حاوره
الروائي والصّحفي أحمد طايل
مصر
مهاد
منذ عهود بعيدة وانا مولع بكل معاني الولع بالإبداعات التي تصدر عن كتّاب وكاتبات المغرب العربي، لاحتكاكهم المباشر بالثقافة الغربيّة، وتحديدا الثقافة الفرنسيّة والثقافة الإيطاليّة، إلى حدّ ما. قرات الكثير للعديد من مبدعي الشمال الإفريقيّ ووجدت بكتاباتهم التعبير الصّادق عن واقع مجتمعاتهم، دون اللجوء إلى التجمّل أو محاولة إخفاء الحقائق. وعندما تكون الكتابة صادقة ومنطقيّة فإنّها تصل على العقول دون حواجز. وفي هذا السياق أجري هذا الحوار مع الصّديق الكاتب المنذر المرزوقي من تونس الشقيقة.
إذا أردنا أن نقلّب بأوراقك الحياتيّة والفكريّة، بماذا يمكن أن تخبرنا؟
المنذر المرزوقي كاتب وأستاذ جامعي في اختصاص علوم التربية وتعلميّة العربية من جمهوريّة تونس الخضراء. نشأت في حي الكرم الغربيّ وهو أحد الأحياء الفقيرة في محيط العاصمة تونس. كتبت الشعر وفي التاريخ المحلّي والدّراسة الأدبيّة والقصّة القصيرة. وأنا بصدد التوجّه نحو الاشتغال أكثر على القصّة والرواية. أجمع في الكتابة بين التوجّهات الرمزيّة والواقعيّة والتاريخيّة وأطمح أن تكون كتاباتي معبّرة عن عمق الصراع الإنساني من أجل حياة حرّة كريمة عادلة.
من المؤكّد إن للطفولة وحكايات الجدّات والأهل تأثيرا كبيرا في تشكيل وعي الإنسان. ما تأثيرات المناخ الأسريّ والبيئة المجتمعيّة عليك من زوايا مختلفة؟
أثبت علماء النفس والاجتماع أنّ الطّفولة مرحلة تأسيسيّة للوعي والإدراك ولشخصيّة الإنسان. وعبّروا عن ذلك بأن الطفل أب الرّجل. وقد اكتسبت من طفولتي أشياء كثيرة جدا، من ضمنها إدمان اللعب في الحيّ مع الأتراب وممارسة الصيد والرياضة والمغامرات الطفوليّة. وقد أكرمني الله بوالدة حكّاءة تتقن فنون السرد الشفوي. فتذوقت منها حلاوة الحكايات الشعبيّة والتراث الشفوي الذي يتضمّن العجيب والغريب ويثير الخيال بشخصياته الواقعيّة والخرافيّة. لقد أثّر فيّ المناخ الأسريّ أيّما تأثير. فقد عشت في عائلة وافرة العدد متلاحمة ومتحابّة، رغم بعض العسر المادّي في المحيط الاجتماعي، والذي اطلعت من خلاله على قسوة الفقر وما يصحبه من جهل وأمراض تصيب الأجساد والعقول.
لكلّ مرحلة تعليميّة تأثيراتها الإيجابية والسلبيّة، وهي بالتالي ذات دور في توجّهاتك العلميّة والعملية والفكريّة الإبداعيّة. احك لنا عن هذه العتبات التعليميّة.
بدأت تجربتي في المرحلة الابتدائية، دون المرور بتجربة الكتاتيب. وأنهيتها بصعوبة نظرا لانشغالي باللعب والصيد والمغامرات. ثمّ توجّهت نحو التعليم التقتني شعبة كهرباء. ثمّ درست في معهد خاص حتى تحصلت على شهادة الباكالوريا. وفي الجامعة تحصلت على شهادات جامعية في اختصاصات متعدّدة، مثل اللغة والآداب والحضارة العربية والتاريخ والجغرافيا والفلسفة السياسيّة. ثمّ تخصصت في علوم التربية والتعلّمية حيث تحصلت على الماجستير والدكتورا. وفي كلّ مرحلة من هذه المراحل المختلفة تلقيت معارف وعلوما وتعرفّت على شخصيات ساهمت في تكويني الثقافي المتنوع ورؤيتي التحليليّة الهيكلية متعددة الاختصاصات. وهذه التجربة التعليميّة أثّرت بشكل واضح في مجموعتي القصصيّة شجرة الأحلام العالية.
