أوراق بنت النيل

شارك مع أصدقائك

Loading

 ا.د هبة مهتدي

 

الجميح

في يوم ما اتصلت بي (منة) وهي في حالة غريبة من الحزن والغضب والاستياء، حتى قلقت عليها وسألتها عن السبب.

فقالت: “حكاية حدثت لي ولن يكفي الوقت الآن لشرحها.”

منة (وهذا الاسم اخترته لكتابة القصة وليس الحقيقي بالطبع) هي قريبة إحدى صديقاتي وتعتبرني صديقتها برغم فارق العمر بيننا.

هي آنسة جميلة وجمالها يكمن في عينيها الواسعتين وشعرها الناعم الأسود الطويل وبراءة ملامحها. هي حاليا في نهاية الثلاثينات من العمر،

حاصلة على الدكتوراه في الإلكترونيات وتعمل في منصب قيادي في إحدى الشركات بأمريكا.

اتفقت معها أن نلتقي في مكالمة فيديو في وقت يناسب كلتانا، وبالفعل تم الاتصال وبدأت تحكي لي ما حدث كالتالي:

منذ فترة جاءتني طلب صداقة على الفيس بوك ورسالة من جارنا في منزل العائلة القديم (وسوف نطلق عليه اسم رامي). أخبرني أنه سيأتي إلى أمريكا في مهمة عمل وأنه يتمنى رؤيتي ولو مرة واحدة خلال رحلته.

فرحت كثيرًا بتلك الرسالة، وعاد بي الزمن إلى الوراء وتذكرت كيف كان (رامي) طفلًا رقيقًا مهذبًا، ولكنه كان يتميز بجمال لافت للأنظار.

ثم تذكرت أيضًا كيف كان يفضل اللعب معي مميزًا لي عن غيري من الفتيات.

وكبر (رامي) وصار شابًا رياضيًا وسيمًا ومتفوقًا، والتحق بكلية عملية وكانت الفتيات تتسابق للتحدث معه أو الفوز بقلبه.

باعدت بيننا الأيام وانشغل كل منا بحياته، ولكنه ظل له مكانة كبيرة في قلبي.” ابتسمت (منة) في خجل وقالت: “كان حبي الأول البريء؛

حب طفلة تخطو نحو المراهقة ولكنه كان حبًا على طريقتنا في ذلك الوقت.”  قلت: “على طريقتكم!

قالت: “كنا البنات العربيات خجولات ولا نفصح عن مشاعرنا إلا إذا بادر الفتى أولاً. كي لا أطيل عليك،

فرحت برسالته واتفقنا على اللقاء إذ سيأتي إلى الولاية التي أعيش بها هنا بعد انتهاء عمله في ولاية أخرى.

ضبطت جدول عملي كي أستطيع مقابلته ومرافقته في مشاهدة الأماكن السياحية. وخلال انتظار مجيئه،

انتابتني مشاعر متباينة ما بين الحنين والفضول لمعرفة كيف صارت شخصية (رامي) بعد كل هذا العمر.”

وجاء (رامي) وبعد الترحاب تطرق الحديث إلى ذكريات الطفولة والصبا. حكى لي عن طليقته وكيف أنها كانت رائعة الجمال وأنه تزوجها منذ سنوات ولكنهما لم يكونا سعداء وتم الطلاق مؤخرًا. ثم كانت المفاجأة حين اعترف لي بأنه أحبني أيضًا في فترة الصبا ولكن لم يكن لديه فرصة لمصارحتي.

فوجئ بخطوبتي وأنا في عامي الثالث من الجامعة وشرح لي كيف صدم وأحبط، ولكنه بعد مرور عام قرر طي تلك الصفحة وبدأت علاقته بطليقته وأم بناته. لم يعلم أن خطوبتي فسخت بعد عامين وأنني لم أرتبط بعدها وركزت على مستقبلي ودراستي.

قلت: “إنها الأقدار، ولكن ماذا فعلت حين علمت بمشاعره تلك؟”

قالت: “ارتبكت حين سمعت هذا الكلام، وسألت نفسي كيف لم ألاحظ هذا حينها؟ وسيطرت علينا حالة من النوستالجيا.

