جزء من مقدَّمة كتاب “مَجْمَع اللقى البلاغيَّة”

شارك مع أصدقائك

Loading

سعيد الغانمي 

يشكِّل هذا الكتاب جزءاً تالياً ومكمِّلاً لكتاب “فاعليَّة الخيال الأدبيِّ”. فهو يشترك معه في موضوعتِهِ، أي بلاغيَّة المعرفة، أو البحث عن الأُسس المعرفيَّة للبلاغة، أي الانتقال بها من مستوى الجمال إلى مستوى الابتكار الفكريِّ، كما ذكرنا في الكتاب السابق. يبحث هذا الكتاب في هذه الموضوعة نفسها، إذ يحرص على بيان موقف الأدب والفلسفة من الاستعارة، ومحاولة استكشاف هل يختلف تناولهما لها، أم هما يشتركانِ في النَّظرة إلى الاستعارة، التي تحضر في النُّصوص الفلسفيَّة بمثل حضورها في النُّصوص الأدبيَّة، ولكن مع بعض الاستعارات الخاصَّة، لا مع جميعها، وبخفاءٍ أكثرَ ممّا يبدو لدى الوهلة الأولى. وفي الواقع، فقد كان ينبغي إنجاز هذا العمل قبل هذا الوقت وبعد الانتهاء من الكتاب السابق مباشرةً. لكنَّ الإكباب على مشاريعي في الأعمال الأخرى هو الذي حال دون الانتهاء منه في وقت مبكِّر قبل هذا.
على أنَّ منهجيَّة هذا الكتاب قد أرادتْ له منذ البدء أن يختلفَ عن سابقه، وإن اتَّفقا في الموضوع الذي يدرسانِهِ. فقد كان الكتاب الأوَّل معنيّاً بالدِّراسة التَّعاقبيَّة لطرق استعمال البلاغة في النُّصوص الأدبيَّة والفلسفيَّة. ويعرف المختصُّون أنَّ علم اللُّغة يميِّز بين الدِّراسة التَّزامنيَّة، التي هي دراسة الظَّواهر بعد تثبيتِها في لحظة زمنيَّة مكثَّفة، وبين الدِّراسة التَّعاقبيَّة، التي تتابع الظَّواهر في تحوُّلاتها التاريخيَّة، وترصد أشكال التَّغيُّر على امتداد فترة زمنيَّة طويلة. وقد عُنِيَ كتاب “فاعليَّة الخيال الأدبيِّ” بمتابعة بلاغيَّة المعرفة تعاقبيّاً، أي بدراستها تاريخيّاً، بدءاً من أقدم استعمال معروف للبلاغة في ثقافة مبدأ الاسم في أطوارها الأولى، وكيف بلورت هذه الثَّقافة إنتاج الملحمة الأدبيَّة كوسيلةٍ لتمجيد البطل الأسطوريِّ، وكيف خلقت الأدوات المناسبة لوعيها وتدوينها. ثمَّ كيف ظهرت هذه البلاغة في إيونيا في سواحل تركيا الغربيَّة، وما الذي حصل بعد ذلك في الثَّقافة الإغريقيَّة، التي أحدثت النَّقلة الكبرى في الثَّقافة من مفهوم مبدأ الاسم إلى ثقافة الفهم العقليِّ والتَّحليل المنطقيِّ.
في هذا الكتاب أيضاً، سوف نتابع الموضوعة نفسها، أي سوف نحاول أن نفهم كيف تعامل الفكر الأسطوريُّ في ثقافة مبدأ الاسم، وكذلك الفكر الفلسفيُّ في ثقافة التَّحليل المنطقيِّ، مع الاستعارة. وهل هناك استعارات مشتركة بين الأدب والفلسفة؟ غير أنَّ الطَّريقة التي نبحث فيها هذه الموضوعات لا تقوم على المبدأ التاريخيِّ التَّعاقبيِّ، كما في الكتاب السابق، بل تقوم على المبدأ التَّزامنيِّ، أي أنَّنا سوف نثبِّت الظَّواهر في لحظة زمنيَّة، ثمَّ نحاول المقارنة بينها لمعرفة أوجه الشَّبه والاختلاف. على سبيل المثال، حين نبحث في استعارة “الأجنحة الطائرة”، فإنَّنا سنجمع بين الأجنحة الطائرة في “ملحمة جلجامش”، والأجنحة الطائرة في نصوص أفلاطون، وصولاً إلى أجنحة الرِّيش التي تتدثَّر بها النَّفس عند أفلوطين. وهكذا مع جميع الاستعارات الكبرى التي سوف نتناولها في هذا الكتاب.
