العيون أيضاً
يعبرون، أفراداً وجموعاً، ولا أحد ينظر إليه.
إلى أين تذهب نظراتهم، لا يعرف. أين تحطُّ النظرة إنْ لم تحطَّ على ناس؟!
يسمع أنيناً تحت الأقدام. ويعتقد أنَّ من يئنُّ هناك هي العيون.
انتشلِ العيونَ من التراب وضعْها على الغصون، فالأشجار تريد أيضاً أن تنظر.
انتشلْها وضعْها على الحجارة، فربما الحجارة تريد أن تمشي وينقصها النظر، أو على الأقلّ تريد أن ترى من يقعد عليها.
ليس عدلاً أن لا يكون للنظرات مكان.
ليس عدلاً أن لا تعرف العيون إلى أين تذهب نظراتها.
وإن احترتَ إلى أين ترسل نظرة فضعْها على الطريق. قد يمرُّ أعمى ويكون في حاجة إليها.
قال هذا والجموع تعبر ولا أحد يلتفت إليه.
نظرات، يتيمة، في فضاء فارغ.
تمنَّى لو يخلق لها أباً، أمّاً، أخاً، رفيقاً…
نظرَ، ولم يرَ رحْماً.
نظرَ، ولم يرَ.
كأنه كان هو العابرين.
ومثلهم لم يعرف إلى أين تذهب نظرته.
الظِلّ
اخرجْ وقُلْ للعابر أن يعود. تَرَكَ ظِلاًّ هنا فيه لهاثه.
ظلٌّ فيه شوارع. فيه مسافات. فيه جبال ووديان وذكريات
وفيه ناسٌ علقوا به وهو يعبر في محاذاتهم.
مَرَّ على الحدائق، وصار فيه زهور. مَرَّ في الشوارع، وصار فيه ناس. مَرَّ في الليالي، وصار فيه قمر. مَرَّ في النهارات، وصار فيه شمس. مَرَّ على المقابر، وصار فيه موتى.
قلْ للعابر أن يعود ويجمع زهور ظلّه، وناسَ ظلّه، وقمر ظلّه، وشمس ظلّه، وموتى ظلّه…
قلْ له إنَّ الحدائق
والقمر
والشمس
والأحياء والموتى
في ظلّه.
لهاث العابر
ترك العابر بعض لهاثه ممدَّداً على الدروب، وبعضَه شارداً في الفضاء.
لهاثٌ يطأ عليه المارَّة
ولهاثٌ يجهد كي يصير غيمة.
ترك العابر لهاثاً يمشي في الشوارع مع الأقدام، أو يصير تحتها تراباً
ولهاثاً يمشي مع الهواء، يرتطم بأشجار وبنايات، بقطارات وسفن، يعلو ويهبط، يهبط ويعلو، ولا يصير غيمة.
انحرفْ عن الطريق. لهاثك فيه ناسٌ فلا تدعْ أقداماً تطأ عليهم
وانحرفْ عن الفضاء. للفضاء رئة شاردة لا تتركْ لهاثك فيها فيشرد.
امشِ كأنْ لا لهاث لك. امشِ كأنك ميْت
فلا يشرّد الفضاءُ لهاثك
ولا أحد يطأ عليه.
الذي غرق
الذي غرق في الماء صار سحابة
ثم نزل قطرةً قطرة
والسابحون في البحر يسبحون فيه.
النائمون على الحافَّة
النائمون على الحافَّة جميلون
لا النهار لهم ولا الطريق
ليس عليهم أن يروا ولا أن يمشوا
النائمون على الحافَّة
وصلوا.
كانت على الطرقات شاحنات تصمُّ الآذان
وشوارع ومفارق يدورون فيها عمياناً
كانوا يبحثون عن مكان، لا إشارة له
يبحثون عن طريق، لا مفرق لها ولا علامة
فناموا على الحافَّة
ووصلوا
في نومهم.
دقُّوا على بابه وقالوا
دقُّوا على بابه وقالوا: نحمل لك شفاء مدى الحياة، وأبديةً أيضاً، لا تغلق الباب، دعنا ندخل ونعطِك الدواء.
ما كان يعرف أنَّ شفاءه وخلوده موصولين بغرباء مارّين في هذا الشارع.
ما كان يعرف أنَّ شفاءه وخلوده رهْن طرقةٍ على الباب.
في بيتي موتى كثيرون، قال، ومرضى كثيرون. هل يكفي دواؤكم كلَّ هؤلاء؟
لم يغلق الباب. كانت في الحوض زهرة فنظر إليها، وإلى ورقة يابسة.
ينظرون إليه، وينظر إلى الورقة والزهرة.
يتكلمون، والزهرة والورقة صامتتان.
ولم يكن يسمع كلاماً بل صمتاً.
ثم أقفل الباب
وعاد إلى مرضه
وموته.
انظرْ إلى الجبل
انظرْ إلى الجبل، حيث يستلقي خروف خرج اليوم من عينك ونام هناك
خروف وُلد تحت جفنيك، من لقاح أضواء غريبة
وأكل عشباً كثيراً كان يطلع من قلبك.
انظرْ إلى الجبل وناجِ الخروف
ومسّدْ صوفه بنظراتك
وإنْ يبس العشب هناك أوصلْ شرايينك بتراب الجبل، واطعمْه عشباً من قلبك.
انظرْ إلى الجبل. ودُلَّ الذئاب إلى طريق أخرى لا تمرُّ أمام خروفك
نائمٌ وصغير
فدعْه ينم.
انظرْ إلى الجبل
ولا تدعْ نظرتك تذهب إلى هناك من دون أن تحمّلها طعاماً
إلى العصفور الذي كان في صدرك
ارسلْ له قمحاً، من دموع تجفَّفت وصارت حبوباً للعصافير
وارسلْ للنحل زهوراً، كانت حدقات
وللشجر جذوراً، كانت شرايين.
انظرْ
إلى الجبل.
النسائم التي مرَّتْ
النسائم التي مرَّتْ في رئتيه كانت لها أسماء
أسماءُ مدنٍ وقرى وشوارع وصحارى وغابات
وأسماءُ ناس
يتنفَّسون بقربه.
أمكنة كثيرة في رئتيه
وناسٌ كثيرون
دخلوا مع الهواء ثم غابوا
وما تنفًّسه
كان غيابهم.
ما في صدره كان رئات العابرين
ولم يكن يتنفَّس الهواء
بل العبور.
الذي مات ولم يرَ الغزالة
الغزالة ستأتي إلى النبع، قال مراراً
الغزالة ستخرج من رأسي وتشرب
لم يعد في رأسي ماء
فاخرجي يا غزالة.