كيف تنهار قطع الشطرنج في دولة الفساد

شارك مع أصدقائك

Loading

فاطمة  المحسن

في إيطاليا العام ١٩٩٢ كان ضجيج المحاكم يصم الآذان، وكانت هناك مغامرة جنونية عنوانها حملة ” الأيادي البيضاء” لمكافحة الفساد والبحث عن جذوره وتحطيمها. قاد الحملة التي شهدها العالم بكل جوارحه القاضي أنطونيو دي بيترو، وكان شاباً مغامراً على قدر كبير من الشجاعة النادرة و يعرف أن مهمته ستودي بوظيفته، وربما يدفع ثمنها تصفية جسدية لطالما استخدمتها المافيات الايطالية في تاريخها الدموي. وجد نفسه في أول تحرك له كما لو كان يدور في فراغ مرعب لوحده، صمد وهو يغالب ذلك الجو المريب، فانضمت إليه مجموعة من القضاة الذين غامروا بأرواحهم دفاعاً عن حق الناس في تداول المعلومات عن السارق الأكبر والأصغر. كان السؤال المثار وقتها : من الذي أودى بالمال العام وتقاسم المناصب في السلطة والبرلمان، كان بيترو يعرف منذ البداية أنه يقف على حد السكين أمام مافيا الفساد التي مدت جذورها في الدولة حتى شملت رؤساء حكومة سابقين وقادة أحزاب انتخبهم الشعب، ونصف نواب البرلمان الذي يقود الأمة الإيطالية إضافة إلى كبار الموظفين والرأسماليين ورجال الكنيسة. كيف استطاع اعتقالهم وتنظيم محاكم علنية شهدتها إيطاليا ومعها العالم، في أكبر دراما إنسانية لاستعادة الهدر المنظم في موارد الدولة ؟ تلك حكاية جديرة بالاستذكار.