متى بدأت أولى خربشاتك الكتابيّة؟ وهل سارعت بعرضها على أحد؟ وماذا عن ردّة الفعل عليك وعلى الأسرة؟
بدأت أولى تجاربي في الكتابة الشعريّة، بشكل انفعاليّ عفويّ تأثّرا بغزو بيروت، وإثر مجزرة صبرا وشاتيلا الإجراميّة الصهيونيّة. ثمّ تواصلت في فترة المراهقة لأطرق باب الكتابة الصّحفيّة، فتحصلت على جائزتين في المقال السياسي. وخضت تجربة الكتابة الشعريّة في الفصيح والعاميّ. ثمّ انقطعت عن الكتابة سنوات كثيرة، لأعود للتأليف والنشر منذ سنة 2004. طبعا عرضت محاولاتي على الأصدقاء وبعض العارفين وتلقيت بعض التشجيع منهم. لكن التحفيز الأكبر كان من والدتي رحمها الله.
من المؤكّد وجود كتاب أو كتب هي التي كانت أساس انجذابك إلى عالم القراءة والثقافة. حدثنا عن هذه الكتب. وكيف حرّكت دواخلك الإنسانيّة والفكريّة؟
بدأت قراءاتي الأولى في الوسط المدرسيّ، حين تأثرنا بكتابات طه حسين وجبران ونعيمة والشابيّ. وأمّا في فترة الشباب فقد جذبتني الكتابات السياسيّة والايديولوجيّة من مشارب يساريّة وقوميّة وإسلاميّة. تأثرت بكتابات عباس محمود العقاد وبالأدب الرّوسي، وخاصّة كتابات نيكولاي قوقول وليون تولستوي وانطوان تشيخوف. لقد مكنتني هذه القراءات من بناء ثقافة متينة وطوّرت حساسيّتي الفنيّة تجاه القضايا الإنسانيّة والمعاني الكونيّة الخالدة مثل الحق والحريّة والجمال والعدالة. مثلما نبّهتني لهشاشة الوضع الإنساني في مجتمعات الاستهلاك الموسّع وثقافة السّوق والاغتراب والتفاوت الاجتماعي والاستبداد السياسي.
هل ارتدتَ في بداياتك ملتقيات وفاعليات ثقافيّة ووجدت نفسك مدمنا عليها؟ وهل كانت، بالتالي، حافزا لانخراطك في عالم الثقافة؟
كان ذلك في مناسبات قليلة جدا. إذ قلّما ارتدت في بداياتي الملتقيات الثقافية ولم أرغب في زيارة الفاعليات. كنت شابا خجولا ومعتدّا بنفسي ويحرجني جدا الانفتاح على الإعلام والفضاء العام. والحقيقة أيضا، أنّني كنت أحمل صورة سيئة الملتقيات، لأن أغلبها كان تحت إشراف السلطة والحزب الحاكم. كنت في المقابل أرتاد معارض الكتاب والمكتبات ودور الثقافة ومعارض الفن التشكيلي، وأدمن قراءة الكتب السياسية والفن الملتزم، مثل أغاني الشيخ إمام ومارسيل خليفة والبحث الموسيقي وأشعار أحمد فؤاد نجم.
