محمد عبد الظاهر المطارقى
مابين رجفة عين غير مصدقة، وصرخة مروعة بدأت مكتومة، اهتزت الصورة الهادئة، تحولت الى بركان يفور اللهب من فمه. صخب عربة الشرطة يختلط بضجيج القطار القادم من طنطا محملا بعمال الوردية.
” الرجبى” أخرجت أحشاءها من النساء والأطفال .. والرجال الذين يحاولون إنقاذ ما يمكن. أول الراكضين عم زغلول بائع الطعمية، و” مسعد حجر ” صاحب ورشة الزجاج.. و ” رجب رزين ” ميكانيكى السيارات .
رياح عاتية تركض مسرعة لتصفع الوجوه. تضرب بجوانب العشة، تطيح بالدعامات. تنزعج الدجاجات، تتقافز الى أعلى القضبان الحديدية وهى مذعورة. الكلاب الجائعة تركض ورائها.. تحاول خطفها.. ولعابها الغزير يسيل من فمها..
السيدة ” أم سعاد ” مازالت فى بلكونة الثالث، كأنها تحلم، جسدها ينتفض بشدة، رغم وهج الشمس المتسلطة. تقلصت ملامح وجهها.. رفعت ذراعيها العاريتين وراحت تلوح بهما فى الهواء وتطلق استغاثتها المدوية.. أول من رأت.
أما هما فقد كانا يحتضنان الصندوق المعدنى. المحفور على واجهته ” جمجمة لرأس، وعظمتين من عظام الموتى “.
فى الليالي الدافئة كانت تنزل من شقتها، تذهب لتجلس معهم، تشاهد المسلسل وتحكى.. كانت تصنع أنواعا من الحلوى التى تجيد صنعها. ويحبها الأولاد. وكان يحلو لها أن تحتسى من مياه الزير المثلج، وتعاكس الولد الأبله فيشتمها، تضحك على آخرها، تمد يدها بقطعة شيكولاتة فيخطفها بسرعة.
الرجل النحيل، صاحب العيال الخمسة يقود عربته اليد، الملونة. ومن فوقها ترقد الخضروات الطازجة،
يعدل عمامته الصوف ويرفع عقيرته بالنداء، يضرب مواويل تهز أوتار القلب، رغم خشونة صوته. وحين يبتعد تضحك زوجته على الولد الكوميدى السمين.
قالت لأم سعاد:
ـ حين يكبرون، سنرتاح كثيرا.
فى الأصيل، كانت العربة تحمل الصغار فى رحلتها اليومية نحو ” محلة أبوعلى ” حيث البحر الواسع ابن النيل..والحقول المترامية، وأشجار التوت.
يخلع الرجل جلبابه القديم، يحتضن المياه الدافئة بجسده النحيل. فيضحك الأولاد من قلوبهم الصغيرة فى براءة. يقفزون كالقطط فوق أشجار التوت، ويتأملون المياه الجارية، ومراكب الصيد البعيدة.
هزت أم سعاد رأسها، ونظرت الى أعلى العمارة الضخمة المطلة على عزبة الرجبى وشريط القطار.. والمصانع التى تدور خلف أسوار الشركة.
ـ إنها على وشك الانهيار، من الخارج كالعروس المزينة؛ ومن الداخل ينخر السوس فى عظامها..ماذا يمكن أن نفعل.. هزات القطار زلزال مخيف.. دورات المياه طافحة ومياهها العطنة تتساقط فوق رؤوسنا.
قالت أيضا:
ـ نحلم بعشة كهذه، تكون ملكا لنا، بعيدا عن عجرفة صاحب العمارة، وطمعه الزائد.
حملت الزوجة فردة الحذاء ورمت بها الصغيرة التى تتكوم على جانب الطريق تلعب بالتراب.
ـ تعالى هنا يا بنت ال…
أردفت أم سعاد قائلة :
ـ سعاد فى الطب، وهو رئيس أقسام فى الشركة، وآخر النهار عامل صيانة، يتنقل بين المشاغل، ويعود مهدودا..ماذا نفعل.. مرتب الشركة لم يعد يكفى، والدنيا أصبحت نار.
إسماعيل المخبر أصر على عشرة جنيهات؛ وخمسة كيلو موز مغربى!
قال لها:
ـ لا أزال أبعد الشر عنكم.. وأولاد الحرام كثيرون..
صرخت الشركة تعلن خروج الوردية.. لحظة طوفان.. ينتصب الولد الأبله وشقيقته الكبرى خلف الأقفاص لمساعدة أمهم التى تجلس على الميزان فى حالة استعداد.
يعود الرجل من أمام البوابات، يقود عربته الفارغة، وجيبه الممتلىء بالنقود. يجد بعض البرتقال ما يزال فى قاع القفص . يحمل واحدة ويرمى بها للأبله. ويعطى لأم سعاد الجالسة برتقالة كبيرة.
بجانب العشة يجلس، بجوار الشجرة التى قام بغرسها.. يحتسى الشاي الساخن.. يدخن سيجارة ملفوفة.. يتأمل السماء ويحلم بعربة كبيرة يجرها حصان قوى .
