قراءة نقدية في عوالم المجموعة القصصية للدكتورة فتحية الفرارجي…الدكتورة وسام علي الخالدي

شارك مع أصدقائك

Loading

وسام: “شدو لارين”: موسيقى الحكي في مملكة الأنثى الجريحة

قراءة نقدية في عوالم المجموعة القصصية للدكتورة فتحية الفرارجي

الدكتورة وسام علي الخالدي

 العراق

في زمنٍ تتكاثر فيه الأصوات السردية وتتشابه الحكايات كأنها صدى يتردّد في فراغ اللغة، تبرز مجموعة “شدو لارين” القصصية  بوصفها استثناءً يُعيد للاختلاف بهائه، وللسرد نغمته العذبة المفقودة. فالدكتورة فتحية الفرارجي، وهي تقف على تخوم الحكي والشعر، لا تكتب قصصًا عابرة، بل تنقش وجدانًا أنثويًا نابضًا على جدران الورق، وتُحيل التجربة إلى أثر لغويّ شفيف، يجمع بين وجع الاعتراف وجمال التورّيع. هذه المجموعة ليست  نصوصا مكتوبة، بل هي مقطوعات وجدانية تنبض بالحياة الداخلية، وتفيض بتأملات أنثى تقف على شرفات السؤال، تتأمل الغياب، وتُرمم هشاشتها بالكلمات. فهنا، لا تنحاز الكتابة إلى الحدث بقدر ما تنحاز إلى العمق، ولا تركض خلف الحبكة بقدر ما تُنصت لنبض الذات، فتنشأ قصص الفرارجي من صمتٍ مملوء، ومن فراغٍ عامر بالمعنى، كأنها تكتب لتضيء المساحات الخفية في أرواحنا، وتتركنا أمام مرآة الحكاية وجهاً لوجه مع أنفسنا.

[23/07, 6:02 pm] وسام: في “شدو لارين” لا تقف الكاتبة الأستاذة الدكتورة فتحية الفرارجي عند عتبة الحكي التقليدي، بل تنقله إلى مقامٍ آخر، حيث يمتزج السرد بالشجن، والكلمات بنبض الذات، وتغدو القصة القصيرة مرآةً تعكسُ تشظّي الروح في مرايا الحياة. فالكتابة هنا ليست فعل سرد فقط ، بل هي تطريبٌ لغويّ، وتأملٌ وجوديّ، واحتفاءٌ بكينونة الأنثى بوصفها رمزا وكيانا وجرحا مفتوحا على احتمالات التأويل.

 

العنوان نفسه، “شدو لارين”، ليس بريئًا من دلالاته الجمالية؛ فهو يشير إلى غنائية النصوص، إذ يحمل “الشدو” إيحاءً صوتيًا مُحمّلاً بالعاطفة، بينما “لارين” – هذا الاسم الأنثويّ الشفيف – يستحيل رمزًا لكل النساء اللائي يحملن صوتهنّ الداخلي في مواجهة صمت العالم.

 

في هذه المجموعة، تكتب الفرارجي من الداخل، من مساحة غائرة بين الذاكرة والواقع، حيث تتقاطع التجربة الشخصية بالهمّ الجمعي، وتتحوّل القصة إلى مساحة للاعتراف، وإلى لحظة انكشاف. نقرأ في قصصها الأنثى المهمّشة، والمرأة المنكفئة على نزفها الداخلي، والأمومة المحروقة بالشوق، والحبّ المصلوب على أبواب الغياب. لكنها لا تسقط في فخ النواح، بل تصوغ ملامح القوة الخفيّة داخل الانكسار، وتعيد تشكيل الضعف ببلاغة الجمال.

 

لذا تمتاز قصص “شدو لارين” ببنية سردية متماسكة ومكثفة، تتقن الكاتبة فيها اللعب على إيقاع الجملة، وتوظف تقنيات السرد الحديثة بحرفية، من القطع الزمني، والتناوب بين الضمائر، والتكثيف الرمزي، وصولًا إلى الحذف الدلالي الذي يمنح القارئ شراكة في إعادة تشكيل المعنى. كما تعتمد في كثير من قصصها على ما يمكن تسميته بـ الكتابة المقطعية، حيث تتوزع القصة على مشاهد قصيرة، تحمل كل واحدة منها ومضات شعورية وأبعادًا رمزية، تتكامل في النهاية لتشكّل لحظة درامية مؤثرة.