ما هو إصدارك الأوّل؟ وكيف قوبل من الصفحات الأدبيّة والنقّاد؟ وهل كان ردّ الفعل إيجابيّا زاد من طموحك الإبداعي؟
أصدرت سنة 2004 كتابي الأوّل وعنوانه: العامل المنجميّ وإسهاماته النضاليّة. وقد تعرّضت فيه للتاريخ النقابي والاجتماعي والسياسي لفئة من عمّال المناجم في الجنوب التونسيّ وللإسهامات التي قدّموها في خدمة وطنهم ومجتمعهم. وقد حضي الكتاب بإعجاب من اطلع عليه، لأنّه أماط اللثام عن بعض الصفحات المغيّبة والمغمورة من تاريخ تلك المنطقة. وقد شجّعني ذلك التفاعل الايجابيّ على نشر كتب أخرى حول المسكوت عنه من تاريخ تونس النقابي والسياسي. فحققت كتاب رجال الدّاموس وكتبت بالاشتراك كتاب من ضحايا الاستثمار الاستعماري بتونس وأنجزت كتابا حول مسيرة الزعيم الشهيد حسن السعداوي ومصيره.
حال تناولك القلم لتخطّ عملا، ما هي الأهداف أو الرؤى التي تكون ماثلة امام ناظريك حينها؟
يكون المنطلق غالبا هو الفكرة أو الموضوع الذي أريد تناوله. وترد هذه الأفكار في شكل لمع أو خواطر، غالبا، او نتيجة التأمّل والتفكّر أثناء المطالعة أو الحوار. ثمّ أفكّر في الجنس الأدبي والقالب اللغوي الذي أريد أن أعبر من خلاله عن تلك الأفكار. ثمّ أفكر في الأسلوب الفنّي والأدوات الفنيّة التي تمكّنني من التعبير عن تلك الأفكار. فالأدب لا يكون عظيما، حسب رأيي، إلاّ إذا عبّر عن رؤية عميقة في تناول الموضوع، بأسلوب أدبيّ بديع وحلّة فنيّة ماتعة.
للكتابة لدى أيّ مبدع أو مفكّر طقوس خاصّة، قد تكون طقوسا معتادة لدى الكثيرين، وقد تكون غير مألوفة. ما طقوسك الكتابيّة؟
ليس لي طقوس خاصّة أو غريبة. أكتب في المقاهي المكتظة والأماكن المفتوحة وأمام البحر، وفي كل الأوقات إلاّ ليلا. أحاول أن أقصر عملي الإبداعيّ على الصباحات، كي أتفرّغ بعد ذلك لبقية النشاطات العمليّة والخاصّة.
حينما تكتب، لمن تكتب؟ لك أم عن الآخر؟ أم للآخر؟
يصعب التمييز، في لحظة مّا، بين كلّ هذه المستويات. فالآخر هو أنا أو وجه من وجوهه، أو هو بعض منّي انفصل ليكون موضوعا. المرسل في الأدب يصبح متلقيّا في لحظة أخرى، وقد يشعر بالاغتراب عن أدبه أو التماهي مع شخصيّة سرديّة صنعها بخياله. إنّنا حين نستبطن الآخر قد نتماهى، فنكون الآخر الذي هو النحن. إن الكاتب الحقيقيّ، وهو يعبّر عن ذاته إنّما يعبّر عن الآخر فيه، وعن العميق المشترك بين الذوات المتصادية في جوهرها الإنسانيّ.