قال موظف البلدية:
ـ أمامكم مهلة يوم واحد، والا سيتهدم كل شىء.. يوم واحد فقط !
لم تكن المرة الأولى التى تحتضن يده الخشنة ، الكبيرة ؛ باطن يدها الناصعة، الطرية وبها ورقة من فئة الخمس جنيهات. كان يتأمل عينيها الواسعتين الغارقتين فى الكحل.. وأنفها الدقيق، وشفتيها المكتنزتين اللتان فى لون الفراولة .
نبح الكلب الأعرج بشدة، وقفز الديك الأحمر فوق جدار من الخشب وراح يتبختر بألوانه المبهجة ويصيح معلنا عن نفسه فى سعادة.
همس:
ـ لا، لايمكن. وهذه الدجاجات التى تتقافز.. هل أقمتم مزرعة؟
كان مصرا ، و” البلدوزر ” من وراءه يلوح بذراعه العملاقة ويهدد.
قال له فى استعطاف:
ـ خمسة، وأمهم.. ماذا يمكن أن نفعل. هذا المكان كان خربا.. مرتعا للقمامة والحشرات القاتلة، أصبح الآن كما ترى.
حدجه الموظف بنظرة فاحصة: طويلا، نحيلا.. بارز الوجنتين. تأملها: بيضاء.. شهية. تعجب للأقدار التى جمعت بينهما.
قالت فى صوت مشروخ:
ـ من أين يا باش مهندس.. ربنا يسترك،
لم ينطق ، تمنى لو كانت الآن بين أحضانه.
بوجهها الصبوح رسمت ابتسامة عذبة.. أخرجت عشرة جنيهات، وضعتها فى يده. أمسك يدها . قال وهو يذوب بين شفتيها :
ـ لكن، لكن هذا ممنوع،
رفعت إصبع موز، قامت بتقشيره أقسمت عليه أن يأكله.
حمل الرجل النحيل اثنان كيلو ولفهما فى ورق جرائد وأعطاهما له.
ـ من أجل الأولاد
نظر الى جسدها الريان، همس بصوت مسموع:
ـ المكان كله ملكا لكم
قالت لأم سعاد:
ـ أين نذهب، ليس لنا أحد. شقيقه المدرس لا يكلمه، ولا يسأل عنه، يركب سيارته السوداء ويجرى.. أين نذهب؟
قالت أم سعاد:
ـ ربنا موجود، قادر
هزت الزوجة رأسها قائلة:
ـ ليس لنا غيره.
فى البكور يحمل الأبله قفصين على كتفه ويذهب نحو محطة الغزل، وشقيقته الصغرى تحمل الميزان الثقيل وتسير الهوينا. يترقبان بشغف قطار العمال.
عند شروق الشمس غسل الرجل النحيل رأسه بماء الزير البارد. وسقى الشجرة المغروسة بجوار العشة. دفع عربته اليد بقوة، يريد أن يلحق بالموظفين. اصطدمت بالصندوق النحاسي القديم. استدار الى زوجته وقال بصوته الأجش:
ـ يا فتاح يا عليم،
رمت زوجته ببعض حبات الطماطم التالفة الى الدجاجات . التفتت إليه
ـ لقد انكشف الغطاء..
ـ وماذا بعد..؟
نظرت إليه وقالت فى وجل:
ـ احذر الصندوق، الموت بداخله.
ـ ليست المرة الأولى.. هيا .
كانت الشمس تطل بوجهها الشاحب نحو البيوت الشاهقة. الدجاجات راحت تتقافز، وتصيح فيما يشبه الجنون.. الكلب المتربع خلف العشة راح يعوى بطريقة غريبة وقد اشرأبت أذناه لأعلى .
الشارع العمومي ساكن تماما.وأهالي الرجبى ما يزالون فى بيوتهم فيما عدا الرجال الذين ذهبوا الى أعمالهم . تيارا خفيفا من الهواء البارد يجرى بسرعة، يحوم حولهم محملا ببعض الرمال الخفيفة، والأتربة المتراكمة أمام مضرب الأرز.
أومأ إليها برأسه، رمت الكلب الذى يعوى بحجر صغير، اتجهت نحو الصندوق، احتضناه.
الكلب الأعرج أخذ يعوى بشدة.
أم سعاد فى البلكونة تقف شبه عارية، أشارت بيدها نحوهما.. صرخت حين ارتسم الفزع.
لحظات.. تحول الشارع الى أمواج من البشر.. راحت تتلاطم.. اشتدت الرياح أكثر، اقتلعت العشة، والشجرة المغروسة.. وحملت الدجاجات وطارت بها بعيدا.. بعيدا جدا.والكلاب المسعورة راحت تركض ورائها وتنبح.
الأبخرة المتصاعدة من الصندوق المشتعل غطت على الرجل النحيل. طقطقة خفيفة مع رائحة شواء لحم كانت تنبعث لتزكم الأنوف.