علي عبدالأمير عجام
في يوم غريب حقاً، من أيام بغداد الغريبة بعد كارثة العام 1991، سهر في بيتي إثنان من مجانين الفن والحياة في بغدادنا العذبة والمعذبة في آن، ليأخذنا الحديث عن سهرة جمعتنا في فندق الشيراتون، عمادها مجموعة من الموسيقيين الشباب، بلغت من العذوبة مستوى لافتاً حين قاربت الألحان العراقية والعربية مع روح موسيقى الجاز. وكانت مفاجأة منهما حين قالا لي كيف لي ان أواصل الحديث عن الجاز، وانا أسكن على مبعدة عشرين مترا من مكان يشهد يومياً حفلاً حياً لأجمل من يعزف موسيقى الجاز على البيانو. استغربت تلك التفاصيل العجيبة، وسألت التشكيلي أديب مكي وشقيقه الموسيقي جمال، على الفور: أي مكان تقصدان، أهو في فندق “برج الحياة” الواقع أول شارعنا؟ فأجاباني بالنفي وليقولا بصوت واحد: لا انه “مطعم الغريب”، الغريب حقا ذلك إنني كنت أمرّ عليه يوميا ولمرتين على الأقل دون ان أعرفه.
ولكون الحديث كان متدفقاً في مفاجآته الواحدة تلو الأخرى، نقلنا نحن الثلاثة، سهرتنا إلى المكان العجيب، بل الغريب إسما على مسمى، وفيه تعرفت على عالم مبهر من الإثارة النغمية والرفعة الذوقية، ومن أبرز ملامحه: عازف البيانو الساحر في قدرته على ابتكار الأنغام، سمير بيتر.
العازف الذي اختار زاوية من المكان كي يطلق من خلالها أنغامه الفريدة لجهة صفائها ورنينها المتنقل من أقصى مشاعر القوة والعنفوان الى أقصى الخذلان الروحي الذي يعنيه القلب الكسير. وما بين انتقالات تلك المشاعر، كانت عيوني تنتقل بين جدران المكان التي زينتها لوحات لا تخفى أساليب رسمها على انها تعود لكبار تشكيليي العراق، ولأكتشف لاحقاً إنهم من أبرز رواده، فخطفت ملامح إسماعيل فتاح الترك أبصاري، بينما كانت أنغام البيانو تذهب الى مسار وجداني حميم، حين بدأ بيتر بعزف واحدة من كلاسيكيات فرانك سيناترا.
سألت أديب مكي عن هذا المكان المشع رسماً وموسيقى، فأخبرني بأنه يعود الى معمار وثيق الصلة بفناني العراق ومهندسيه المعماريين، وأخبرني بالإسم لكن دون ان أتوقف عنده، لا سيما أنني كنت مأخوذا بدفقات من الدهشة التي بالكاد نحيتها جانبا حين اتكأت على طرف البيانو ورحت أتحدث مع سمير بيتر عن المقطوعات التي عزفها والإسلوب القريب الى ذائقته، فصرخ مبتهجا حين أخبرته بأنني نشرت مقالة في بغداد عن موسيقى الجاز الأميركي مايلز ديفيز المتوفي حديثا (رحل في ايلول 1991)، وتحولات المغني والملحن البريطاني ستنغ من البوب الى الجاز وتعامله مع أسماء بارزة في هذا الفن الرفيع: هيربي هانكوك وعمر حكيم، وسلسلة مقالاتي عن زياد رحباني وتأسيسه شكلا موسيقيا بات ضمن عنوان “جاز شرقي”، وفيما إذا كان بيتر مع مزج الألحان الشرقية بالغربية وفق جوهر موسيقى الجاز القائم على حرية النغم وارتجالاته.
ما كان مدهشا في الرجل، انه حمل كأسه ليخلي البيانو إلى أنامل، جمال مكي، التي لم تكن قليلة الشأن في التأثير والحذاقة، وراح يتحدث معي بصراحة لا تخفي اعتداداً كبيراً بالنفس “ألم يقل عن ذاته لاحقا انه شوبان العراق”؟ فشعرت بأنني أحتاج دهراً كي أقترب من شحنة الإنفعالات الموّارة في الرجل وأنغامه.
لسوء الحظ، ان تلك الليلة العجيبة كانت تتزامن مع العد العكسي لقراري بترك البلاد، لذا لم أعد اليها، لكنني إستعدتها لاحقا ولمرتين، الأولى حين “تعثرت” باللطيف المعشر والحضور، أديب مكي، ذات سهرة في العاصمة الاميركية واشنطن، والثانية حين التقيت في دارة المحبة، مسكن الأنيس والصديق د علي شبو في عمّان، بالمعمار الكبير والمهندس والفنان معاذ الآلوسي ليعرفني إلى صديقه، المهندس فيصل الجبوري، الذي سأتبين لاحقاً إنه صاحب “مطعم الغريب”، هو إذن ذلك الذي كان يتنقل في تلك الليلة العجائبية، بين ندامى وأصدقاء وضيوف، على إيقاع اسمه قدرة بغداد على ان تبتكر للحياة أغنية نادرة. في اللقاء الغريب مع الجبوري، كانت البلاد قد قطعت الطريق أمام أغنيتها، وليصبح نغم سمير بيتر، أشبه بإنفعاله الصاخب في الفيلم الوثائقي الذي صوّر البلاد ما بعد العام 2003، من خلال هذا الرجل الموسيقى العجيب.
