عالم المرأة الإيرانية المتواري خلف “الشادور”

شارك مع أصدقائك

Loading

فاطمة المحسن

“الرحلة الإيرانية” فيلم وثائقي أخرجته العراقية ميسون الباجة جي، ويدور حول قصة سائقة حافلة تقطع إيران في رحلة تستغرق 1300كم وعلى مدى 22 ساعة من طهران حتى بندر عباس في أقصى الجنوب حاملة ركابها من مختلف الأجناس والطوائف.

ما المثير في الأمر؟ تقول المخرجة في بداية الفيلم: “ربما تكون هذه السائقة أول امرأة تقوم بمهنة صعبة وملتبسة في بلد مثل إيران”.
إنه فيلم يحمل ممكنات الإثارة، فهو يشكّل محاولة للاقتراب من اللغز الإيراني، هذا الذي غيّب تاريخًاً للمرأة بدأت فيه عهد التحضر مطلع القرن العشرين أو قبله. إيران الشادور والبنادق التي تخترق تلك الكتل الصماء مشرّعة نحو عالم العنف، أقبح دور يمكن أن تتلبسه امرأة، أن تحمل السلاح الموجه إلى رقبتها وإلى روحها وهي تضمر سر الحياة وتحميه. إيران البروبوغاندا والجماهير التي تتعلم عشق الموت لا الحياة.
ما الذي أرادت ميسون الباجه جي من هذا الفيلم؟
تقول المخرجة: لم أجد امرأة أقوى وأقدر من المرأة الإيرانية على الالتفاف والتحايل على تلك الحجب التي غيبتها. لعله تاريخ إيران وماضيها العريق، لعله رد الفعل الذي يناسب قوة الفعل نفسه. تسافر ميسون في رحلة البحث عن المخفي في بلد الجمال والشعر والعشق والنساء الأكثر توقًا إلى الحرية.
كانت الكاميرا خائفة تريد إعلان حيادها، رغم أن طبيعة السلطة في إيران تختلف عن طبيعة الكثير من السلطات العربية، فإيران ساحة معركة مستمرة، أكثر ما يخيف فيها جماهيرها الريفية تلك التي عانت الكثير من المظالم وملكت الشارع بعد الثورة، تقاليد هذه الجماهير تشكل منطق القوى المتخلّفة داخل السلطة ومرتكز محاجتها. بطلة الفيلم معصومة، سيدة تجاوزت الخمسين تدير عائلة من زوج وفتاتين وفتى، كان زوجها يقوم بمهمتها ثم أعطبه المرض فتولت هي مواصلة مهنته، هي لا تقوم بفعل بطولة أو اختراق أو مهمة دعائية رسمية، مع أن تصميمها الفطري يبدو على تناسب مع قوة خفية تملكها.
تقول معصومة: “في إناء الليل وعندما تخترق الحافلة الوهاد الموحشة وينام الركاب أشعر أنني قريبة من الله، وهو الذي يحميني ويوجه خطاي، وأن دعواتي في تلك الساعة تقربني منه”.
رحلة طاقم الفيلم الذي يرافق معصومة عبر خطوط الجغرافيا المترامية، تفضي إلى مواضيع ومشاهد متبدلة عن أحوال الناس ومهنهم، وعن المرأة وقضيتها التي تصبح محور الفيلم الأساس.
ولكن إيران تلك القارة التي تجمع قوميات وطوائف منوعة تصبح موضع فضول يبدأ من الأشكال والملابس المختلفة لركاب الحافلة إلى مشاهد المدن التي لا تتشابه من حيث الجغرافيا والمناخ: قم المركز الشيعي الذي يصله فريق الفيلم خلال موسم محرم وطقس تأبين الحسين، ثم يزور المدينة التي تحوي معابد الأديان التي سبقت الإسلام: المانوية والزرادشتية، وتبدو حضارتها الطينية كمن تشكو إهمالًا، تلك الزاوية المحجوبة في تاريخ الفرس الزاهر.
الجنوب حيث السباخ والبحر والمراكب والصحراء والقرى التي لا تصلها الخدمات. الأبنية الشاعرية داخل المدن المهمة التي ميزت طرز حياة الإيرانيين، لمساتهم الفنية في العمارة وعشقهم الشاعري للمياه والنافورات والمنحنيات والوردود.
