ضرورات التدوير في الشعر العربي

شارك مع أصدقائك

Loading

ريسان الخزعلي

( 1 )
تأسس َ الشعر العربي بشكله ِ الأوّل على البيت الشعري ذي الشطرين الأفقيين ، الصدر والعجز ، وكذلك البحر الشعري الواحد ، والقافية الواحدة على الأعم . ولابد َّ لهذا البيت على الأعم أيضا ً أن يحمل معنى ً دالّا ً ضمن نسق تتابع أبيات القصيدة . ولكي يُحافظ الشاعر على توزيع تفعيلات البحر بالتساوي بين الشطر والعجز ، يضطر أحيانا ً إلى أن ينقل جزء ً من آخر مفردة في الصدر إلى بداية العجز . وهذا الإضطرار هو ما أُطلق عليه اصطلاحيا ً في علم العروض بالتدوير . وكمثال للتوضيح ، من شعر المتنبي :
أنا من أمّة ٍ تداركها الل ه ُغريب ٌ كصالح ٍ في ثمود ِ
البيت الشعري ، من بحر الخفيف ، فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن ، وفي التقطيع العوضي :
فعِلاتن مُتفْعِلن فعلاتن فعلاتن مُتفْعلن فاعلاتن ….. .. وما حصل َ من تغيير في تفعيلتي ( فاعلاتن و مستفعلن ) كان طبيعيا ً ، لأنّه ُ من تحوّلات هذين التفعيلتين في بحر الخفيف . ولو كتبنا البيت على هذه الشاكلة :
أنا من أمّة ٍ تداركها الله ُ غريب ٌ كصالحٍ في ثمود ِ
سيكون التقطيع العروضي :
فعلاتن متفعلن فعلاتن فا فعولن متفعلن فاعلاتن
ومثل هذا التوزيع الجديد للتفعيلات ، لا يتوافر عليه أي ُّ بحر ٍ من البحور الخليليّة ، كذلك سيختل ُّ الإيقاع الموسيقي نتيجة فقدان التساوي والتجانس في عدد التفعيلات بين الصدر والعجز . من هنا يصح ُّ القول بأن َّ التدوير قديم في الشعر العربي على مستوى البيت الواحد ، وكان ضرورة ً عروضية ً / موسيقيّة ، ولا يزال حتى يومنا هذا يحصل في قصيدة الشطرين الأفقييَن ، القصيدة الأفقيّة ، وليست العموديّة ، كما أعتدنا أن نُسمّيها .
( 2 )
في العراق ، وفي نهاية الأربعينيّات ، كما هومعروف ، حصل التجديد في شكل القصيدة العربية ، والذي أُطلق عليه ( ثورة الشعر الحديث ) أو الشعر الحر . وقد جاء ذلك التجديد بتضافر ابتكارات الشعراء : نازك الملائكة ، بدر شاكرالسياب ، عبد الوهاب البياتي ، بلند الحيدري . وامتد َّ التأثير إلى معظم الشعراء العرب .
إن َّ التسمية ( قصيدة التفعيلة ) لم تكن هي َ التي أُطلقت على هذا الشكل الجديد في البداية ، وإنّما كان / الشعر الحر / هو الإسم الأكثر وضوحا ً وتداولا ً . والشعر الحرحسب محددات / نازك الملائكة / في كتابها ( قضايا الشعر المعاصر ) وهي َ محددات دقيقة ، هو شعر موزون ، غير َ أنّه لا يلتزم بعدد تفعيلات بحور الخليل في الشطر الشعري ، كما أنّه ُ لا يلتزم بقافية واحدة في القصيدة ، وأن َّ التوصيف بأنّه شعر خال ٍ من الوزن والقافية غير صحيح .
وبهذه المحددات أرادت الملائكة أن تُبعده ُ عن مفهوم الشعر الحر في الآداب الأجنبية .
إن َّ الشعر الحر في بنائه ِ الأوّل كان يقوم على الشطر مكتمل المعنى مهما كان عدد تفعيلاته ، كما كان َ اكتمال المعنى في بيت الشعرالعربي ، كقول السياب مثالا ً ، للتوضيح :
عيناك ِ غابتا نخيل ٍ ساعة َ السحَرْ
أو شرفتان ِ راح َ ينأى عنهما القمرْ
عيناك ِ حين َ تبسمان ِ تورق ُ الكروم …
بعد َ تقادم تجارب كتابة الشعر الحر واتّساع هذه التجارب فنيّا ً ، وبعد أن حقق الشعر الحر رسوخه ومقبوليته ، مال َ بعض الشعراء إلى التجريب ، ومن بعض أنماط هذا التجريب ، الخروج عن مفهوم اكتمال المعنى في الشطر الواحد ، وأصبح اكتمال المعنى يتم ُّ بأكثر من شطر شعري ، وهنا تسلل َ ( التدوير ) بقصديّة ٍ أو من عمق ِ تحسس ٍ موسيقي ، أو بتلقائيّة أحيانا ً ، أو لإظهار المهارة العروضية في التدوير ، كما في المثال الآتي لخليل خوري :
آه ٍ متى يشتدُّ عصف ُ الريح ِ ،
عصف ُ الريح ِ روح ُ البحر ِ ،
لولا الريح ُ جف َّ البحر ُ ، آه ٍ
مَن يحث ُّ لنا السحاب ؟
هذه الشطرات من بحر الكامل ( مُتفاعلن وتحوّلاتها إلى مُتْفاعلن ) ..، ولأن الشاعرأراد َ اكتمال المعنى في أكثر من شطر ، فقد تسلل َ التدوير كما في التقطيع الآتي :
مُتْفاعلن مُتْفاعلن متْفا ع ِ
لن ، متْفاعلن متْفا ع ِ
لن ، متْفاعلن متْفاعلن مُتْ
فا علن ، مُتَفاعلان .
