرب لم تفلح جماعة البيان الشعري ببغداد، أو دعاة استخدام الحرف المغربي، أو جماعة الحساسية الجديدة بمصر، أو سواهم في اجتراح ملامح حداثية لنظرية نقد عربية احتكاماُ إلى حركة التحديث النصي. وظهرت ما أسميته في الكتاب (انقلابات) حادة على التحديث بصيغ مختلفة، كمقولة المرحوم الدكتور جابر عصفور حول الزمن بكونه زمن الرواية، وتفضيلها على الشعر في منافسة غير مبررة. ودعوة الدكتور الغذامي لموت النقد الأدبي، وتجريم الحداثة في كتب الدكتور عبدالعزيز حمودة.
وربما كانت الترجمة النظرية من اللغات الأجنبية أكثر تأثيرا في الكتابة، من مقترحات نقاد الحداثة.
غالبية الأوساط الثقافية تُجمع على أن الحركة النقدية في العالم العربي في تراجع بالسنوات الأخيرة خاصة في مجال الشعر.. ما أبرز إشكالات نقد الشعر حسب تقديرك؟
لا أعلم بأي مقياس يُقاس تراجع النقد أو تقدمه، والنقد الشعري بخاصة؛ فلكل قارئ كما يبدو مقياسه. الكثير مما يدور في فلك ذلك الرأي الذي ينقله سؤالك مصدره التعميم والارتجال، أو بسبب موقف شخصي من عدم اهتمام النقد بمنجز البعض. وغالباً دون حيثيات أو أسانيد معرفية ونقدية نقوم بقراءة لحظة النقد بما يوازيها من لحظة الإبداع الذي تُوجَّه له أيضاً الكثير من الملاحظات والتقولات حول ضعفِه و تراجعه.
لكن منجز النقد اليوم لا تنطبق عليه هذه التهمة. صحيح أن النقد الأدبي وتحليل النصوص بهما حاجة لتجديد الآليات والمقتربات والطرق، والخطاب النقدي ذاته الذي لا يزال متردداً في مسائل معينة، كحدود التحديث واستخدام التأويل والإفادة من العلوم الإنسانية، والموقف من الأشكال الجديدة والتجييل واللغة الشعرية والإيقاع. لكن لابد من تذكّر الكثير مما فعله الكدّ النقدي الفردي؛ ففي السرد جرى تنظيم الخطاب وفق خطوات علمية ومعرفية، وليست إنشائية تنثر الفكرة والحبكة فحسب. وجرى تثبيت مصطلحاته ومفاهيمه في عناصر السرد كلها.
أما النقد الشعري فهو منشغل بتحولات الكتابة الشعرية. يلاحقها ويرصدها ويسبقها أحياناً في الدعوة للتجديد في الأشكال واللغة والإيقاع. وما الانتصار لقصيدة النثر ودراستها بعمق نظريا وتطبيقا إلا من مظاهر هذا الاهتمام.
في الكتابة الشعرية لم تُحسم بعد أمور كثيرة، تم تجاوزها في اللغات والآداب الأخرى؛ فهناك لم يعد ثمة شعر تقليدي موزون مقفى مثلاً. وزالت حدود الفنون، فتم تقبل الاقتراض والتناص بين الفنون المختلفة. وكذلك تبعاً لنقل الاهتمام بالقراءة صار النقد يُعنى بالقارئ، ويلقي جزءاً من إنجاز مهمة القصيدة على عاتق القراء، ويتحدث عن ذخيرة القراءة وتأهيل القارئ. ولم تتغلب ابتكارات الرقمنة والفضاء الإلكتروني على أشكال الكتابة أو تسلبها أدبيتها. كما أن دعوات موت النقد الأدبي وهجر الجماليات التي تنطوي عليها النصوص، لم تغير من منهجية التحليلات النصية وآفاق القراءة.
والنقد هو المسؤول عن تثبيت الكثير من منجزات النص الحديث شعراً وسرداً. وجرى التوازن بين دراسة النص الحديث، والموروث وتحريره من النظرات القديمة التي تراه مقدسا وتتجنب تحليله وفق منهجيات تكشف أبعاد جمالياته، وهو ما قدمه نقاد أدبيون كثر. وكذلك أسهم النقاد ويسهمون اليوم في التنبيه على التجارب الجديدة والاحتفاء بالأشكال التي تقترحها. وتتبنى الولوج إلى مناطق في الكتابة لم يكن يهتم بها الكتّاب، كالسيرة الذاتية والرواية التاريخية. وفي الشعر تجارب الهايكو وقصيدة الومضة والسونيت والحِجاج وقصيدة النثر، واعتماد السرد عنصراً بنائياً في النصوص..