 

وتبدو اللغة في “شدو لارين” أداة انفعال وإشراق. إنها ليست لغةً تقريرية، بل لغة شعرية السطح، فلسفية العمق. فهي تنحت جملها بعناية فائقة، حيث تنصهر الكلمة في التجربة، وتتجسد العاطفة في العبارة. فاللغة هنا كائن حيّ، ينبض بتوتر المرأة المتألمة، الباحثة عن خلاص، ولو في الحرف.

 

ومن الناحية الموضوعاتية، تتعدد ثيمات المجموعة، لكنها تتقاطع عند محاور جوهرية، منها:

 

_المرأة بوصفها شاهدة على الوجع، وفاعلة في تجاوزه.

 

_الذاكرة باعتبارها خزانة الألم والحبّ والأمل.

 

_الزمن كقيد داخلي أكثر من كونه إطارًا خارجيًا.

 

_الكتابة ذاتها كوسيلة للخلاص الروحي.

 

 

ومن اللافت أن الفرارجي تنجح في أن تمنح لكل قصة صوتها الخاص، دون أن تفقد المجموعة تماسكها الكلي، كأن القصص تتآزر لتشكل سيمفونية سردية، تتنوع مقاماتها وتبقى النغمة الأنثوية الخافتة – التي تحمل في طيّاتها تمردًا دفينًا – هي الصوت الغالب.

 

لذلك لا يمكن قراءة “شدو لارين” دون الوقوف عند الحسّ الفني للكاتبة، فالدكتورة فتحية الفرارجي، التي جمعت بين البحث الأكاديمي والممارسة الإبداعية، تكتب بإدراك عميق لأدواتها، مما ينعكس في اتزان البنية، وثراء المعجم، وانضباط الإيقاع النفسي داخل النص. هذا التوازن بين الوعي المعرفي والتعبير الوجداني يمنح قصصها بعدًا تأمليًا يرفعها من مستوى التجربة الشخصية إلى فضاءٍ إنساني شامل.

[23/07, 6:08 pm] وسام: لقد تمكنت الكاتبة في “شدو لارين” من نسج  قصصً لا تُروى بقدر ما تُرتّل، كأنها مقاطع من نشيد داخليّ تكتبه امرأة بحبر الجرح، وبصوت مغموسٍ في الشفافية والاحتراق معًا. اذ لا تعتمد الكاتبة في حكيها على بنية تقليدية، بل على  تُفكك المألوف لتعيد بناءه على نحوٍ تأمليّ، حيث يتحوّل السرد إلى مرآة للوعي، وتغدو الجملة السردية محمولة على شحنة شعورية عالية تُجبر القارئ على الإصغاء بنَفَسٍ وجدانيّ. فالقصة عند الفرارجي لا تبدأ من خارج الشخصية، بل من داخلها، ومن ذاك القلق الدفين الذي يسكن المرأة وهي تواجه الوجع بصمت الأنثى، وعنادها الناعم، وبصيرتها التي تُبصر بما لا يُقال.

 

إن ما يُلفت في هذه المجموعة هو التحول الدقيق في تمثلات المرأة، من كونها جسدًا متعبًا إلى روحٍ تتأمل تعبها، ومن عاشقة تنتظر إلى ذاتٍ تسائل معنى الحبّ. تقول الساردة في إحدى القصص: “أنا لم أكن أفتقده، كنت أفتقد نفسي التي كانت تحبه، تلك الفتاة التي ظنّت أن العناق دواء.” في هذه الجملة يتحوّل الغياب من فعل خارجي إلى مكاشفة ذاتية، ويغدو الحبّ مجالًا لسؤال الهوية لا مجرّد علاقة. الفرارجي هنا لا تكتب عن الحب، بل عن وهم الحب، عن هشاشته حين يُبنى على النقص، وعن قدرة المرأة على تفكيك ذاتها العاطفية وإعادة قراءتها بوعيٍ نقديّ.