وفي صحيفة “الرأي” الأردنية، تترجم سارة القضاة، مقالة في صحيفة “التايمز” عن الفيلم الذي أخرجه ماك أليستر، وفيه ” تذوق عازف البيانو العراقي سمير بيتر طعم النجاح والغلو فيه، كما تذوق تماماً مرارة المآسي والحرمان”.
فقد التقى بيتر وماك أليستر للمرة الآولى، وكوّنا ثنائياً غير منسجم: الأنجليزي الأنيق، والعراقي الكئيب المظهر، ولكن علاقتهما سرعان ما عكست الثمانية أشهر التي امضياها مع بعضهما البعض، ينفقان من الجيب نفسه في بغداد، حيث كانت أصابع بيتر تداعب مفاتيح البيانو العاجية الموجود في بهو الفندق، هناك التقى بيتر و ماك أليستر ببعضهما حيث كان الأخير مبعوثا من قبل محطته في مهمة لثلاثة أسابيع للعمل على فيلم وثائقي بعد القبض على الرئيس العراقي السابق صدام حسين من قبل القوات الأميركية”.
وسمير بيتر، أبن العائلة موسورة الحال الذي درس البيانو في معهد بمدينة إنكونا بايطاليا لثلاث سنوات، قبل ان تنفذ أمواله، ودون أن ننسى ان الرجل ظل حريصا على القول انه ما يزال يبحث عن حب حقيقي في حياته، رغم اعترافه “لقد عرفت العديد من نساء ايطاليا” قبل ان يقرر العودة الى بلاده، حين كان صدام يستعد للإنقضاض على الحكم، واعلان الحرب على إيران لاحقاً.
في ليلة غريبة اثناء الحرب، يستعيدها بيتر، “لقد كنت في حفلة، وعدت منهكا، كانت في السادسة صباحا حين وقفت قوة حكومية على الباب تطلب مني مرافقتها إلى مركز القيادة، وهناك أجبروني على التطوع في الحرب”. وبعد إسبوعين كان عازف البيانو في معسكر تدريبي ومنه إلى جبهة القتال، وانتهى به الأمر إلى قتل جندي إيراني طعنا حتى الموت. عمل يصفه في الفيلم بتفاصيله المقشعرة للبدن.
وبعد أن عاد بيتر لحياته المدنية، بدأ بالعزف مرة أخرى في محاول لبناء اسم له كعازف بيانو في الحفلات الموسيقية، وتزوج من طبيبة نسائية، قامت بتوليد إحدى بنات صدام حسين، وانجبت له أربعة أولاد دون أن توفر له السعادة الزوجية.
يبدأ المخرج ماك أليستر قصته في الفيلم المنتج العام 2004 بجملة تختصر حكاية بيتر “لقد تم تحرير وطنه، والآن ها هو راحل عنه”، فيما أبنته سحر، وكغيرها من العراقيين، رحبت في البداية بالأميركيين، ولكن بعد أشهر، إنقلبت ضد هذا التحرير، وحين سأل الأب لماذا تحب أبنته صدام أجاب “انها لا تحب صدام، ولكنها تحب وطنها، من الصعب على أشخاص من خارج العراق أن يفهموا ماذا يعني وجود أميركيين على أرض عراقية، وهو شيء لا أحبه أنا ايضاً”.
غادر بيتر البلاد، لشهر واحد، حيث حصل على تأشيرة دخول للولايات المتحدة لحضور مهرجان “صن دانس”، حين عرض فيلم ماك أليستر عنه، وخطط لملاقاة زوجته السابقة وإبنيه سحر وفادي في الأردن، أما بيته في بغداد، فقد أقفلت أبوابه، مثلما أغلق أنغامه في صندوق البيانو المعتم.
وعن تأثير سيرة العازف المدهش نغما وحياة، كتب الباحث والناقد العراقي علي الشوك، جزءا ضمن مقالة بعنوان “الكآبة العراقية” ونشرها في صحيفة “الحياة” وفيه: “أحب الحياة، وأريد أن أشرب من كأسها حتى الثمالة. وككاتب، أحب أن أكتب عن الزهور وتاريخ ظهورها على كوكبنا… وعن سيدة مغرمة بأوبرات بوتشيني… وعن عازف البيانو، العراقي، سمير بيتر، الذي أمضى معه المخرج البريطاني شين ماك ألستر تسعة أشهر لينتج فيلماً مذهلاً عن محنته، ومحنة العراقيين كلهم بعد الغزو الأميركي للعراق “.
*من كتابي الصادر حديثاُ عن “دار الرافدين” Dar Alrafidain.