ذوبان قصة قصيرة

شارك مع أصدقائك

Loading

أيمن رجب طاهر

صدري ضيّق وهواء أول الصباح ينعشني، يدي على مقبض الباب، سأدفعه وأخطو فيستقبلني الممر المؤدي إلى تكعيبة العنب، سأستريحُ على الكرسي أمام المنضدة وأشمّس جسمي، يا باب، لا تصرصر فينتبهون، سأغلقك في سرعة ولكن ما كل هذه الأشياء، الجدران الضيقة تطبق على صدري وتلك الرائحة تخنقني، أحدهم فعلها دون أن يضغط على زر الكومبنيشن فيصرّف بلوته، أصرفها أنا، لكن الحمام نظيف، مثانتي تكاد تنفجر، أبول هنا، لا هنا، بل هناك، نعم في البلاعة المتسعة، أرفع البنطلون لكني لم أنته بعد، بقية من سائل رسم بقعة متشعبة، لا يهم، تيبسها الشمس، ألتقط الساعة التي علقتها ليلا على مقبض الشطاف، أفتح الحنفية لأغسل كفي، يدي نظيفة، أخرج الآن، الماء يتدفق، لا يهم أحدهم يقفله غير أن طرطشة الماء تفرحني

نصف الإناء مملوء بالماء، أسلق البيض ويأتوني به مع بقية الإفطار في الجنينة، أفتح باب الحديقة، زوجتي نائمة على السرير، الباب الكبير هو باب البيت، لا يصدر صوتًا عند فتحه، أغمض عيني وأملأ صدري برائحة خضرة الأشجار، أرى البستاني يقف أمام حوض الياسمين، أسرع لمساعدته، اليدان الخشبيتان لا تطاوعاني في حفر الأرض، يمد الرجل يده، في عصبية يأخذ الآلة

– المقص الكبير لتقليم فروع الأشجار يا باشا، الجاروف لغرس الشتلة

لا أجادله، أسحب كرسي الخيزران نحو باب الحديقة الخشبي، أراه يهز رأسه ويضرب كفًا بكف، يحمل المنضدة ويركنها أمامي ويعود دون كلمة، سأطردك يا يا… اسمه هرب

هنا أحب قعدتي، جسمي يقشعر إلا أن مراقبة الناس أفضل من كل وجوه من بالـﭭـيلا، رجل يقترب، يقف أمام الباب ويلقي السلام، يبرطم ويمضي، هزّات رأسي تقنعه باهتمامي بما نثره في غضب من كلمات، أريده يتركني ولن أقول له تفضل يا، لا يهم، يكفي أنه استدار وخطا نحو العمارة المقابلة، لماذا يشكو لي من كثرة الكلاب الضالة في المنطقة، فالقطط تطاردها، لا، الكلاب هي التي تطارد الفئران أمام القطط فتركض وراء ماسورة عادم السيارات، يومًا حين كنت أعمل مهندسًا بالمصنع، اقترحت عليهم وضع مكثف يقلل من ضخ الدخان، أشمه، ألتفت فألمحه منتشرًا من نافذة المطبخ الواطئة، أشير لرفاق المصنع فالهواء الأسود يرسم أشباحهم التي أعرفها واحدًا واحدًا، فهذا المهندس…….. تبخّر اسمه مع انقطاع الدخان

تطل زوجتي وبدورها تهز رأسها وتغيب للداخل، الباب ينفتح وتخرج على كفها كيسٌ داكنٌ، تخطو كرئيس الوردية العابس الكاره لنا عندما كنا في بداية استلام العمل، خلفها الشغالة بوجهها المليح، غزالة رشيقة تسير وبين يديها صينية عليها كل الورود والرياحين، زوجتي تثرثر فلا أفهم منها غير عتابها على عدم تنبيهي لإناء سلق البيض فنشف الماء واحترق حديد الحلة، تشير إلى البنت وتتأرجح نظراتها بين ابتسامة الشغالة وبيني فتأمرها بوضع الصينية، الآن أستمتع بما جاءتني به، ما أحضرته صينية الإفطار وإبريق الشاي وعدة علب جوار دورق الماء، وصديقتي الجريدة، زوجتي تتمم على العلب وتلقي بتعليماتها وإصبعها يتحرك بين الأدوية، كلماتها تدخل من أذن وتخرج من الأخرى

