مظفـر النـوّاب وريادة البنفسج

شارك مع أصدقائك

Loading

د. علي ناصر كنانة

     منذ خمسين عاماً وأنا أستمع إلى (أغنية) قصيدة (البنفسج) التي غناها ياس خضر في قمة مجده. ومنذ ذلك الحين وحتى الآن وأنا أرى في هذه الأغنية كونها أجمل أغنية عراقية على الإطلاق كلاماً ولحناً وغناءً.

وقد تعرّضت هذه الأغنية للمنع طوال ثلاثة عقود- من حكم النظام السابق لما تحويه من دلالات سياسية في صيغة غزل سياسي. ولكن منع بثها من خلال الإذاعة والتلفزيون لم يمنع الناس من تداولها ككاسيت.

وفي فترة متأخرة (خلال إقامتي في الدوحة) وبعد استماعي لأغنية البنفسج مرّات عديدة نضجت في داخلي رغبة الكتابة عن (البنفسج) كقصيدة شعبية (وهي مكتوبة بالأصل بصيغة قصيدة لم يقصد الشاعر إعدادها للغناء، بل هي قصيدة صعبة التلحين، نتجَ عن مغامرة تلحينها من قبل الملحن البارع طالب القرغولي أن كانت رمزاً لعطائه).

أقول هنا على قناعة راسخة بأن قصيدة (البنفسج) للشاعر الكبير مظفر النواب هي بنفسجة الحداثة الشعرية في العراق بلا منازع، رغم قناعتي الموازية بأنّ لمن المغامرة التورّط في إطلاقية الأحكام في أيمّا مجال، وخاصة  حقل الأدب الذي هو مجالٌ جمالي، تتحرّك فيه القواعد وتتغيّر معاييرها من راءٍ إلى آخر ومن زمن إلى آخر، إلا أنني لا أتردد في القول بأن (البنفسج) هي أبرز نص شعري عراقي حداثوي في زمنه وغير مسبوق جمالياً.

*

بالرغم من أن ثورة الحداثة الأكبر من الناحية الجمالية كانت بالانتقال بقضية الأدب من عبادة المضمون إلى تقديس الشكل، إلاّ أن الشعراء الستينيين خرجوا أو حاولوا الخروج من عباءة تجربة الرواد (السيّاب/ الملائكة/ البياتي)، بيْدَ أن الستيني مظفر النواب كان (بقصيدته الشعبية) أكثرهم استيعاباً للشروط الجمالية. وقد فعلَ ذلك في قصائد كثيرة في ديوانه الشهير (الريل وحمد)، ثم تسامى في (البنفسج).

وقد شهدَ سعدي يوسف بريادة تجربة النوّاب ما مضمونه أن الحداثة الشعرية في العراق تنحني إجلالاً لمظفر النواب. وفي كتابه (يوميات المنفى الأخير، الصادر عن دار الهمداني/عدن 1983 ص 193) يؤكد سعدي يوسف شهادته:

(أعانني مظفر النواب في أن أكون شاعراً. “الريل وحمد” بالذات أعانتني. في تلك الأيام كان الهتاف محبّباً، بل كان أصيلاً، وتجئ الريل وحمد قصة حب، كانت تسبح ضد التيار. ومن يكون الشاعر إن لم يسبح ضد التيار؟).

في الستينيات لم تجرؤ القصيدة الحديثة (كما في جيل الروّاد) على أكثر من تعدّد التفعيلات والقوافي، بينما بدتْ قصيدة (البنفسج) كما لو أنها قصيدة إيقاع داخلي، تأتي بالوزن والقافية في نسق خالٍ من أيةِ صناعة أو استحضار تعسفي.

الحداثة في أعمق تجلياتها صورة. والصورة الشعرية في (البنفسج) لا تُضاهى في فرادتها، ولم يقترب من جمالها وجرأة خلقها أي شاعر آخر مجايل لمظفر النوّاب، بل ويمكن القول إنها ما زالت على قدرٍ عالٍ من الفرادة، في معايير المقارنة.

تنهمر قصيدة (البنفسج) في استهلال فريد في جماله. استهلال خالٍ من القافية. وهو ما لم تألفه القصيدة الشعبية التي عادة ما تتغنى بالقوافي، بل أن القصيدة الحديثة لم تكن قد شرعت في جرأة كهذه:

(يا طعم.. يا ليلة من ليل البنفسج).

استهلال فانتازي لم تشهد له القصيدة الشعبية مثيلاً. وهو ضربٌ من الحداثة لا ينشد المعنى بقدر ما يستدّرُ الجمال. مفردة (طعم) في العربية لا تأتي وحدها في سياقات المعنى، وإنما تجئ عادة مضافاً لمضاف إليه يعرّف: طعمَ ماذا؟ إلاّ أن النواب وفي انزياح لغوي ريادي يخرج بالمفردة عن مألوف القول ليأتي بها مجرّدةً، تحيلنا إلى الأخيلة. ثم يأتي بمرادف لمفردة (طعم) لا ليعرّفها وإنما ليستمر في تغريبها: (يا ليلة من ليل البنفسج). ما هو ليل البنفسج؟ إنه، نصيّاً كمجازٍ غير سياقي، ليل شعري وبنفسج شعري. إنه خلق حالم للجمال.

*

أردتُ من هذا التناول المقتضب لقصيدة “البنفسج” القول بمجموعة من الاعتقادات:

  • أن النقد ينبغي أن لا يتجاهل التجارب الكبيرة في الشعر الشعبي، لأن قضايا الشعر الجمالية لا تنحصر بالفصحى.
  • أنّ مظفر النواب شاعر كبير يُقرأ من شعره الشعبي في المقام الأول وليس من قصائده الفصيحة.
  • أنّ شعر مظفر النواب المكتوب باللهجة العراقية تجربة ثرة وجديرة بالدراسة والتحليل.
  • أنّ قصيدة “البنفسج” نص مهم يحتاج إلى دراسة عميقة تكشف أهميته الجمالية وروعة التوظيفات فيه وسحر الإحالة.
  • أنّ لمظفر النواب قصائد شعبية أخرى لا تقل أهمية لم تصل إلى الناس وغالبية النقاد، مثل قصيدة “حسن الشموس” و”البريس” وسواهما، أي القصائد التي لم يتضمنها ديوانه “الريل وحمد”.
شارك مع أصدقائك