قراءة في موسوعة (الكوفة بين الولاء العلوي والعداء الأموي)
للدكتور مكي كشكول[1] (الجزء الأّول)
د. نجمة خليل حبيب
والدكتور مكي كشكول كاتب وباحث تربوي من مواليد محافظة النجف /العراق عام 1965، عُرف بغزارة علمه وشمولية فكره وتنوعه وطرحه للعديد من الأفكار والآراء التي تنم عما يكنه من خزين معرفي كبير، بدلالة تحليلاته ونقاشاته في المواضيع التاريخية والثقافية والعلمية بأسلوب عجز غيره عن طرحه أو مجاراته ، ولهذا فهو له السبق والريادة فيها لما بذله من مجهود يستحق الشكر والتقدير ، وما يزيده روعة هو دماثة خلقه وتواضعه وطيبة قلبه فله العديد من المساهمات الإنسانية من خلال التدريس المجاني لأبناء العوائل المتعففة، وفتح الدورات التطويرية، ومد يد العون للاجئين وتسهيل أمورهم في بلاد المهجر[2]
* * * * *
وهذا المؤلف (الكوفة بين الولاء العلوي والعداء الأموي) هو الثالث من موسوعة مؤلفة من خمسة أجزاء وقد جاء على لسان الكاتب، أن السبب وراء تناوله هذه المدينة التأريخية ليس مذهبياً ولا عرقياً ولا مناطقياً، وإنما هو إنسانيّ فقط. ذلك لأن هذه المدينة وأهلها تعرضوا إلى حرب شعواء نال منها ومن أهلها من خلال تحريف وتزوير وتشويه العديد من الأحداث التي مرت بها هذه المدينة والتي لا يزال تأثيرها السلبي سارِي حتى يومنا، ليس فقط في أوساط المجتمع العراقي، وإنما تعداه إلى المجتمع العربي والإسلامي عامةً، وعلاقته ونظرته السلبية تجاه المجتمع العراقي، واتهامه بالنفاق والشقاق ومساوئ الأخلاق وبالغدر والقتل ونقض العهود والمواثيق وغيرها من الصفات السلبية[3]. وتكشف هذه السلسلة زيف هذه الادعاءات والغرض من ورائها. وبما أن هناك مشتركات ما بين العراقيين والعرب من تاريخ ولغة ومصير، وحيث أن معظم القبائل التي سكنت الكوفة هي قبائل حجازية ويمنية، وأن العديد من العراقيين في عهد معاوية وما تبعه من الحكام الأمويين هجروا ونفوا العديد من أهل الكوفة إلى الشام وخراسان ومصر وغيرها من الأقاليم الإسلامية فما يُنعَت به العراقيون من صفات سيئة يمس العرب والمسلمين جمعاء.
يتألف الكتاب من إهداء، ومقدمة، وأربعة فصول، أما الإهداء فللإمام علي بن أبي طالب ﷺ أمير المؤمنين، ويعسوب الدين وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم. وتحدّثت المقدمة عن الجهود التي بذلها أعداء العراق في سبيل تجزئة أهله وتشويه صورتهم الغابرة والحالية، وتهميشهم علمياً وثقافياً واجتماعياً ليصبحوا مسخاً قبيحاً تابعين لغيرهم. كما أنها لخّصت ما جاء في هذا المجلّد.
يتناول الفصل الأول الصراع التأريخي بين الكوفة وخليفتها المجمع عليه من قبل المسلمين علي بن أبي طالب عليه السلام، وبين والي الشام المخلوع معاوية بن أبي سفيان. ويركز الفصل الثاني على المرتدين والبغاة من منظور القرآن والسنة. أما الفصل الثالث فيتناول ما صنعه المؤرخون من مجد زائف لخالد بن الوليد (حسب رأي الباحث). وأخيراً يجيب الفصل الرابع عن السؤال الذي يدور في خلد كل مسلم، ألا وهو، هل أن خالد بن الوليد سيف سُلّ على المسلمين أم سلّ على الكافرين والمشركين؟!
يدور المبحث الأول من الفصل الأول حول صراع الإرادات بين الكوفة والشام، وفيه يبينّ الكاتب بالحجج والبراهين الموثوقة أن الخلاف بين على ﷺ ومعاوية كان سببه طمع معاوية في الخلافة، وأن خروج معاوية على عليّ، وامتناعه عن بيعته كان بسبب عزله عن ولاية الشام وليس للمطالبة بالاقتصاص من قتلة عثمان كما يدعي معاوية. إذ أنه قد جاء في كتاب (الإمامة والسياسة) المنسوب لابن قتيبة الدينوري رواية مفادها أن معاوية إدعى الخلافة لنفسه من غير مشورة. ويقال أيضاً، ان معاوية ندم أشد الندم لتخاذله في نصرة عثمان. ولما بُِويع لعليّ رأى معاوية أن الخلافة قد حُجِِبَت عنه فكتب لطلحة والزبير أن يمنياه الخلافة ويدفعهما لقتال علي. وفي هذا خير دليل على طمع معاوية بالخلافة. ويذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق:
“وبعث عليّ إليه ]معاوية] جريراً يطلب منه البيعة، فقال لجرير:
. . . . إكتب إلى صاحبك يجعل لي الشام ومصر جباية، فإذا حضرته الوفاة لم يجعل لأحد بيعة في عنقي، وأسلم له هذا الأمر، وإكتب إليه بالخلافة.
