الاستثمارُ في الإنسان .. صناعةُ المستقبل لانهايةَ لنهوض الأمم
سفانة الديب
.. هذا ماتؤكّده تجاربُ دولٍ مذهلة ، نهضت من تحت الرّكام ، رغم التّحديات الجسيمة والظّروف القاهرة … فمن منا لايستشهد بسنغافورة عندما يتحدث عن النّجاح والإبداع وقوّة الإرادة التي حوّلتها من جزيرةٍ فقيرة لامياه للشرب فيها ، وتقبع على بحر من الكوارث إلى مركزٍ مالي عالمي ، وواحدة من أهم الاقتصادات في العالم . ماليزيا من دولة ضعيفة هامشية غارقة في الفقر والفوضى إلى أرض الفراشات .. اليابان ” الأمة الجميلة ” والتي نهضت من القاع والرماد إلى قمة التطور والحضارة وأصبحت في مقدّمة الدّول المتحضرة .. ولكن كيف ؟ سؤال يراود الكثيرين عند الحديث عن الأسباب الحقيقية التي تستطيع أن تحوّل الدول من مدنٍ مثيرةٍ للشفقة إلى دولٍ مذهلة ومثيرة للإعجاب ، بالطبع لاشيء يأتي بالصّدفة … إذاً دعونا نسلّط الضّوء على المفاتيح التي حملت هذه الأمم من ماضٍ يائس ومُدمّر إلى حاضرٍ مبهر ومستقبلٍ مزدهرٍ وعظيم … عندما سُئل امبراطور اليابان عن أهمّ أسباب تقدُّم دولته بوقتٍ قصير ووضمن ظروفٍ كارثية قال : بدأنا من حيثُ انتهى الآخرون ، وتعلّمنا من أخطائهم ، وأعطينا المعلّم حصانة الدبلوماسي وراتب الوزير … إنّ أعظم اكتشافات اليابان هو الإنسان ذاته وهو جوهر التجربة اليابانية … واليابانيون شعب منتج منذ فجر تاريخه .. ويشترط لاستمرار اليابان وتفوقها وتقدمها ، أن كلَّ يدٍ ينبغي أن تعمل .. هُزمت اليابان في الحرب العالمية الثانية ، وفي أقلَّ من خمسين عاماً انتقمت من العالم بالعلم والتقنية ، ووقفت على قدميها فيما يشبه المعجزة ، فهي الدّولة الوحيدة التي ضُربت بقنبلتين ذريّتين ونجت وداوت جراحها ، وأصبح الفرد الياباني فيما بعد مضرب المثل في العمل والتفوّق والسّعادة . وهذا الشّيء ينطبق على سنغافورة التي صَمّمت على اكتشاف المواهب البشرية والاستفادة منها، بناءً على عدد من الفرضيات الرئيسية؛ أولها أن بعض الناس أكثر موهبةً من غيرهم بحكم الطبيعة ، وثانيها أنّ المواهب والقدرات الاستثنائية يمكن أن نجدها بين الفقراء كما نجدها بين الأغنياء دون فرق . وبناءً على ذلك فمن المنطقي إذًا افتراض أن الدولة قادرة على التخطيط والبحث بشكل استباقي ، وتطوير المواهب الموجودة في نسيجها السكاني. فاستعانت سنغافورة بعوامل مهمة مثل الصّحة وجودة الحياة التي من شأنها إطلاق الإمكانات البشريّة التي ستؤدي في نهاية المطاف إلى تحقيق إنجازات فردية وجماعية غير مسبوقة. قدمت سنغافورة نموذجاً فريداً في تنمية رأس المال البشري، كاستراتيجية وطنية اتبعتها بعد الاستقلال عن ماليزيا، واستلهمت بعض أسس التّعليم من التّجارب البريطانية والغربية، واختراق العالم بتربية العقول ، والتّركيز على التعليم المُنتج ، فالفهم أهم من الحفظ وأصبح التعليم هو المفتاح للمستقبل طويل المدى لسكان سنغافورة ، التي لا تملك موارد طبيعية ، لتتحوّل الجزيرة إلى ميزةٍ رغم افتقارها للموارد الطبيعية ، لأنها اضطرّت إلى تطوير موردها الوحيد ” الاستثمار في الإنسان ” . يقول عالم الجيولوجيا النرويجي الجنسيّة من أصولٍ عراقية الدكتور «فاروق القاسم» : لا تُحّدثني عن ثروةِ أيِّ بلد؛ وأهله مشحونون بالحقد والعنصريّة والمناطقية والجهل والحروب .. نيجيريا مثلاً من أكثر الدول غنىً بالثروات والمعادن ، ومن أكبر دول العالم المُصدّرة للبترول، ولكن أنظر إلى حالها ووضعها، والسبب أن الإنسان فيها مشبعٌ بالأحقاد العرقيّة ، ومُحمَّلٌ بالصّراعات ، أي لاعقل ينهض بالأمة . في عصرنا الحالي ، الشّعوب المتخلّفة فقط هي التي تنظر لباطن الأرض ، وما الذي ستخرجه كي تعيش ، في الوقت الذي أصبح الإنسان بحدِّ ذاته هو الاستثمار الناجح والتجارة التي لا خسارة فيها . ويظلُّ المعنى المُستلهم من هذه التجارب ، أنه يمكن لأيِّ دولةٍ أن تنهض مهما كانت ظروفها سيئة ، بشرط الإرادة الواعية ، وأن تكون تفاصيـل البناء وكفاءة القيـادة ونزاهتها والارتكاز على الإنسان ، هي المعيار الأول الذي يحدّدُ أساسَ الحاضر وملامحَ المستقبل.