 

ويظهر في أكثر من نصّ ذلك التوتر الجماليّ بين الصمت والكلام، بين القول والمواربة، إذ تتقن الكاتبة كتابة المسكوت عنه، لا عبر الصراخ بل عبر الإيماء، فتختار الحذف أحيانًا، والتلميح أحيانًا أخرى، فيتقاطع الصوت السردي مع إيقاع الشعر، ويغدو الصمت جزءًا من البنية الفنية للنص. حتى أن بعض القصص تُروى كما لو أنها تنهيدة طويلة، تنهيدة أنثى جربت الوجود، وفهمت أن الكلمات ليست دائمًا ملاذًا، لكنها رغم ذلك تكتب، لأن الحرف هو شكلها الوحيد للمقاومة.

 

اما المكان في “شدو لارين” لم يكن  فقط خلفية للأحداث، بل هو امتداد للروح. البيت، الغرفة، المقهى، النافذة، كلها رموز مشحونة بدلالة الوجود الأنثوي المعزول، والذي يُعيد ترتيب عزلته على نحو شاعريّ. الزمن أيضًا لا يُقاس بالساعات، بل بالحنين، بالانتظار، بتكرار الخيبة. وكأن الكاتبة تسحب الزمن من تقاويمه وتضعه في قلب المرأة، لتجعله ينضج بألمها. نقرأ مثلاً: “أيامي كلها أصبحت ضوءًا خافتًا منسيًا خلف ستارة، لا أحد يفتّش فيه عني، ولا أنا أجرؤ على فتحها.” هنا يتكثف الشعور بالعزلة الوجودية التي تتجاوز وحدة الجسد إلى وحدة المعنى.

 

اللغة في هذه المجموعة هي بطلتها الأولى. إنها لغة مخلصة للتجربة، لا تزين الوجع بل تجعله أجمل، ولا تجمّل الشقاء بل تمنحه شرعية فنية، فتنساب الجمل محمّلة بالإيقاع، دون أن تسقط في التزويق المجاني. تتقن الفرارجي اقتصاد اللغة، كما تتقن توريتها، فتمنح كل كلمة وزنها الخاص، وتجعل الصمت بين الجمل لغة موازية. هي لا تكتب لتسرد، بل لتوشوش، وكأنها تهمس للقارئ بأسرار لا تُقال في وضح النهار. وتلك الهمسات هي التي تمنح نصوصها طابعها الخاص، إذ يشعر القارئ أنه شريكٌ في الإنصات، لا مجرد متلقٍ.

 

ومن الجماليات اللافتة في هذه المجموعة، أن الكاتبة لا تفرض خاتمة قاطعة لنصوصها، بل تتركها مفتوحة على احتمالات عدة، كأنها تؤمن أن الحياة لا تُغلق أبوابها بسهولة. تنتهي بعض القصص بجملة تحتمل التأويل، أو بصمتٍ يشي بأكثر مما يقول، أو بعودة إلى لحظة أولى تُقرأ من جديد. وهذا ما يجعل تجربة القراءة مضاعفة؛ فكل قراءة ثانية تنفتح على طبقة جديدة من المعنى، وكل تأمل يضيف مسارًا جديدًا للقص.

 

اذن “شدو لارين” ليست فقط مجموعة  من  النساء، بل عن إنسانٍ يُعيد ترميم ذاته من ركام الخسارات، عبر اللغة. وهي شهادة فنية على قدرة الكتابة حين تنبع من الصدق ومن فطنة جمالية عالية، أن تُحيل المعاناة إلى أثر، والشعور إلى بنية، والمكاشفة إلى مشروع أدبيّ. هنا تقف الكاتبة الدكتورة فتحية الفرارجي بوصفها صوتًا يشتغل على تخوم الحرف والوجدان، في كتابة تستحق أن يُصغى إليها، لا لأنها تروي، بل لأنها تُنصت قبل أن تكتب، ولأنها تُشبهنا حين نكون في لحظة صدقٍ مع أنفسنا

 

شارك مع أصدقائك