كيف ترى المشهد الثقافيّ إقليميّا وعربيّا وعالميّا؟ وكيف نسدّ الفجوات الكبيرة بيننا وبين الغرب؟
تختلف مستويات التقييم ومعاييره، لأن الأوضاع الاقتصاديّة والمادية والاجتماعيّة، التي تنطلق منها الثقافة وتعبّر عنها مختلفة جدّا. وهذا التفاوت في البيئات الماديّة ينتج اختلافا في المشهد الثقافيّ، كيفًا وكمًّا ووظيفةً ودورًا. من هنا ضرورة الابتعاد عن المقارنات بين وضع الثقافة في دولة عربية لها دخل فردي مرتفع جدّا وبين أخرى من أفقر الدول في العالم. لكن مع ذلك يمكننا أن نقول الثقافة أخذت تفقد مع الوقت وظيفتها الرياديّة والتنويريّة والتحريريّة، في الوطن العربيّ، لفائدة تجارب ثقافيّة مغرقة في الفردانيّة وذات وظائف ترفيهيّة تجميليّة يحكمها منطق السّوق والاستهلاك. لذلك لا يجب أن ندخل الثقافة في السبّاق الاستهلاكيّ، بل أن نستعيد الوظائف التنويريّة للثقافة التحريريّة للفنّ. لأن مجتمعاتنا لم تستكمل بعد عمليّة تحرّرها من الظلم الاجتماعي (استغلال اقتصادي واستبداد سياسي) والاستعمار الخارجي (فلسطين، سوريا، العراق، اليمن..) والتدخل الامبريالي (في كلّ مكان من وطننا العربي).
بماذا تفسّر إصرار غالبيّة الكتّاب العرب على ارتداء عباءات السرد الغربي؟
للمسألة وجهان: وجه إيجابيّ يتمثّل في ضرورة الاطلاع على التجارب السرديّة الرائدة، ووجه سلبيّ حين يقتصر الاطلاع على التجارب الغربيّة ويتحوّل إلى هوس وتبعيّة. ثمّ إنّ التجارب الرائدة ليست بالضرورة غربية. علينا أن نقتحم فضاءات ثقافيّة أخرى لها تجارب سرديّة مهمّة، في أمريكا اللاتينيّة وإفريقيا وآسيا، مثلما علينا أن نتمعّن في التجارب السرديّة العربيّة القديمة، من باب التأصيل والتجريب والتجديد.
النقد بوقتنا الحالي هل مازال على أداء رسالته الهادفة لتقويم الإبداع؟ أم ترى أن هناك تراجعا برسالته وما هي الأسباب؟
تراجع النقد كثيرا، لأن الناقد فقد دوره الريّاديّ ووظيفته التوجيهيّة. لقد استولى على دوره، في مجتمع الاستهلاك السريع والمكثّف، المستشهر والمتكسّب عند بعض المبدعين المدعومين من جهات ولوبيات ومؤسسات. لقد تراجع دوره الفنّي، بسبب سيطرة الإشهار وعدم التمييز بين النقد الأدبي والتعليق الصّحفي والدراسات الأكاديمية للأدب. إنّ فقدان الساحة الأدبية للناقد الحقّ جعل الأدب مستباحا وحديقة بلا سياج ومجالا منتهكا لكلّ مدّع.
هل توافقني الرأي أن هناك استهدافا كبيرا وممنهجا للقضاء على الهويّة الثقافيّة والتاريخيّة العربيّة والإسلاميّة؟ وكيف من وجهة نظرك يمكن أن نعيد لها ريادتها وقوّتها وقيادتها للعالم مثلما كانت سابقا؟
الصراعات الهوويّة حقيقة لا يمكن إنكارها. لكن أظنّ ان الانقسامات الحقيقيّة ذات طبيعة جيو-سياسيّة واقتصاديّة تحرّكها دوافع الهيمنة الاقتصاديّة والسياسات التوسعيّة، في أبعادها المختلفة. وأنا أرى أن هناك استهدافا للهويّة الجامعة في بعدها العربي. إذ تتكفّل منظمات وجمعيات وراءها دول، للطعن في المشتركات الحضاريّة واللغويّة والدينيّة، من خلال محاولة بعث الرّوح في الهوّيات الأحفوريّة، والثقافات المحليّة العتيقة، عبر نزعة شوفينيّة وعنصريّة تتستّر بحقوق الإنسان والأقليات، ولا تخفي نزعاتها الانفصاليّة، من أجل تفتيت الدولة القطريّة، خدمة لسياسات الهيمنة الاستعماريّة والصهيونيّة. يحدث هذا في دول المغرب والمشرق العربيين. وتهدف تلك الهجمات “الهوويّة” إلى تحشيد طوائف ومذاهب وأقليّات عرقيّة وتاريخيّة، للتقاتل والانفصال عن حضنها الحضاريّ العربيّ، لجعلها قواعد استهداف لكل محاولات الوحدة والتحرّر والتقدّم.