وهكذا استمر َّ التجريب ، وتجاوز َ التدوير إلى ما هو أبعد من شطرين أو ثلاثة ، وأكثر ، حتى شمل القصيدة بكاملها ، كما في تجربة الشاعر / حسب الشيخ جعفر / في مجاميعه : الطائر الخشبي ، زيارة السيدة السومرية ، عبر َ الحائط في المرآة .
إن َّ تدوير البيت الشعري في القصيدة الأفقيّة ، كان َ ضرورة ً عروضيّة ً حتميّة ً كما أوضحنا . أمّا في الشعر الحر ، فلم تكن ْ الضرورة ُ حتميّة ً، فقد كانت متأتيّة من الإضطرار لإطالة الشطر الشعري وصولا ً إلى اكتمال معنى هذا الشطر . ومثل هذا الإضطرار ، لابد َّ أن يحصل فيه التدوير لإكمال التفعيلات أيضا ً . وحين يكتمل معنى أيِّ شطر ٍ ، قصُرَ أم طال َ ، تنتفي حاجة التدوير مع الشطر الذي يليه تلقائيّا ً . إذن التدوير في الشعر الحر هنا ، يتأرجح بين خياري الضرورة واللاضرورة .
( 3 )
كتب الشاعر / أدونيس / قصيدته ( هذا هو إسمي ) عام 1969 بشكل ٍ جديد ٍ مُغاير ٍ لشكل قصيدة الشعر الحر ، وقد كانت قصيدة ً لافتة ً في الشعرية العربية ، إذ كُتبت بشكل يقوم على الكتلة المتبوعة بالفراغ / البياض . ونتيجة ً لهذا الشكل الجديد ، عدّها الكثير في حينه من أنّها نثر وليس شعرا ً . لكن َّ القصيدة كانت إيهاميّة على مستوى الشكل والبراعة العروضيّة ، إذا جاءت قصيدة مدوّرة ، وهذا جزء من استهلالها :
ما حيا ً كل َّ حكمة ٍ هذه ِ ناري َ
لم تبق َ – آية ٌ – دمي الآية ُ
هذا بدئي
دخلت ُ إلى حوضك ِ أرض ٌ تدور ُ حولي َ أعضاءك ِ
نيل ٌ يجري طفونا ترسّبنا تقاطعت في دمي قطعت ْ
صدرُك ِ أمواجي َ انهصرت ِ لنبدأ : نسي َ الحب ُّ شفرة َ الليل هل
أصرخ ُ أن َّ الطوفان َ يأتي ؟ لنبدأ ….
وعند إعادة تركيب هذه الشطرات سنجد شكلا ً آخر :
ما حيا ً كل َّ حكمة ٍ هذه ِ
ناري َ لم تبق َ آية ٌ دمي َ الآ
يَة ُ هذا بدئي دخلت ُ إلى حو
ضك ِ أرض ٌ تدور ُ حولي َ أعضا
ؤك ِ نيل ُ يجري طفونا ترسب
نا تقاطعت في دمي قطعت ْ صد
ركِ أمواجي َ انهصرت ِ لنبدأ
نسي َ الحب ُّ شفرة َ الليل ِ هل أص
رخ ُ أن َّ الطوفان َ يأتي ؟ لنبدأ .