أكراد وأفغان، متحضرون ورعاة في أقاصي الصحاري، يصعدون تلك الحافلة ليمثلوا هذا الكون المترامي، وبينهم المرأة التي تخفي حتى اليد والوجه هربًا من الكاميرا أو من قوة تطاردها من دون رحمة. يتحرك الفيلم على كل هذا المشهد المبعثر ويحاول أن يجد له منطقًا يوحده.
تقول الفتيات من الجيل الجديد أنهن تعلمن من الأمهات اللواتي عشن سنوات الثورة الأكثر مشقة للمرأة، أن لا حقوق تنتزع إلا بالجهاد المثابر. الاتجاهات النسائية من مختلف الأصناف تجتاز الآن في إيران مخاضًا عجيبًا. عبر مجلات وصحف المرأة المنوعة يرتفع صوت اللواتي يطالبن باستقلال الحركات النسائية عن منظمات الرجال وعدم ربطها بمطاليب اجتماعية تعجيزية، إنهن معنيات قبل كل شيء بقوانين جديدة لصالح المرأة، حتى الصحف التي تديرها الحركات النسائية الإسلامية تشبه مطالبها تلك التي تختلف عنها في التوجه الفكري.
المنطق يدفعنا نحو سؤال محرق: أي موقف يمكن أن يتجاوز خط الشادور الإيراني ذلك الغياب الذي يلف وجود المرأة؟ سيكون حلمها المستحيل أقرب إلى المعجزة منه إلى الواقع.
استطاع الفيلم أن يلامس في بعض المواقع تلك المعادلة الغريبة، فهناك المحامية الشجاعة مهرنكيز كار التي قالت أن قوانين إيران بخصوص المرأة ومعظم القضايا أقل من مستوى التطورات الاجتماعية والسياسية المتسارعة، وأن حالة الرفض لها توحد الكثير من الإيرانيين ولن تستطيع كل الإجراءات القمعية أن تنهي قناعة التخلي عنها نحو قوانين تناسب المراحل القادمة. تعلن فائزة رفسنجاني في مجلتها مواقف رادكالية لا تقبلها السلطة ولكن الإطار العام يبقى محكومًا بحركة محدودة للمرأة يظهرها هذا الفيلم أو يتحرك بين ثناياها. هناك لقاءات مع مغنية وعازفة آلة السيتار وهي آلة تشابه العود، وكأنها تبزغ من ليال الشرق القديمة، تقول أنها أقامت كونشرتا عزفت فيه على آلتها وعلى القانون. ثم الرسامة التي ظلت بعد الثورة عشر سنوات تخفي أعمالها، وهي ترسم فضاءات مفتوحة لكي تهرب من العوق الذي استشعرته كإنسانة، وتلك المرأة التي ترأس كلية الطب للبنات في قم وتمثل الخط النسوي الإسلامي تقول: أن المجتمع الإيراني بعد الثورة تسيس بأكمله وأن المكاسب التيتحصل عليها المرأة لا تأتي بجهد حكومي بل هي تنتزع بمثابرتها وبتقدم وعيها. النساء في إيران موضوع تمثله معصومة، السيدة التي تقود حافلة تعبر إيران من وسطها حتى الجنوب من دون أن تثير استغرابًا أو شعورًا بافتقاد الأمان عند ركاب تلك الحافلة حتى عند الرعاة والفلاحين. إذن ذلك هو المفصل المهم، الأمل الذي يطل من نافذة مضيئة، فلا حجاب ولا اعتبارات أخرى بمستطاعها محو تاريخ تجذر في ذاكرة الإيرانيين عن المرأة وقدرتها كشريك يوثق به ويحظى بالاحترام والحق في ممارسة كل الأعمال.
شارك في إنتاج الفيلم المنتجة السعودية ـــــــ اللبنانية نورًا السقاف والفنان الإيراني إيراج أمامي، وأدار كاميرا الفيلم همفري ترفلاين الذي قدم مشاهد ناصعة وجميلة عن بلد غني وسخي في تنوعه، ولكن إغراء المشهد السياحي يشكل أحد المزالق التي كان بمقدور المخرجة تجاوزها لكي تحصر الموضوع في مرتكز أكثر إحكامًا، غير أنه يبقى يثير الفضول ويطل على عالم مثير في تنوعه وفي تضارب حالاته.
٢٠٠٦
شارك مع أصدقائك

2 thoughts on “عالم المرأة الإيرانية المتواري خلف “الشادور”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *