تـاسـعُ الـفَـقْـد
هاشم تايه
إنّه كتابٌ في الفقد. ذلك هو الانطباع الأوّل الذي ترسّخه قراءةُ (شُوهِد مغادراً باب الهوا)، الكتاب الشعريّ التاسع لكاظم اللّايذ.
فقْدُ الأثر مادةً وروحاً، مكاناً وزماناً، ثقافةً، وأواصر، هو المهيمنة المقلقة، الكبرى للمادة الشعريّة التي تنقّلت بسطوع على صفحات هذا الكتاب، وكُتب الشّاعر الثمانية السّابقات، وتفاوتت لغتُها بين النّدب المنفعل، والتأمّل الحكيم، ولم تحرم نبرتها من المرح المشعّ، والسّخرية اللّعوب، وحتى الهجاء. وهي، في أحوالها كلّها، لغة طبعٍ، وسليقة، طيّعة، سلسة، “تغترف من بحر”. لغة سفر وترحال، لا يغادرها احتدامُها العاطفي، مطبوعة بطابعٍ حركيّ، إذ تتسابق فيها الأفعال، وتتدافع، وهي لا تني تنقل مشاهدَ، وتُضيءُ أحوالاً، مظلّلة بحسّها الإنسانيّ الحميم، وتعاطفها مع الأشياء، والعالم، والكائنات. لغة تقع بين المباشرة التي تصف، وتُعرّف، وبين التمثيل العيانيّ الذي يُجسّد، ويُحرّك.
تنبسط نصوص (…. باب الهوا) كتكويناتٍ لغويّة على أسطح كتابية. ويصنع كلّ نصٍّ، بما يصف ويُعرّف، أو يُمثّل، برهاناً على واقعته الشعرية التي تهزّ وجداناً، وتوقظ ذاكرة، وهي إذ تفعل، فهي رهينة هواها في أن تُغريَنا، وتستميلنا إليها، لا أن تُقلقنا، كما لو أنّها ديانة. ولهذا فإن فرصة القارئ في أن يستقلّ عن وقائع نصوص الكتاب ليراها من مسافة مفترضة، مطلوبة تبقى موضع سؤال.
ولأنّها تمثّلات ارتحال، أو بيانات سفر في المكان القريب، أو المكان القابع وراء الحدود، أو حتّى في أرواح المرثيّين، فهذه النصوص معنيّة بالاستطرادات، والاستدعاءات، والتفاصيل التي تجعلها آثاراً نصيّة مستفيضة بأسبابها الخاصّة التي بينها نزعة تقصّي مادة النصّ بإمكاناته، وبتقليبه على أحواله، وبسطه على مساحة متّسعة.
أربع قصائد تفعيلة أعقبتها عشرون قصيدة نثر تحرّرت من مطالب الإيقاع التّقليديّ لتجد اللّغة مساحتها الأرحب للتّعبير المنشقّ بأهوائه الخاصّة. لكن، في هذا الكتاب، من يستطيع أن يعزل التّفعيليّ عن النثري بجدار أصمّ؟
بنائيّاً تتشكّل قصائد الشّاعر بُقَعيّاً، أي أنّها تنتظم على الأسطح الكتابيّة في بُقعٍ تعبيريّة تبدو مستقلة شكليّاً، لكنّها تتراسل في ما بينها، ويشعّ بعضها على بعض، ليمتثل النصّ البُقَعيّ، أخيراً، لتعبيرٍ قصديّ جامع بضمير عنوانه المتعالي.
هل سيكون مفيداً التّعريف بالشّاعر؟ ربّما!
إنّ قصيدته (دِيني القديم) تفي بالأمر:
“العبثُ\ دِيني القديم\ والعدميّةُ مذهبي\ منذ أن كنتُ طالباً يدرسُ اللاهوت\ ويمضي أيّامَهُ\ مُقلّباً صحائفَ الزّنادقة والملاحدة وأهلَ التصوّف\ أو يُداعبُ الشّعْرَ الأشعثَ لشوبنهور\ لينسج منه خيوطاً\ يبلغُ بها منزلةَ السّوبرمان”.