في كتاب “الثمرة المحرمة” تناولت قصيدة النثر فنيا وجماليا وعناصرها البنائية بدواوين وقصائد 45 شاعرا مختاراً.. لماذا هذا الانحياز لقصيدة النثر تحديدا؟ وأي مطبات تعاني منها هذه القصيدة اليوم؟
كتاب (الثمرة المحرّمة) وعنوانه الجانبي (مقدمات نظرية وتطبيقات في قراءة قصيدة النثر) لم يكن كتاب مختارات أو ببلوغرافيا مفهرسة شاملة. إنه أساساً وفي قسمه النظري ينطوي على دفاع عن الشعر، عبر الدفاع عن حداثته واستمرارية تطوره ليلائم العصر وتبدلات التلقي واللغة والإيقاع ومستجدات الثقافة.
وقد مثلت قصيدة النثر هذا التحول بجرأة وبمبررات كثيرة لا مجال لبسطها هنا، وعرضتها في الجزء النظري من الكتاب، لكن قصيدة النثر لُعنت، وصارت أشبه بالثمرة المحرمة في شجرة الشعر.. كل الأنواع مقبولة للقراءة والنشر والدرس إلّاها. كان مفهوم الشعر مرتبطاً بالقاقية والوزن حتى لو توزعت الأسطر والتفعيلات كما في (الشعر الحر). بمقابل رفض التعويل على استثمار النثر لتعضيد إيقاع القصيدة وإطلاقها من قيود النظم والموسيقى الخارجية، واتساعها للسرد، وتأكيد الدلالة بطرق جديدة.
اء الكتاب ليخدم هذه الفكرة أولاً. ويرصد الجدل حولها كي يظل في الذاكرة كمثال لمحاربة الجديد والحديث، وصعوبة التغيير في البنى الثقافية والجمالية، ومنها القصيدة. لكنه يقدم تأكيداً على رسوخ قصيدة النثر، وتعدد أساليب كتابتها، ووجود أجيال متعاقبة عملت على تطويرها، بعد قرابة ستة عقود على نشأتها.
ولا يعني ذلك انتهاء أزمة تقبّل قصيدة النثر لدى الجمهور من جهة، أو يغفر لها ما يشيع من رتابة وتقليدية في بعض النصوص المنتمية إليها. وهي تتميز بالضعف، والوقوع في وهم أن النثرية ميزة لقصيدة النثر، دون فهم دور ووظيفة النثر فيها. وذلك ما أشرت إليه مفصلاً في الكتاب.
وأضيف هنا ظاهرة جديدة يتوجب التنبه لها، وهي محاولة تقليد قصيدة النثر الأجنبية في الشكل، أو تلصيق المسميات والعبث اللغوي والأسلوبي الساذج، واستعصاء العثور على دلالة تكرّس تميز الشاعر. وتجسّد ما دعونا إليه من أنّ لكل شاعرٍ قصيدةَ نثرِه.
لماذا حكمت على الشعر بأن يظل نخبويا حسب تصريح سابق لك؟
نعم ورد ذلك في أكثر من مناسبة، الشعر فن نخبوي، لا نفترض أن يفهمه من لا يمتلك العدة الجمالية لتذوقه وفهمه. من يقيس الشعرية بحسب ما تعلم من أن الشعر كلام موزون مقفى، هؤلاء يطربون للشعر المنبري والمباشر الواضح الذي لا يكلفهم عناء استيعابه، وتأويل معانيه، والبحث في لغته وتجلياتها البلاغية والجمالية.
هؤلاء يبحثون في الشعر عن معنى كل كلمة وجملة. يريدون شيئاً جاهزاً لا يتعبهم. والكسالى الذين يرون في نظمه استجابة لانفعال عادي ورد فعل آني، حيث تكرر القصائد صياغة الشعارات، وتحفل بالشعبوية التي تحببه لمن لا يمتلك العدة المطلوبة.
أما الشعر القائم على رصد الإدراك والشعور والفكر والإحساس، فإن صياغته ترقى لذلك. وتتعقد مهمة القارئ المتعجل في قراءته؛ فالقصيدة لا تعطيه معناها بيسرٍ كما يتوقع، بل تصنع دلالات تتكون من كلية النص الشعري. ولذا وضعت العرب شروحاً للأشعار والدواوين حتى في عصور ازدهار اللغة والوعي بها، وقبل أن تتعثر بالاختلاط والبعد عن فضاء الفصاحة، وما طرأ على الحياة من تبدل.
تلك الشروح تؤكد أن الشعر قدرياً تستهلكه في الأساس نخبة تفهمه وتدرك نظمه وأغراضه وما تحت بنيته من مسكوت عنه. تقوم القراءة بكشفه عبر فهم معمق لألفاظه وعلاقات التراكيب ودلالاتها وإيقاعها وترتيبها المكتوب ، وما فيها من سبل تصويرية وبلاغية أنتجها الخيال. وليس بعيداً عنا قول أبي تمام، لماذا لا تفهمون مايقال؟ ، رداً على من قال له منتقداً: لماذا تقول ما لا يُفهم؟.