ولعلَّ القارئ الذي اطَّلع على ذلك الكتاب السابق يتذكَّر أنَّ عنوانه الفرعيَّ كان “محاولة في بلاغيَّة المعرفة من الأسطورة حتّى العلم الوصفيِّ”. وهذا يعني أنَّه كان بحثاً في الأسس البلاغيَّة للمعرفة استناداً إلى نظريَّة “أطوار اللُّغة الثَّلاثة”. كتاب “مجمع اللُّقى البلاغيَّة” هذا مماثلٌ له تماماً، فهو أيضاً يبحث في الاستعارات التي يشترك بها كلٌّ من الأدب بمعناه الثَّقافيِّ العام، والفلسفة من حيث هي حقلٌ نظريٌّ متخصِّص. لكنَّه مع ذلك يختلف عنه اختلافاً واضحاً أيضاً. فإذ عُنيَ كتاب “فاعليَّة الخيال الأدبيِّ” بدراسة موضوعاته دراسة تعاقبيَّة، تابع فيها التَّسلسل الزَّمنيَّ لتطوُّر الأفكار، بدءاً من ثقافة مبدأ الاسم، وانتهاءً بالدِّراسات الوصفيَّة للعلم الحديث.
ونحن مدعوُّون إلى توضيح ما الذي نعنيه بالاستعارات الكبرى، ولا سيَّما وأنَّ بعضها يعود إلى أزمنة موغلة في القدم، لم تكن البشريَّة فيها على دراية بالتَّحليل البلاغيِّ أو بمفهوم الاستعارة. وفي الحقيقة، فالمقصود بالاستعارات الكبرى ذلك النَّوع من الاستعارة الذي ظهر في وقت مبكِّر من تاريخ البشريَّة، وبقيَ يُعادود الظُّهور بأشكالٍ أخرى، ربَّما تنطوي على تنوُّع واختلافٍ جزئيٍّ. وسوف نكرِّس الفصل الأوَّل من هذا الكتاب لبحث موضوعة الاستعارة، سواء أعندما كانت ظاهرةً يمارسُها الناس عفو الخاطر، أو بعد أن سلَّطَ أرسطو عليها الضَّوء وصارت جزءاً من التَّحليل البلاغيِّ. ولا يخفى أنَّ بحث أرسطو كان بحثاً متحاملاً على الاستعارة، وأراد حصر استعمالها في النُّصوص الشِّعريَّة والجدليَّة والخطابيَّة والسُّفسطائيَّة، ظنّاً منه أنَّ الفلسفة بمنجىً من الاستعارة، لأنَّها تنبع من القوانين الضَّروريَّة للعقل، التي يقرِّرُها المنطق. وبالطَّبع لن نتابع أرسطو في هذا الفهم. بل إنَّنا سنصنِّف الاستعارات تصنيفاً جديداً على أساس الحقل الدَّلاليِّ الشامل الذي تظهر فيه الاستعارة. ثمَّ نكرِّس فصلاً كاملاً لتحليل كلِّ استعارةٍ على انفراد، بدءاً بالاستعارات الزِّراعيَّة، والاستعارات الحيوانيَّة، والاستعارات السَّيّالة، واستعارات الأنوار، والاستعارات الملبسيَّة، والاستعارات المعماريَّة. ولسنا نزعم أنَّ هذا التَّصنيف تصنيفٌ حصريٌّ، بل هو تصنيفٌ للاستعارات الكبرى التي تظهر بتنوُّعات مختلفة في شتّى حقول الفكر.
وغنيٌّ عن البيان أنَّنا لم نجد في تصنيفنا هذا سابقةً نستطيع الاستفادة منها والاهتداء بها والاعتماد عليها. وهكذا كان هذا التَّصنيف اجتهاداً شخصيّاً يبدأ من أقدم الاستعارات الزِّراعيَّة، وينتهي بأكثرها تطوُّراً وتجدُّداً، وهي الاستعارة المعماريَّة. لكنَّ هناك استعاراتٍ جزئيَّة كثيرةً لم نشملها بالتَّحليل في هذا العمل، مثل استعارات الطَّيَران والتَّحليق التي شاعت مع شيوع الطائرات، والاستعارات العسكريَّة، التي تسود في فترات الحروب. فمثل هذه الاستعارات جزئيَّة تظهر وتختفي بين الحين والآخر دون أن تكون علامةً على حقبةٍ ثقافيَّة معيَّنة.