الأدوية أمامي، أقراص الـ ريمينيل 4 ملي جرام وهذا ايكسيلون 6 ملي جرام، أعب 10 ملي جرام على الصبح، غير الـ دوزَيل، البرشامة ترفض الانزلاق فتوترني بطعمها المر، جرعة الماء تدفعها ولا تزال بقية من علقم يلتصق بحلقي، تنهي زوجتي ترددي وتناولني الحبتين الباقيتين، أرفع عيني لنهوضها المفاجئ، تتنبه إلى القميص نص الكم الذي أرتديه على بلوڤر قديم، لم تطلب أن أخلعه لكنها فردت الروب، ولأن تيار الهواء البارد جعلني أنتفض فاستسلمتُ لارتدائه ولف رباطه وعقده كفيونكة البنات أيام المدرسة، تقدم لي ساندويتش الفينو المحشو مربى، بالملعقة أهرس القليل من الجبن عليه لأقلل حلاوتها، تمط شفتيها وتقطب حاجبيها، سرعان ما ترسم ابتسامة مخطوفة تحاول معها محو امتعاض قسمات وجهها، أتشفّى فيها حين أتذكر انتصاري عليها المرة الفائتة فغافلتها ووضعت قطع الخيار المخلل مع الحلاوة الطحينية…

تخبرني أن ابنتنا تأتي اليوم، ابنتي رحمة فور حضورها ترتمي على صدري وابنتها تتعلق برقبتي، حفيدتي تشبه زوجتي التي عرفتها أيام ________ غاب مكان لقائنا الأول، أنا ساخط من أوامرها المكرورة، الغريب أن زوجتي أمرت الجنايني بالسير ورائي بعد حادثة جار قابلني صدفة واقفًا في تقاطع شوارع وسط البلد، وغاب عني الطريق التي أتيت منها فتأبط ذراعي وتمشينا حتى أوصلني إلى الڤيلا وبقي أمام الباب إلى أن دخلت

الجرنال مفتوح على صفحة الكلمات المتقاطعة، أحب رص الحروف وأحيانا تتوارى الإجابات أما ما أعرفه فأسرع بحله، قلم الرصاص غير موجود، أكيد البستاني سرقه ليغرس به البذور، لا، منذ قليل قال أن الشتلات نغرسها بـ ………. الله يلعنك ويلعن عُددك يا حرامي يا لص، آه، ظلمتك، القلم هنا، مختبئ جوار الكوب، أقلب به الماء وأنفضه لأحل تقاطع الكلمات، مربعات بيضاء أكتب بها الحروف ولكن لماذا مربعات سوداء، ألم تكن من الأفضل تظليلها بلون البنفسجي أحبه، أقرأ كل ما هو مطلوب للكلمات الأفقية والرأسية، المعلومات حاضرة ولكني سأبدأ بأول ما أتذكر..

رأسي: بلورات بيضاء تنتشر في القطب الشمالي، كتبتُ: ث

ل

ج

أرفع عيني فأرى لونه يكسو شعر زوجتي، تحوّلت ابتسامتي إلى ضحكة خفيفة قاطعتها قرقعة رنانة بالشارع، ألتفتُ فأرى فتاة تنط جوار عجوز تحاول جاهدة تهدئة حفيدتها، الوجه المقترب مألوف، رأيته قبل سابق في ………….. لم أبال وعدتُ إلى الكلمات المتقاطعة..

أفقي: نحلي به الشاي، خطّ القلم: س   ك   ر

الهواء مشبّع برائحة طيبة تطوف بأنفي، ذلك الوجه الغض يصدمني، يرج ذاكرتي، يعيد ملامح جدتها زميلة الجامعة، كانت فراشة نشاط الكلية، حين ملت إليها فاجأت الجميع بسفرها لتكمل تعليمها في محافظة أخرى، نعم، هي، عادت بعد انقضاء تجنيدي لتعمل معي بالمصنع، يومها رقص قلبي، وهفت نفسي لمفاتحتها لكن الدبلة بإصبعها الشمال دمّرت رغبتي، تقترب، سأنفض كل ما حولي وأسلم عليها…

دقات الملعقة المتتالية تفيقني، أصابع يد زوجتي ممدودة بها، أتناول مكعبين من السكر ألقيهما فيغيبان بجوف الفنجان، نظراتي في حداد لوداع ظهرها المحني قليلًا وذراعها مفرود محاولا مجاراة اندفاع حفيدتها، تغيب في منعطف الطريق، تتلاقى رموشي لأحتفظ بطيف وجهها، أدير رأسي فأرى زوجتي قد أمسكت بورقة الكلمات المتقاطعة ويعلو صوتها

_ عكس حياة..

تخط الأحرف فأهز رأسي موافقًا، أقلب الفنجان، تدور نظراتي بدوامة تحريك الملعقة وأستسلم لمحو ذلك الوجه الهاربة ملامحه توًا، أرشف فأتسامح مع الخضوع لتلك المنطقة الـــهلامية التي تتسع كلما أغمضتُ عيني ولم يبق بها غير طعم الذوبان.

شارك مع أصدقائك