وديع سعادة.. شاعر التمرد الوجودي واللغة المتوترة

شارك مع أصدقائك

Loading

د. رضا عطية

استطاع الشاعر اللبنانى وديع سعادة (1948) أن يحجز لنفسه مكانًا بارزًا فى الشعرية العربية، حيث شكَّل سعادة مع رفيقه الشاعر العراقى سركون بولص رافدى الموجة الثانية من قصيدة النثر العربية، التى برزت فى أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضى التى حاولت أن تأتى بشكل جديد وصياغات مختلفة لقصيدة النثر عن تلك الأشكال والأنماط التى كرس لها شعر الموجة الأولى من قصيدة النثر العربية الذين مثلوا التيار التأسيسى لها فى أواخر الخمسينيات ومطلع ستينيات القرن الماضى كمحمد الماغوط وأنسى الحاج ويوسف الخال.

منذ بواكيره الشعرية وديوانه الأول، ليس للمساء إخوة، يحمل شعر وديع سعادة هجاء لاذعًا للعالم: (مع أنّ وعاءَ الصمتِ هو الوحيدُ يلمعُ بيننا/ أعرفكَ أيّها العالم/ أيّها العجوز القمىء فى صحن ذاكرتى./ وإنّى، إذ أتقدّم بخطى مبعثرة/ إلى أبواب مودّتك المقفلة،/ لا أكون ناسيًا أنّ المفاتيح/ التى نعثرُ عليها فى أشواقنا/ هى المفاتيح الخطأ). من البداية يتبدى توتر العلاقة مع العالم الذى يتخذ الشاعر منه موقف اللامنتمى، يلوذ إلى خيار الصمت، أى الامتناع عن الكلام، بما يعنى فقدان الرجاء فى هذا العالم والإحساس بعدم جدوى التواصل معه والتخلى عن المراهنة عليه. يحمل الشاعر فى حداثته وشبابه صورة للعالم بأنَّه «العجوز القمىء»، على نحو يرسخ لصراع وجودى معه أو نفور منه، فى استعارة تشخيصية تكرِّس لوعى الذات بشيخوخة هذا العالم وعجزه عن التطوُّر وبقائه فى حالة من الجمود الوجودى الذى يجعل الذات فى موقف تصادمى معه أو انعزالى عنه بعد تاريخ من الخبرات والمشاعر السلبية فى التعامل مع هذا العالم الذى تشعر بانغلاق أبوابه فى وجهها، بما يرمز إليه الباب كحد مفصلى للعبور من الخارج إلى الداخل، والولوج إلى عوالم الآخر الداخلية، ما يجعل جهود الذات فى الاتصال به مرتبكة ومهدرة، مجرد «خطى مبعثرة»، وما تملكه من وسائل لفتح قنوات اتصال بالعالم محض أوهام، «المفاتيح الخطأ» فى اعتماد للاستعارات المجسمة للمفاهيم الكلية المجردة ما يجعلها تنتظم فى منظومة تمثيلية للصورة الشعرية لدى سعادة.

فى شعر وديع سعادة، خصوصًا فى المرحلة الوسيطة منه، تعبير عن حالة البحث الدائم عن مستقر، كما فى قصيدة حياة من ديوان مقعد راكب غادر الباص: (حياة/ تمتدُّ إليَّ يدها/ باحثةً فى أحشائى/ عن مدينة/ وأنا ولدٌ أرعن، راكبُ درَّاجة/ يهرِّب زنزاناته فى الليل/ يمشى مخمورًا/ حاملاً رجلاً مجنونًا منذ الصباح على ذراعه/ ذاهبًا نحو مصحّ/ محتفظًا من كل ماضيه بـ: أحشاء/ ومفتاح/ لا يجد له بيتًا). تدخل الذات فى حالة من التيه المستدام، بأثر نداءات الحياة بداخلها، بحثًا عن المدينة الحلم، يوتوبيا مفقودة لا تجدها ولا تتحقق، فى حين تتوزع الذات فى تقلباتها الوجودية بين هيئة ولد أرعن ورجل مجنون، فى تعبير عن نزق متمرد وتشتت نفسى وتمزُّق هوياتى. وتلوح ثلاث علامات تحملها الذات من تاريخها: الأحشاء تمثيلاً للداخل المضطرب، والمفتاح رمزًا لوسائل الذات لفتح مغاليق هذا العالم، والبيت الذى لا تجده، تعبيرًا عن فقدان المستقر الوجودى والخصوصية المكانية.

يطرح الخطاب الشعرى لوديع سعادة، فى المرحلة الأخيرة، قضية مساءلة اللغة التى تحولت من أداة تعبير الشاعر عن موضوعات العالم إلى موضوع فى حد ذاته، تلك اللغة تراها الذات منفى آخر بخلاف منفاها المكانى، كما فى قصيدة «الصمت» من ديوان غبار: (لماذا أمضى نيتشه سنواته الأخيرة صامتًا منعزلاً؟، هل أراد أن يقول إن الصمت هو أعلى درجات الكلام؟، التعبير الأفصح عن لا جدوى التخاطب؟، أن ينفى إمكان التواصل بين الذات والآخر؟ بين الفرد والجماعة؟، هل كان صمته يأسًا من اللغة ذاتها، من محمولاتها ومدلولاتها وتناقضاتها وخياناتها، من نبعها ومصبّها معًا؟، أم أن الصمت هو الاحتفاء الوحيد المتاح بالحياة، والتشييعُ اللائق لمن يريد أن يودّعها بإخلاص؟. لماذا صمت نيتشه كل تلك السنوات؟، ولماذا غادر رامبو الكلمات؟، والكثيرون غيرهما لماذا وضعوا هذا الحدَّ المرعب بين اللغة وخرسها، بين الذات والآخر، بين الحياة وعدمها، بين الإقامة وشطب الوجود، هذا الكائن الصغير الوحيد بين عدمين؟). بمثل فقدان الذات الثقة فى العالم وشعورها بالقلق فى الأمكنة، فإنّها تفقد الرجاء فى اللغة، وكأنَّها تحس بعجز اللغة وقصرها عن تلبية مطالبها فى التعبير عن نفسها وعن العالم. وكأنَّ سعادة يتماهى مع نيتشه فى جنونه فى سنوات حياته الأخيرة لشعوره بخذلان اللغة له وعدم مطاوعته فى استيعاب همومه الوجودية وكذلك فى عدم استيعاب الناس والجمهور للغته وما تطرحه، ويتماهى، كذلك، مع رامبو، فى شروده، تيهًا فى المكان، وتمرده الإبداعى الداعى للعثور على لغة شعرية جديدة، أو كأنَّ الشاعر يشارك نيتشه ورامبو فى موقفهما العدمى من الوجود واللغة معًا. وتعبَّر كثافة التساؤل وبلاغة الاستفهام المتتالى عن الجدل العنيف الذى يزلزل الوعى إزاء العالم، تأكيدًا لتداعى اليقينات المطلقة وسقوط السرديات الكبرى، بعد أن أمسى الشك والريبة قانونًا سائدًا والقطعية مبدأ للعلاقة مع العالم والآخر

 

* الأربعاء 22-07-2020 00:00 | كتب: المصري اليوم |-

شارك مع أصدقائك