بهذا المعنى قلت بنخبوية الشعر استناداً إلى تلقِّيه. ولا أقصد أنه فن نخبة تكتبه لنفسها دون وعي بما حولها.على العكس فالقصائد التي يراها الجمهور معقدة وصعبة تحمل دلالات المقاومة، والبحث عن الحرية والإنسانية وجماليات الحياة، ولكن بصياغات متقدمة تبعدها عن المباشرة والنثرية والتقليد،وعن المنبرية التي جاءت بها بقايا الشفاهية، وإلقاء الشعر بانفعال للتأثير على المتلقي بوسائل غير شعرية
.
كيف تقيّم المشهد الأدبي العربي في السنوات الأخيرة خاصة مع هجرة أغلب الكتّاب من القصة والشعر إلى الرواية؟
مبدئياً لا يوجد تابو يمنع الكاتب من أن يمارس الكتابة في حقل آخر. عالمياً لدينا أمثلة كثيرة، بورخس وفولكنر وبرخت وبوشكين لمجرد التمثيل. وفي أدبنا العربي أيضاً ثمة من جمع بين الكتابة النثرية رواية أو قصة أو مسرحية أو مقالة أدبية، مثل جبرا إبراهيم جبرا، ومحمد الماغوط، وحسين مردان، ويوسف الصائغ. بل كان الشعر المسرحي يجمع الفنين معاً، وتبرز مهارة الشاعر فيهما. وكذلك رواية السيرة، حيث تتحول الكتابة السيرية إلى سرد روائي.
بهذا التصور ليس مستغرباً أن يكتب الشاعر عملاً روائياً.. لكن الاستغراب مرجعه في أيامنا إلى أن ما أسميتِه (هجرة)، قد ترافق مع تزايد الجهات والهيئات التي تمنح جوائز مجزية للرواية في عدة أقطارعربية. وينال الفائزون بها شهرة وانتشارا. وكذلك سيادة مقولة إن هذا الزمن زمن الرواية، شعراء كثر مكرسون وشباب، انفعوا في موسم هجرة عارمة للرواية. وقد لا يكون دافع بعضهم أحد السببين اللذين ذكرتهما، لكن المحصلة هي ازدياد روايات الشعراء بكمٍّ لافت.
وواضح أن نشر الدواوين لا يجلب ذلك الانتشار والمردود الذي يأتي من الرواية نظراً لسعة مساحة قراءتها. وتوازياً مع أحداث كبرى في العقدين الماضيين جعلت الرواية فناً يحظى بالقراءة الواسعة؛ نظراً لتوفر التشويق فيه، ولأن الرواية تحتمل تلك التفاصيل التي تقترب من تسجيل الوقائع المدوّية بفنيّة وجاذبية.ويعضّد ذلك ما نُشر في السنوات الأخيرة من ترجمات مميَّزة لأحدث الروايات في العالم والتي نالت شهرة بين عامة القراء وممن لا يجذبهم الشعر لتعقيد بنيته. أذكر كمثال فحسب رواية (قواعد العشق الأربعون) التي تداولتها شرائح اجتماعية لم يكن في ذاكرتها الفن الروائي كسرد أدبي له جمالياته الخاصة.
لكن تلك الهجرة لم تتسيد المشهد الأدبي العربي، بل كانت إحدى ظواهره. بجانب ظواهر كثيرة كتلقف الشعراء القصائد بالغة القصر والمسماة بقصائد الهايكو المكثفة، بعد أن تم تحويرها عن منشئها الذي خصها بوظيفة الاهتمام بالطبيعة، إلى وعاء شعري يحتمل الموضوعات كلها ،لاسيما ماهو ذاتي منها.
ومن نافعات الكورونا رغم ضررها وما سببت من كوارث، أنها نشّطت المشهد الأدبي من خلال عقد الندوات والمحاضرات واللقاءات عبر الفضاء الافتراضي ومنصة الزوم خاصة. وكثرت المواقع الإلكترونية ،وتحوَّل عديد المنابر الثقافية إلى المواقع بدل الطباعة الورقية. وهذا ساهم في استقطاب الكثير من المواد عبر حراك مميز ونافع، رغم ما يشوبه من تعجل، وعدم تدقيق أحياناً في أهلية المواد للنشر.
ولم تتسع الدعوة للكتابة الإلكترونية، وظلت الأجهزة وسائط ووسائل لنشر المكتوب، وليست الحامل الفكري أو الإبداعي. فلم نقرأ أعمالاً رقمية واضحة المعالم والاتجاهات وواسعة القراءة مع إغراءات بُعْدها التفاعلي. وظل التنظير لها يقفز أمام نصوصها بمسافة، لا أظنها، أي النصوص، تستطيع اللحاق به.
المشهد إذن محتدم، فيه تراكم كمّي قد يؤدي بحسب المقولة المعروفة إلى تحولات نوعية، وإحياء بعض ما نفتقده في حياتنا الأدبية، كالتجمعات والحوار الفني والجمالي، والانفتاح الكبير على الفنون المجاورة.
*- إرم نيوز التونسية