فقال جرير: إكتب بما أردت، وإكتب معك، فكتب معاوية بذلك إلى عليّ، فكتب عليّ إلى جرير: أما بعد، فإنما أراد معاوية ألا يكون لي في عنقه بيعة، وأن يختار من أمرهما[4] ما أحب وأراد أن يرثيك حتى يذوق أهل الشام، وإن المغيرة بن شعبة كان قد أشار عليّ أن أستعمل معاوية على الشام، وأنا بالمدينة، وأنا في المدينة، فأبيت ذلك عليه، ولم يكن الله ليراني إتخذ المضللين عضا، فإن بايعك الرجل وإلا فأقبل. (ص 23).
أما عن الأسباب التي جعلت الإمام عليّ ﷺ يتريث في الاقتصاص من قتلة عثمان، فهو لأنه رأى في تأخير القصاص أقل مفسدة من تعجيله، ذلك لأنه لا يستطيع أن يقتل قتلة عثمان، والسبب في ذلك هو أن لهم قبائل تنتصر لهم وتدافع عنهم، كما أن هنالك سبب آخر هو وجود خوارج بين جنوده ممن قتلوا عثمان. لذا اقتضت الحكمة ان ينادي أمير المؤمنين بالتريث والأناة حفاظاً على وحدة الصف لمواجهة التحدي الذي يهدد مركز الخلافة، ولكنّ الخلاف في الرأي أضعف مركز الخلافة الجديد وقضى على الآمال في نيل ثأر الخليفة المقتول. ولكن المؤرخين يتحدثون وكأن الإسلام لا يقوم إلا بأمثال معاوية مع أنه اقترف أعظم رزية عندما استخلف ابنه يزيد وتأميره على المؤمنين من غير بيعة ولا شورى. وهكذا قضي على الخلافة الراشدة، وصارت الوراثة هي القاعدة واتبع الخلفاء الأمويون أسلوب عيش القياصرة، وأصبح بيت المال ملكاً للسلطان يتصرف فيه كيفما يشاء وظهرت العصبيات القومية المخالفة لتعاليم الإسلام.
ويرّكز المبحث الثاني “معاوية بن أبي سفيان وبعض الصحابة… جسور لتحقيق مآرب مشبوهة” على المعاصي التي ارتكبها معاوية، وجرأته على الله وكتابه وعلى الإسلام ورسوله ﷺ وسنته. يقول: لقد أقدم على هتك حرمات الله، والتقليل من قدر أوليائه، وإراقة دمائهم وظلمهم والجور عليهم، بالإضافة إلى إقدامه على سن سبّ عليّ ﷺ من على منابر المسلمين وجعله سنّة جارية في خلفه، وبغيه عليه ومحاربته وقتاله. ووفقاً لما يذهب اليه بعض المؤرخين، فقد شارك معاوية في قتل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب.
وفي المبحث الثالث يبين د. مكي كشكول دور معاوية في الثورة على عثمان وقتله حيث إنه تباطأ في تلبية طلبه بأن يمده بأنصار وأعوان ليقفوا إلى جانبه لإخماد الثورة، ذلك لأن في مقتل عثمان خدمة لمصالحه (معاوية) وأهدافه في بلوغ الحكم من بعده. وينهي د. مكي كشكول الفصل الأول من الكتاب بفقرة تلخص مثالب معاوية فيقول:
“وعلى هذا فحكم معاوية ومن تبعه من الحكام الأمويين وحتى العباسيين، ملك عضوض. والملك العضوض هو الذي يصيب الناس فيه الظلم والجور والطغيان كما قال ابن الأثير في (النهاية في غريب الحديث): “. . . ثم يكون ملك عضوض، أي يصيب الرعية فيه عسف وظلم، كأنهم يعضون فيه عضاً. والعضوض من أبنية المبالغة. (وفي رواية ثم يكون ملوك عضوض) وهو جمع عض بالكسر، وهو الخبيث الشرس، أي يكونوا ملوكاً يظلمون الناس، ويبغون عليهم ويؤذونهم بغير حق، قهراً وغلبة وعتواً وتكبّراً، والتعدي والتحكم عليهم بأنواع البلايا وأصناف الرزايا، ويعيثون في الأرض فساداً ويهلكون الحرث والنسل، وغير ذلك من المنكرات العظام. وبذلك يكون معاوية قد عبّد الطريق لتكون سالكةً أمام من يتبعه من حكام أمويين وعباسيين ليقترفوا الموبقات والمحرمات ولتكون فترة حكم الأمويين وصمة في تأريخ الأمة الإسلامية (ص 98)
