في ذكرى البريكان
—————-
صَمَمٌ وازورار:
تصاممَ الشاعر محمود البريكان (1931_ 2002) عن اليمين بأُذُن اليسار، وعن اليسار بأُذُن اليمين؛ وكان بندول ساعته الجداريّة يتدلّى من السماء للأرض، متأرجِحاً بين اليمين واليسار، ساخراً من رحلة الزمن القصيرة، على شاطئ حياته.
ذكرى البريكان تحضر ثانية، بأُذُن واحدة متصامِمة عن عدوّ لدودٍ يناكدُها، وتغمض عيناً عن شبح خِلٍّ يراودُها؛ وذاك البندول يمسح ما كُتِب، أو يثبِّت ما مُحِي.
قصيدة البريكان تعمل بإحساس هاتين الحالتين: التصامُم أو الازْورار؛ وكلّ ما عداهما باطل، ومحض سَراب. فالتاريخ يقف مخذولاً خارج نطاق القصيدة، رغم أنّ صاحبها المحبّ/ الواثق لم يكفّ عن تأرخة قصائده، كلّما عاد لنشر إحداها في صحيفة أو مجلّة. (ولم يُطبع له ديوان موثَّق).
حيث يبدأ المسار ينتهي في مكانه، فكأنّما الأبدية دقائقُ معدودة، والزمن حركةُ بندولٍ لا أكثر؛ والمشاعر ارتساماتٌ لا تلبث أن تزول في لحظة خاطفة، أو صدفة مارقة. ولأدلّل على ذلك بقصيدتين للبريكان، كتبَهما على جانبي تاريخٍ غير مؤتمَن على ودائع الشاعر عنده، فقابلَه صدّاً بصدّ.
القصيدة الأولى “رحلة الدقائق الخمس، 1960، المختومة بهذا المقطع:
“هنا يذوب الهمس/ ويجمد الصخب/ وتكذب النار، وتبقى رعشة اللهب/ مدينة تكاد لا تعرفها العيون/ تأكلها ضوضاؤها، يرعبها السّكون/ في وحشة الإياب/ من رحلة الدقائق الخمس”.
والقصيدة الثانية “البدويّ الذي لم يرَ وجهه أحد، 1987:
“وهو “يطوي العصور ويعبر جيلاً فجيلاً/ إلى آخر الأزمنة”.
حزن، شحوب، هروب، إياب، عمق، انتهاء، رعب، سكون.. علاماتُ الرحلة القصيرة، ستنعكس في رحلات أطول بين محطّات رماديّة عديدة كتلك التي ساقَت “عيسى بن أزرق إلى الأشغال الشاقة”_ إحدى قصائده. وليس من دليل على حدوث هذه الرحلات، حين تغُشّ الأحاسيسُ “البدويّة”، التي عدَّها الشاعر مصباحَ معرفته، سبيلَه إلى اليقين.
تؤثِّث المفردات المشبَّعة بندى فجرٍ رماديّ معظمَ قصائد البريكان، وتتوشّى الصورُ بضباب قادم من وراء ظهر الزمان، فتجعل الحركةَ محصورة في زاوية بندولٍ ضيّقة. أليس التاريخ “عارَ الضحايا” المحض، تُجسِّد الجثثُ فظاعتَه، وتدور طاحونتُه كأنّها “عقاب العصور”؟
ثم تتواتر التشبيهات، بما لا يُحصى؛ يبتغي الشاعر منها أن تعينه على الإفلات من حتمية “الميراث المشؤوم” الذي يرزح به ظَهرُه الضعيف. ففي قصيدة واحدة عنوانها “في الرّياح التاريخيّة” يعمد الشاعر إلى تقريرات رنّانة من وراء سَتْر الاستعارات والتوريات الشفيفة. إنّه طَبْل القدَر، يُقرَع على جانبي الرّحلة التي لم تتمّ قطّ، ونسمعه بعيداً أيضاً خلال قصيدة شهيرة أخرى هي “حارس الفنار”.