على أن الرأي عندي انّه لا يمكن استهداف الهويّة العربيّة الإسلاميّة، بالمعنى الوجودي. لأنّها هويّة ثريّة راسخة وذات امتدادات عميقة في التاريخ واسعة في الجغرافيا. وهي تدافع عن ذاتها بمقوّماتها ومضاداتها الحيويّة ورؤيتها للكون. والعجيب أنّ اللغة العربيّة، يتوسّع استعمالها كلّ يوم في مناطق كثيرة من العالم. وهي لا تحتاج حكومات فاشلة كي تحميها، لأنها هي التي تحمي المنتمين إليها. وأمّا كيف نعيد للهويّة ريادتها، فإنّ ذلك لا يكون إلاّ بثقافة العمل والاجتهاد والإبداع والبحث العلميّ في فضاء الحريّة والعدالة وحقوق الإنسان.
إلى أي أيديولوجيا أو سيكولوجيا كتابيّة انتماؤك؟ وأسباب أو مبررات هذا الانتماء؟
مسألة الانتماءات الفكريّة والايديولوجيّة والسياسيّة مسالة بديهيّة لكل كاتب ومثقف خاض تجربة التفكير والتعبير. فالأفكار هي قاعدة الاشتباك مع الواقع من أجل التنوير والتحرير والتعبير والتغيير. لا يمكن للمثقف أن يكون كائنا هلاميّا محايدا بلا موقف أو رؤية للكون. لكن لا يجد أن تتحوّل بعض افكارنا إلى مواقف لا تاريخيّة تمنعنا من التفكير خارج السياج وزعزعة الثقافة الراكدة. أمّا عن منطلقاتي الايديولوجيّة فهي وطنيّة وحدويّة اشتراكيّة ذات أفق إنساني.
ما هي وجهة نظرك في تقسيم الكتابة إلى كتابة ذكوريّة وكتابة نسائيّة؟
للمسالة النسويّة وجوه فلسفيّة وحقوقيّة واجتماعيّة. وهي لا تخلو من وجاهة في مواجهة التصوّرات الذكوريّة والإقصائيّة المرذّلة للمرأة ذاتا وحقوقا. وهنا تساهم بعض الجمعيات والسياسات في ردم الهوّة بين الجنسين في الثروة والسلطة والحقوق. لكنّي لا أوافق على هذا التقسيم في المجال الأدبي والفنّي. فالمسالة، هنا، لا تتصل بالعدالة الرمزيّة أو التمييز الإيجابي. إنّ المعيار الوحيد في مجال الكتابة هو الأدبيّة والإبداع والتمكّن من أصول الصّناعة، خدمة للجمال. وهنا، لا معنى للجنس أبدا.
جيل أدبيّ كنت تتمنى لو كنت منه؟
كنت أتمنى مُعاصرةَ جيل الثلاثينات والأربعينات في تونس ومصر وجيل الستينات في العراق. فمن لا يتمنى مجايلة الشابيّ وعلي الدّوعاجي وجماعة تحت السّور والعقاد وجماعة الديوان وطه حسين وجبران ونعيمة وجماعة الرّابطة القلميّة وبدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة وتيّار شعر التفعيلة والحكيم ونجيب محفوظ؟ من؟
من هم الكتّاب او الكاتبات الذين ينالون منك بحثا دائما عن إصداراتهم ؟ ولماذا؟
كنت أنتظر كتابات محمود درويش في الشعر والهادي التيمومي في التاريخ وكتابات توفيق بكّار النقديّة وكتابات العابد الجابري وجورج طرابيشي الفكريّة. لما فيها من جدّة وإبداع وبحث معمّق في قضايانا المعاصرة.