في الفصل الثاني، المبحث الأول يناقش الكاتب موضوعان، الأوّل ادعاء المؤرخين ورجال الدين الرواية القائلة إن من يجتهد من الصحابة فيصيب، فله أجران ومن اجتهد، فأخطأ فله أجر واحد، ويناقش د. كشكول، هذه المسألة فيرى فيها ضعفاً وارتباكاً، إذ أنه لا يوجد أثر لهذا الحديث فيمن اجتهد وأخطأ في الامتناع عن دفع الزكاة إلى أبي بكر كما في حادثة مالك بن نويرة وقومه الذين اجتهدوا في عدم دفعها للخليفة أبي بكر لاعتقادهم أنها يجب ان تدفع إلى خليفة رسول الله علي بن أبي طالب وفقاَ لبيعة يوم الغدير وليس للخليفة المنصب أبا بكر. وبهذا فقد كان من المفروض أن يفسر الأمر على أن هؤلاء الصحابة اجتهدوا فأخطأوا، فلهم أجرٌ واحدُ. كما أنه لا يجوز أن يؤخذ بالسيف كل من لم يظهر الاستسلام والخضوع. فخشي أبو بكر أن يتسع الأمر بين القبائل فتنضم إلى أبي نويرة ويضعف حكمه وتسقط هيبته وربما تصبح حكومته في خطر إذا وجد عليّ في هؤلاء ما يكفي لتصعيد مستوى المطالبة بحقه الذي أخذ منه. وبناء عليه، حصلت حروب الردة. والردة هنا هي الرجوع عن الإيمان. أما الردة شرعاً فهي الرجوع عن دين الإسلام إلى الكفر، وبذلك يكون المرتد هو الراجع عن دين الإسلام إلى الكفر مثل من أنكر وجود الله أو كذّب رسولاً أو حلل حراماً كالزنا واللواط وشرب الخمر والظلم. . .
ويحكي المبحث الثاني، منافحات وتبريرات حروب الردة التي لا تصمد أمام دليل.
ويتابع المبحث الثالث مسألة حروب الردة ومحاولة شرعنتها وربطها بقتال المتنبئين، وقد ركّز الكاتب على الشخصية المركزية للمرتدين المعروف بمسيلمة الكذّاب، وبيّن أن معظم المرتدين كانوا من الأعراب الذين لم يألفوا حياة المدينة والتحضر، فكان لطول عيشهم في الصحراء يدٌ في جفاف أخلاقهم، وهذا ما يوافق ما جاء في القرآن الكريم: (أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، والله عليكم حكيم). ويختتم الكاتب المبحث منوهاً أن هنالك العديد من الأعراب من آمن وحسن إسلامه.
لا تقتصر قيمة هذه الموسوعة بما تختزنه من كم معرفي كبير، بل يزاد عليها جماليات الأسلوب، حيث زاوج المؤلف بين الأسلوب العلمي الذي يعتمد لغة علمية يغلب عليه الطابع التقني الدقيق والمختزل، وبين الأسلوب الجمالي القائم على العاطفة والخيال المبدع. نقرأ ذلك أول ما نقرأه في عنوان الكتاب: “الكوفة بين الولاء العلوي والعماء الأمويّ”، ففي هذه الجملة إيقاع موسيقي لبق تجلى سجعاً: (الولاء/ العماء. العلوي/ الأموي). وفيها تكثيف وتدلال ودعوة لبقة للقراءة، بمعنى أنها تفتح أمام القارئ آفاقاً رحبة للتأويل والكشف عن المتعالقات الجمالية المترابطة بين العنوان وبين بُنْية النص. (للبحث صلة)
[1] الدكتور مكي كشكول، (الكوفة بين الولاء العلوي والعداء الأموي)، ط/1، الرويس، دار المحجّة البيضاء، 2023
[2]عائدة السيفي، “تغطية توقيع كتاب الكوفة بين الولاء العلوي والعداء الأموي للباحث الدكتور مكي كشكول”، (مجلة النجوم)، سدني، فبراير 25, 2024
[3] التاريخ الإسلامي مليء بالتزييف ويحتاج للتنقية”: مؤلف موسوعة الكوفة يرد اعتبارها تاريخيًا | SBS Arabic
https://www.sbs.com.au/language/arabic/ar/podcast-episode/kufa-between-alawite-loyalty-and-umayyad-hostility-an-analytical-reading-of-the-succession-of-imam-ali-by-an-iraqi-researcher-in-sydney/t07c51frx
[4] تعتقد الباحثة أن الكلمة يجب ان تكون (أمره ما) وليس (امرهما)