إن َّ هذا الشكل ، هو شكل البحر الخفيف ( فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن ٌ – وتحوّلاتها ) . ولم ينقصه سوى القافيّة الواحدة ليكون قصيدة أفقيّة . وإن َّ براعة أدونيس العروضية تكمن في تدوير تفعيلات هذا البحر . إذن كان شكل قصيدة ( هذا هو إسمي ) شكلاً إيهاميا ً حاول إخفاء التدوير الذي لا يُخفى . ولنكتب الشطرين الأوليَن- كمثال للتوضيح – بطريقة عروضية كي نرى موقع التدوير :
ماحيا ً كل َّ حكمة ٍ هذه ِ ناري َ لم تبق َ آية ٌ دمي َ الآ
فاعلاتن مُتفْعلن فاعلا تن فعلاتن متفْعلن فعلات
إن َّ التدوير قد حصل بين الهاء في ( هذه ِ ) وال ( نا ) في ( ناري َ ) . ولو نقل َ أدونيس ( نا ) إلى الصدر ، لكان َ شكل البحرالعروضي كاملاً ، إلّا أنّه ُ أراد للمفردتين ( هذه ِ ، وناري َ ) أن يحتفظا بشكلهما المستقل لضمان النبرة الإيقاعيّة :
ماحيا ً كل َّ حكمة ٍ هذه ِ نا ريَ لم تبق َ آية ٌ دمي َ الآ
فاعلاتن مُتفْعلن فاعلاتن فعلاتن متفْعلن فعلات .
( 4 )
التدوير في تجربة الشاعر / حسب الشيخ جعفر / المتفرّدة ، تجاوز تدوير الشطر أو الشطرين وصولا ً إلى تدوير مقاطع من القصيدة أو القصيدة بكاملها وبتداخلات ٍ عروضية . والسبب مرتبط باكتمال المعنى أيضا ً ، ولكن المعنى عند الشيخ جعفر ، غالبا ً لا يكتمل بأشطر ، وإنّما بقصيدة كاملة أو بمقاطع منها ، لأن قصيدته ُ تقوم على تقنيّة السرد ، والسرد بطبيعته استرسال واستغراق .
وبما أن َّ السرد شعري ُّ البناء ويقتضي التشكيل وبخاصة ٍ نهايات المفردات ، فإن َّ تلاحم أجزائه لا يتم ُّ إلا بالتدوير ، حفاظا ً على الرنين الإيقاعي الكامن في الموسيقى العروضية المتخفّية بالتدوير ، لأنّه ُ يكتب شعرا ً لانثرا ً، ومن هنا كانت ضرورة التدوير في شعره متأتيّة من هذه السرديّة الشعريّة . وكمثال ، هذا المقطع من قصيدة ( السيّدة السومرية في صالة الاستراحة ) :
تخيّرني وجهك ِ السومريِّ مطارا ً ، فما لي سوى أن أُرحّب َ أو أن أودّع َ ، سيّدتي كنت ِ لي نجمة ً في سماء ِ المخازن ِ تؤنسني كلّما انحسر َ المشترون َ ، اتركيني ألم ُّ تقاطيع َ وجهك ِ في الحائط ِ المتآكل ِ في أور َ ، في صالة ِ الاستراحة ِ ، في أوجه ِ العارضات ِ النحيفات ِ ، عودي تماثيل َ في باطن ِ الأرض ِ أو في المتاحف ِ بيني وبين َ الشحوب ِ الذي لَمَستْه ُ يدي برهة ) .
إن َّ السياق السردي واضح في هذا المقطع الشعري الذي يبدو لغير المُتمعّن وكأنّه ُ نثرٌ . وعند التحليل العروضي سنجد أنّه مبني ٌّ على بحر المتقارب ( فعولن ) وبتدوير ٍ مُتقَن :
1 تخيّرني وجهك ِ السومري ُّ مطارا ً …. ( فعول ُ ، فعولن ، فعولن ، فعولن ) .. وهذا الشطرلا يوجد فيه تدوير ، وجاء بكامل تفعيلات بحر المتقارب الأربع ، وقد أراد منه ُ الشاعر استهلالاً كاشفا ً للبحر الذي يستخدمه ُ .
2 فمالي سوى أن أرحّب َ أو أن أودّع َ ، سيّدتي ….
فمالي سوى أن أُرحْ حِ بَ أو أن أودْ دِ ع َ سَيْ يِ …
( فعولن ، فعولن ، فعول ُ ، فعولن ، فعول ُ ، فعول ُ ) … والتدوير حصل في ( فعول ُ ) الأخيرة حيث اكتملت بانتقال العين من ( أودّع َ ) إلى ( سَي يِ ) من ( سيدتي ) .
3 وهكذا ، يمكن ملاحظة التدوير الذي يحصل في الأشطر الأخري ، وذلك بانتقال الحرف ( تدويره ) من آخر مفردة قبل َ الفارزة إلى أول حرف من المفردة التي بعد الفارزة ، إلى أن يكتمل المقطع أو تكتمل القصيدة .
وكخلاصة :
التدوير في الشعر العربي : ضرورة حتميّة أو بين الضرورة واللاضرورة .. ، أو ضرورة شعرية / سرديّة كما في تجربة / حسب الشيخ جعفر / التي تبعتها تشابها ً تجارب لشعراء مهمّين جدا ً . أو إيهاما ً عروضيا ً كما في قصيدة ( هذا هو إسمي ) .
شارك مع أصدقائك