عمل إبداعيّ لآخر كنت تتمنى أن تكون انت صاحبه؟
أعمال كثيرة كنت أتمنى أن أكون صاحبها، مثل كتاب كليلة ودمنة ومقامات الهمذاني ورواية المعطف لنيكولاي قوقول وحدث أبو هريرة قال لمحمود المسعدي واغاني الحياة لأبي القاسم الشابيّ وكتاب مرداد لميخائيل نعيمة.
ما مدى حلمك الإبداعيّ؟ وهل انت راض عن منجزك الكتابيّ؟
لا يمكن للمبدع المفكّر أن يشعر بالرضا بمنجزه مهما بدا له عظيما. لأنّ العمل البشريّ مجبول على النقصان مهما بدا مكتملا. للمبدع ان يشعر بالفخر، مثلا، أمّا الرضا فلا اظن. ذلك أن الإبداع أفق مفتوح على الأجمل والأفضل. من هنا يكون الحلم أفقا مفتوحا على المنشود الذي نهفو إليه دون أن ندركه، بالضرورة.
ما تأثيرات الواقع السياسيّ وتغيّراته السريعة على الثقافة؟ ومن برأيك الذي يجب عليه قيادة الآخر، الثقافة أم السياسة؟
للسياسات القطريّة والدوليّة تأثير عميق في التوجّهات الثقافيّة وعلى المنتج الإبداعي والفنّي، شكلا ومضمونا وتوظيفا ومكانة. فالمبدع ليس كائنا معزولا أو متعاليا على الوجود الاجتماعي، ولا ينبغي له. وهو ليس مجرّد مرآة عاكسة للبيئة التي يعيش فيها. إنّه يتأثر، حتما، ولكنّه يؤثر ويصارع ويشتبك مع أعداء شعبه وامته. فهو الصرخة والكلمة والطلقة والوعد والشعلة. وهو نبيّ عصره وحامل لواء التحرير والتنوير وتقرير المصير. من هنا، ونحن نقرّ بقوة الفعل السياسي على الثقافة آنيا وظرفيّا، فإنّنا نؤكّد على أن الثقافة هي التي تضبط جبهة المعركة ومصير الحرب وملامح الوطن والإنسان. لذلك فإنّ الثقافة هي التي يجب أن توجّه السياسة نحو أفق الخير والحريّة والعدالة والسلام في مواجهة التسليع والتسطيح والاستغلال والشرّ.
الجوائز الأدبيّة ما معاييرها الصحيحة برأيك حتّى تذهب لمستحقيها؟ وهل ترى أنها كثيرا ما تكون موجّهة، وفقا للانتماءات السياسيّة وحسب توجّهات أخرى؟
لا يمكن ان نقيّم عملا أدبيّا فنيّا دون معايير واضحة وموضوعيّة معلنة، تتصل بجوانب العمل الفنيّة والبنائيّة والمضمونيّة والشكليّة. ورغم إعلان أغلب لجان الجوائز عن معاييرها التصنيفيّة والفنيّة، إلاّ أنّها تؤكّد غالبا على الشروط الشكليّة للمسابقة، مثل جنس الكتابة وحجم العمل وسنة النشر وجنسية الكاتب. ونظرا لعدد المشاركين الكبير غالبا، تشرع اللجان في قراءة ملخّصات أو نتف، وهي تخضع غالبا لنفوذ دور النشر والممولين للجائزة ولتوجهات الدولة التي تتبنّاها. لتصبح الجوائز ذراعا ماديّة للترضيات واستقطاب الأبواق في سوق الدعاية الرخيصة لصاحب الهدايا والعطايا. على الكاتب المؤمن برسالته الإنسانيّة والاجتماعيّة أن يرفض منطق السّباقات ويتخلّص من هيمنة التصوّرات السّوقيّة والاشهار الاستهلاكيّ عليه، حتى يحرّر فنّه من التبضيع والإسفاف.