استطاع القاضي في ١٧ نيسان ١٩٩٢ أن ينتزع من المحكمة أمراً بإلقاء القبض على ماركو شييزا وهو كبير قادة الحزب الاشتراكي الفائز بالانتخابات بنسبة كبيرة، بتهمة تلقيه سبعة ملايين ليرة إيطالية كرشوة من شركة تنظيف صغيرة كانت تقوم بمهامها المغشوشة في مستشفى ميلانو، وهو مبلغ صغير لا يصمد أمام صفقات أخرى تدار بحرفية كبيرة. كانت تلك الشرارة الأولى لاندلاع حملة ” الأيادي البيضاء” بدأ بعدها العد التنازلي عند كشف الفضائح الكبرى، وهكذا أدت المحاكمات العلنية للسراق الصغار إلى الاستدلال عن خيوط الحمايات المتشعبة، لحين ما مثل أمام المحاكم طيف من المتنفذين في الوظائف المتوسطة والصغرى . تخلى الرؤساء الكبار عن حماية موظفيهم الصغار واستمر التحقيق العلني فظهرت الفضائح في متوالية أدت إلى انتحار كبار السياسيين، وتدخّل منظمة الشفافية العالمية لتسند القضاة المشاركين في استدعاء الرؤوس الكبيرة.
استقالت الحكومة في ربيع ١٩٩٣ وبعد تغيير في نظام الاقتراع أطيح بالحزب الديمقراطي المسيحي الذي حكم ما يقارب ٤٥ عاما وخاضت حتى أحزاب المعارضة، بما فيها الحزب الشيوعي عمليات تغيير جذرية داخلها كي تنظّف جيوبها من ثقافة السيطرة والمافيات.
هل من عبرة في هذه القصة، وهل لها أن تكون نموذجاً لما يجري في العراق ؟
لعل الذي يخطر بالبال هو ما ينادي به المتظاهرون ، وما ينتظره الناس من السلطة كي تتخذ الإجراءات الحاسمة لمحاكمة مافيات النهب المنظم في العراق، وهذه السلطة في الأصل لا تملك نظاما قضائيا نزيها وحرفيا، بل عاجزة عن الوقوف أمام ما يسميه بعض قادتها علنا : “الدولة العميقة” . ولكن المفارقة أن كل العراقيين يعرفون إن الدولة العميقة تديرها الأحزاب الإسلامية ومليشياتها وفرق اغتيالها.
حكاية انهيار النظام القضائي في العراق هي التي ينبغي أن تكون مبعث القلق الكبير واليأس من ملاحقة دولة الفساد الكبرى في العراق، هذا الانهيار شهده العراقيون والعالم خلال المحاكمة العلنية لصدام وقادته. فقد حدثت المفارقة بين قوانين الاحتلال ومعظمها مستقاة بالمعنى العرفي من اللوائح الغربية، وبين خلو العراق من قضاء مهني ومحترف. فبدت تلك المحاكمة التي نقلتها وسائل الاتصال، أكبر مهزلة ضحك فيها العالم على نوع القضاة وأعضاء المحكمة والمحامين وأشكالهم المزرية إزاء قوة وثبات رجال صدام .
صدام حسين ورجاله أدركوا اللعبة بعد لحظات من دخولهم قفص الاتهام، فقد بدوا مذعورين أول وهلة ثم استرجعوا رباطة جأشهم حتى ان أحد القضاة خاطب صدام بقوله ” سيدي القائد” أو ما شابه من ألقاب. هذه المسرحية كانت العرض الأول لعراق البؤس والدكتاتورية حيث كانت أرضه قاحلة من فكرة العدالة والحقوق.
هناك من يقول أن النظام القضائي كان خلال العهد الملكي على درجة من القوة والفاعلية ، ولكن قراءة لتواريخ الانقلابات العسكرية التي تولاها ضباط الجيش خلال العهد الملكي، منذ بكر صدقي حتي نوري السعيد، وصيغة قتل المعارضين في السجون ومنها سجن بغداد والكوت وعلى نحو جمعي، يعزز الاعتقاد بلاعدالة الحكومات الملكية. ولكن النظام القضائي المتعلق بالشأن العام، ضعف بعد الثورات، وسيطرة الضباط وسيادة كاريزما الزعيم الأوحد الذي ينصف المظلوم ويستمع إلى نداء المكلومين.
أيام النظام البعثي الذي حكم فيه صدام وعشيرته وأولاده، أطاحت بكل أمل لترميم النظام القضائي ، فانتهت سنوات الحروب والحصار والقتل والتصفيات في السجون والمعتقلات السرية إلى تجريد المجتمع من كل قيمة للعدالة الاجتماعية بما فيها التراحم والتعاطف والتضامن العائلي. بيد ان الكارثة الكبرى حدثت بعد الاحتلال ومصادرة الأحزاب الإسلامية كل السلطات لصالحها، وقدرتها على فرض الهيمنة على كل الفضاءات وبمساندة الجماهير التي تفتقد إلى التعليم وتتطلع إلى شيوخ معميين يفتون بمصائر الناس.
هل يحلم العراقيون بحملة علنية وليست من وراء الستار، تشبه حملة “الآيادي البيضاء ” في أيطاليا، يقودها مغامرون مثل أنطونيو دي بيترو؟ . لعلنا لن نبالغ في القول إن التمرين الأول الذي وفره مناخ الاحتلال الأميركي ووفر له مظلة الحماية ، برز في استعراض علني يشبه أفلام كابوني الشهيرة .
طارت أموال العراق إلى عمان ودول الخليج والمصارف العالمية منذ الحكومة الأولى التي قادها ” العلماني” أياد علاوى وصحبه، ليضع اللبنات الأولى لامبراطورية الفساد الكبرى في العراق، حيث ظهر وزيره حازم الشعلان علناً وعبر تسجيل من طائرته الخاصة التي اشتراها من ماله الحلال، وهو يشتم الأحزاب الإسلامية ويحمل بجعبته عبر كردستان ما يقارب المليار دولار. كان ظهيره في ذلك الوقت عشيرة الشعلان في الديوانية وما تقاضته الأحزاب الكردية المتنفذة، من خاوة هي في الحق ضريبة قطاع الطرق لا أكثر. أما أيهم السامرائي الذي هرّبه الجيش الأميركي من السجن هو وأمواله باعتباره مواطنا أميركيا صالحا، فهو قد ضاع في زحام الفساد الذي شارك فيه قادة وضباط كبار في الجيش الأميركي الذي احتل العراق، ولعلهم علموا اتباعهم التمارين الأولى لطرق الحماية وحفظ الأموال في خزائن أمينة.
أصحاب الامبراطوريات الكبيرة، وعلى رأسهم نوري المالكي وعمار الحكيم ومقتدى الصدر والجعفري والعامري والخزعلي وفالح الفياض والكربولي أسهموا في تكوين شبكة حماية تجنبهم التعرض إلى أذى الاستجواب، فهم فوق القوانين والمساءلة. ولعل محاكمة الكربوني وعائلته هي استقواء طائفي لا اكثر ، فهو لا ينفرد بمافياه ، بل تشاركه الاحزاب الشيعية المتنفذة في هذا الكار .
النظام القضائي يعني القيمة الأولى للمساواة والحرية الإنسانية ، وعند غيابه تغيب تدريجيا حقوق المجتمع، ويبقى الهيكل السياسي يفتقر إلى الشرعية مهما كانت اجراءاته واستعراضات ساسته، فالصالح والطالح لا يُختبر بالنوايا والأقوال، بل وفق قواعد تحترم عقل الناس لأن العدالة فوق السلطة السياسية وأكبر منها.
شارك مع أصدقائك