ضحكت من قلبي، فابتسم (رامي) قائلاً: لم تتغيري، لا زالت البراءة في عينيك ولا زلت محتفظة بجمالك وضحكتك الجميلة. حينها دق قلبي بشدة، وتوردت وجنتاي وكأني فتاة صغيرة.”

قلت: “أفهم شعورك… ولكن الأمور تبدو لطيفة… ماذا حدث بعد ذلك وجعلك في هذه الحالة من الغضب والاستياء؟”

قالت: “انتهى اللقاء الأول الذي امتد لساعات كأنها دقائق وعدت إلى منزلي امرأة أخرى، سعيدة محبة للحياة ولكل من حولها. أثناء عودتي سمعت كل الأغاني التي تتحدث عن الضحكة.

قلت ضاحكة: “يا سيدي على المشاعر، وأين المشكلة إذن؟”

قالت (منة): “سأخبرك بما حدث. استمر التواصل بعد ذلك وبدأت المحادثات والمقابلات اليومية في تلك الإجازة، ولكنني لاحظت أشياء أزعجتني.”

قلقت من كلامها وقلت: “ماذا تعنين… هل هو غير مهذب أم أناني أم…؟”

قاطعتني (منة) قائلة: “تافه.” “اكتشفت أنه صار رجلًا تافهًا.”

لم أتمالك نفسي وانفجرت ضاحكة وقلت بطريقتنا كمصريين: “يا شيخة! فعلاً! كيف ذلك؟”

قالت: “كل اهتماماته حول التريندات على وسائل التواصل الاجتماعي، صار يحفظ أغاني المهرجانات ومقاطع الأفلام والمسلسلات ويتحدث عن تفاصيل زواج وطلاق المشاهير، أهم أولويات حديثه هي البراندات الفخمة لحذائه وساعته وأحدث موديلات موبايله وسيارته واللاب توب. حياته تدور حول العمل في الشركة ومقابلة الأصدقاء وتناول الطعام ومشاهدة الأفلام أو لعب بلاي ستيشن. لا مكان في حياته للقراءة ولا لأي شيء هادف. لقد اهتزت صورة الفتى الوسيم المثالي. قارنت بين حياة كل منا فوجدتني على نقيضه تمامًا. برغم عملي وانشغالي، لدي وقت دائم للقراءة والرياضة والتأمل والأعمال الخيرية ومتابعة الشأن العام. انتابني قلق من بدء أي علاقة معه، إذ استشعرت أنه لا ولن يناسبني حتى وإن تأثرت بكلماته الرقيقة.”

قلت: “وماذا فعلت إذن؟”

قالت: “قررت مصارحته وإنهاء العلاقة الناشئة وجهزت كلمات منمقة. حين قابلته، وجدته سعيدًا جدًا وأخبرني ضاحكًا أنه أثناء الإفطار كانت هناك فتاة تعاكسه في الفندق. أسقط في يدي وقتها! استجمعت شجاعتي وقلت: “أنت تعلم يا (رامي) كم أعزك منذ طفولتنا ولكنني هذه الأيام أمر بظروف صعبة نفسيًا وأخشى أن أتعلق بك.” لم يسمح لي (رامي) بأن أكمل كلامي وهاج واعتبر أنني أهنته وانهى الحديث قائلاً: “أنا من سئم حياتك المملة وأحاديثك الجادة.” وتركني ومشى.

رغم تأثرها، لم أتمالك نفسي من الابتسام وقلت: “هل غضبت لذلك؟”

قالت: “مؤكد جرحتني كلماته.”

قلت: “افهم مشاعرك ولكن يجب أن تحمدي الله أنه أنقذك من هذا التافه.”

قالت بحسرة : “خسارتك يا (رامي)”

وبعد انتهاء المكالمة قلت لنفسي: “ألف خسارة عليك يا (رامي) أنت وكل من كان مشروعًا لإنسان ناجح وواعي ثم انجرف للأسف مع طوفان التفاهة الذي أغرق العالم”.

شارك مع أصدقائك