كيف نحدّ من هيمنة القراءة الالكترونيّة؟ وكيف نعيد القارئ إلى محراب القراءة الورقية؟
ليس علينا أن نحدّ من هيمنة القراءة الالكترونيّة، ولن نستطيع، لأنّها أضحت ضرورة عمليّة وعلميّة وتواصليّة، من صلب التطوّر التقنيّ والمعرفيّ للعولمة. بل علينا أن نشجّعها ونوجّهها من أجل تطوير كفاياتنا المعرفيّة وذاكرتنا الموسوعيّة ومهاراتنا التواصليّة. وأمّا القراءة على الحوامل الورقيّة، فهي ضعيفة أصلا وزادت استفحالا، لأسباب موضوعيّة تتصل بهيمنة ثقافة الصورة وغلاء الورق والطباعة وتراجع مادة المطالعة في المناهج التربويّة. لذلك يكمن الحلّ في إعادة الاعتبار للكتاب في الوسطين الأسريّ والمدرسيّ، حتّى نخلق بيئة تحرّض على نشاط المطالعة من باب متعة القراءة.
كثرت في الآونة الأخيرة الصالونات الأدبية، والقليل منها في تصوّري له رسالة سامية والغالبيّة تبحث عن الأضواء والمصالح والمنافع. هل نقنن إنشاء هذه الصالونات؟
كثرة الصالونات الأدبيّة ظاهرة متصاعدة جديرة بالاهتمام. والرأي عندي أن اغلبها مجرّد فرقعات إعلاميّة ومظهر وجاهة وبحث على الأضواء والإشهار. وهي في أغلبها تكريس لمنطق “الشلليّة” والمحاباة وبالتالي الإقصاء والإنكار. ولكن هذا لا يمنع وجود صالونات ومنتديات جادة تسهم في إثراء المشهد الثقافيّ. أمّا سؤالك عن التقنين، فلا أرى ضرورة أو مبرّرا لذلك، حتّى لا يتحوّل التقنين إلى وسيلة مراقبة ومعاقبة وخنق للفضاء العام الثقافي.
هل يتأثر الأدب بعمل الكاتب أو مهنته؟
لا شكّ في تأثّر العمل الأدبيّ والإبداعيّ، عامّة، بمهنة الكاتب وعمله. وقد يتسرّب ذلك التأثير في مستوى المعجم أو الموضوع أو الرؤية. ولنا في تاريخ الأدب أمثلة كثيرة على ذلك. لكنّ ذلك التأثر ليس آليا ولا دائما. إذ يتجاوز المبدع عوالمه الحسيّة القريبة والضيّقة، ليشكّل في إبداعه فضاءات متنوعة وعوالم متخيّلة، يتحرّر بواسطتها من محدّدات الواقع الضيّق ويقتحم ما هو إنسانيّ مشترك وأصيل. وهنا تماما تتجلّى بعض ملامح عبقريّة الكاتب.
ما مشروعك الأدبي القادم الذي يراوغ دواخلك وعقلك وتتمنى أن تراه واقعا ملموسا؟
بعد نجاح مجموعتي القصصيّة شجرة الأحلام العالية وترجمتها إلى الفرنسيّة من قبل الأستاذة ليلى الدعمي من تونس، وإلى الانقليزيّة على يد الأستاذة اللبنانية المقيمة في مصر، تغريد فياض،على طاولتي الآن، أكثر من مشروع أدبيّ. لي روايّة أشرفت على إتمامها. وهي تعالج قضايا الاستبداد السياسي وعنف المؤسسات في المجتمعات العربيّة. وأنا بصدد الاشتغال على كتابة رواية تاريخيّة موضوعها سيرة الزّعيم النقابيّ التونسيّ محمّد علي الحاميّ الذي ساهم في تحرير تونس من الاستعمار المباشر الفرنسيّ. وهذا الكتاب هو المشروع الذي يشغلني منذ سنوات وأتمنى أن أراه بالصورة التي أرتضيها وترضي القارئ التونسي والعربي.