القطارُ الواجم في محطته (في قصيدة: رحلة عيسى بن الأزرق)، والسفينةُ الراسية في مرفئها (قصيدة: حارس الفنار) يطول بهما الأمَد، كالجمَل البارك في واحته (قصيدة: البدويّ الذي لم يرَ وجهه أحد)؛ ولا دليل على ابتداء الرّحلة (والرّحلة عند البريكان حركة ترافق سطوةَ العقل ومعاناة الروح).
حركة افتراضية تناكِد التاريخَ (سلطتَه القاهرة غير المرئية) يعانيها “البدويُّ” الذي تتعاقب عليه العصور، وهو واقف مع بعيره، ممسوحَ الوجه بلا تذكار.
أمّا حين يلجأ الشاعرُ إلى مقارنة زمانه بزمن التائهين الخالدين، امرئ القيس والمتنبي والمعريّ، وقد جمَعَهم الشاعر في واحته، فلن يتقدّموا إلّا على سبيل السياحة “البندوليّة” لساعة القدَر ومصادفاتها العجيبة. وكلّهم تائه عن حِسّه، وكلّهم مناكد لقدَرِه. والشاعرُ يراقب من سَنام جَملهِ تتابُعَ المشاهِد، من أقدم العصور.
يطوي “البريكان” ببقية روحٍ هائمة الفلَوات، ويندفع ببراءة طريدٍ لا يريد للعيون أن تلاحظه. فلكي يصبح الشاعر “شاهداً أبديّاً” على القسوة والطغيان، عليه أن يذمّ الخنوعَ والعبوديّة، لكن من وراء “لِثام” لا يفضح هوّيتَه (مكانَه وزمانَه). وهنا تأتي تواريخ كتابة القصائد التي يحرص “البريكان” على تثبيتها على قصائده، لتتمّ المفارقة الشِّعريّة والشُّعوريّة على حدّ سواء. فليست التأرخة سوى توشيةٍ أخرى لا تختلف عن “ضباب المحطّات”، وعتمة الموانئ، وشوارع المدُن الحَجريّة. إنّه العارف المختفي أبداً، الراحل قبل أوانه، وراء ظهور “العبيد” الخانعين، السائر فريداً بين النُصُب والتماثيل.
ومثل هذا الصنيع يحتاج لمعجزة لا تقلّ مجهوليتها عن معجزات الأنبياء الغامضين، أولئك الذين دفعوا أغلى الأثمان لقاء كشوفاتهم وجرأتهم على زمنهم. فلا غرو، إذنْ، أن يكون البدويُّ الغامض هو “أليعازر” “الذي كتبَ الله أن لا يموت” ينهض في كلّ حين عابراً برؤياه أرضَ الأحياء حتى آخر الأزمنة. فهل نحن قادرون على اقتفاء هذا الشاهد الأبديّ، الراحل الضالّ، في كشفه وتساؤله، نائباً عن البشر؟
“هذا الرميم/ متى يتحرك/ هذي العروق/ متى تتدفق بالدم؟/ هذه اليد الذابلة/ متى تتحرر من موتها/ متى يا إلهي؟/ متى؟”.
وكالبندول المتأرجِّح أيضاً، فالشاعر الخالد، العائد من الموت كلَّ عام، يأتي ليشارك البشرَ “خنوعَهم” رغماً عن مناداته إياهم بالارتفاع والنهوض.
يهتفُ في الأجداث المؤبَّدة؛ إلّا أنّ دعوته إلى التأمّل والخروج من ضوضاء المدُن الحجريّة، أو السّفر بين المحطّات الرماديّة، لا تؤرِّخ لاستجابةٍ فعّالة.
فالشاعر، أخيراً، يرحل وحيداً ويعود وحيداً، وليس في استقبالهِ أحد.
* من (المحشر النقال)