بالطَّبع لا بدَّ من التَّنويه هنا إلى أنَّ الاستعارة هي إبداعٌ لغويٌّ فريدٌ، يستطيع أن يجمع فكرتين في فكرةٍ واحدةٍ، ويؤاخيَ بين هويَّتين متباعدتين، فيؤلِّف بينهما في هويَّة واحدة. وهذا هو الفهم العامُّ الذي سيكون قانوناً عاماً للإلمام بالاستعارة. وسنرى في الفصل الأوَّل أنَّ هناك عدداً من الباحثين الذين قدَّموا دراساتٍ متنوِّعة لها، منهم من يحصرها بالمستوى الشِّعريِّ والخطابيِّ، ومنهم مَن يتناولها تناولاً لغويّاً خالصاً، وهناك في المقابل مَن يريد أن يُطلقها على فضاءٍ فكريٍّ مفتوحٍ، ويزعم أنَّها توجد في قلب الفكر الميتافيزيقيِّ قديماً وحديثاً. سوف نناقش كلَّ هذه الأفكار بالتَّفصيل. لكنَّنا نصرُّ على أنَّ الاستعارة تعني المطابقة بين هويَّتين مختلفتين، تريد أن تمرِّرَ علينا إحداهما تحت قناع الأخرى.
لقد كرَّرتُ الإشارة في متن الكتاب إلى أنَّ موضوعته هي التَّحليل البلاغيُّ للاستعارة. غير أنَّني أتابع الاستعارة في مواطنَ أخرى غير التي اعتادت البلاغة السابقة على متابعتها. لقد وصلتِ البلاغة التَّقليديَّة إلى مرحلةٍ صارت فيها تجترُّ نفسها. ومن هنا صار ينبغي تجديد دمائها، وبعث الحياة فيها بطريقةٍ يمكن أن تعيد لها أهمِّيَّتها القديمة. ولا يتحقَّق هذا الطُّموح إلّا بأن يُعاد النَّظر في الاستعارة، لا بوصفها طريقةً في بناء الألفاظ وحسب، بل بوصفها آليَّة فكريَّة من آليَّات بناء الأفكار في الدَّرجة الأساس. فالاستعارة لا توجد في النُّصوص الأدبيَّة، كما يزعم التَّفكير المنطقيُّ، وحسب، بل هي توجد في كلِّ تفكيرٍ مهما يكن نوعُهُ. توجد في النُّصوص الأدبيَّة بقدر ما توجد في النُّصوص الفلسفيَّة نفسها، بل توجد في صُلْب الميتافيزيقا، كما يقول هيدغر.
يُتابع الكتاب، إذاً، الطَّريقة التي تشتغل بها الاستعارة في النُّصوص الأدبيَّة منذ أقدم العصور، وصولاً إلى الموضوعات الفلسفيَّة على امتداد تاريخها منذ القدم حتّى العصر الحديث. وبسبب قِدَم الموضوعات التي يناقشها الكتاب فقد يذهب الظَّنُّ ببعض القرّاء إلى أنَّه معنيٌّ بالآثار، أو بالفلسفة. ولكن ينبغي للقارئ أن يضع نصب عينيه أنَّ موضوعة الكتاب ليست الآثار ولا الفلسفة، بل كيفيَّة عمل الاستعارة في نصوصٍ لم يسبقْ لها أن تعرَّضت للتَّحليل البلاغيِّ. يهتمُّ الكتاب بالاستعارات الكبرى التي ظلَّت تشتغل في النُّصوص الأدبيَّة والفلسفيَّة معاً من جميع العصور قديماً وحديثاً. وحين نقول الاستعارات الكبرى فهذا يعني الاستعارات التي تكرَّر ظهورُها في النُّصوص، وليست الاستعارات الصُّغرى التي تظهر وتختفي، بحيث لا تتحوَّل إلى نموذجٍ معرفيٍّ مولِّدٍ للثَّقافة.
شارك مع أصدقائك