لو أردنا توجيه رسائل إلى : إليك أنت إنسانا وكاتبا. وإلى المؤسسات الثقافيّة ودور النشر والإعلام بشتّى صوره، وإلى النقاد والكتّاب كبارا ومبتدئين. ماذا تقول فيها؟
الرسالة التي أوجّهها إلى نفسي هي عدم الحياد في المعارك الوطنيّة والاجتماعية والإنسانيّة، وعدم الاستهانة بالكلمة والفنّ في أنسَنَة هذا الوجود الذي يزداد توحّشا وقسوة وترذيلا لقيم المحبّة والحق والحريّة والعدالة.
أمّا رسالتي للنخبة المستنيرة التقدميّة أن تمسك بالمؤسسات الثقافيّة. وأن تجعل منها قاطرة دفع وتطوير وبناء، وأدوات تنوير للمجتمع وتحرير لإرادته في العمل والإبداع، ومنصّة تثوير للطاقات الشابّة، حتى تسهم في خدمة أوطانها.
وأمّا رسالتي لدور النشر: دور النشر في أغلبها مؤسسات ربحيّة بلا أفق معرفيّ ولا دوافع تنويريّة. لذلك على الدولة أن تقدّم دعمها للكاتب لا للمطابع وتجّار الورق. فالكاتب الذي يبدع وينشر على نفقته الخاصّة يساهم في إثراء التجّار والموزعين والوسطاء. لكن الموقف الموضوعيّ يستدعي منّا استثناء الناشرين المؤمنين برسالة العلم والثقافة والفنّ والذين ساهموا في بمالهم وجهدهم في خدمة مجتمعاتنا العربية.
وأمّا للإعلام الثقافي فأقول: تخلّص من الولاء و”الشللية” والاستكتاب مدفوع الأجر والإشهار لمن يدفع أو يخضع. ولا تكن صوت السلطة التي تمنح وتمنع، ولا بوقا للمدّاحين المنافقين.
وأمّا للنقّاد فأقول: يعاني مفهوم الناقد من ضبابيّة بسبب تداخله مع مفاهيم الصّحفيّ والباحث الأكاديمي والمستشهر في مجال الإعلام. وقد فقد الناقد بالتالي، مكانته الأساسيّة المواكبة لكلّ حركة أدبيّة وفنيّة، ووظيفته في التقييم والتحكيم والتوجيه. وقد ساهم نسق الاستهلاك السريع والموسّع وقيم السّوق، في تهميش دوره لفائدة المستكتبين وصغار الإعلاميين. ذلك أن نسق الكتابة النقديّة يتطلّب تفكيرا وتمعّنا واشتغالا معمّقا، لا يستسيغه نسق الاستهلاك والاستشهار ومنطق الترويج والدعاية. في المحصّلة إنّ المجتمع الذي يهمّش الناقد هو مجتمع بلا معايير جماليّة ولا مراجع ذوقيّة ولا مشروع إصلاح وتطوير.
وأمّا كلمتي للمبدعين كبارا ومبتدئين، فأقول: اظنّ أن الكتّاب والفنّانين يولدون كبارا. انظروا في الكتابات الأولى لجبران ونعيمة والشابي وشوقي والعقاد وغوركي وبوشكين، ستجدها معبّرة عن عبقريّة فذّة. لذلك أقول للمبدعين جميعا، إنّ الكلمة رسالة ورسالة الفنّ عظيمة. وهي القلعة الأخيرة في مواجهة البذاءة والترذيل والجهل المعمّم. فأنت أيّها المبدع نبيّ شعبك في معركة القيم الإنسانيّة الخالدة.