د.نجمة حبيب
(نماذج مختارة)
لا يعنينا في هذه الورقة أمر الرواد والرائدات في الحركة النسائية وما حققوه وما لم يحققوه من مكاسب اجتماعية وسياسية للمرأة العربية، فقد أشبعتنا وسائل الإعلام على اختلافها بهذه المعلومات المباشرة التي في مجملها إما تعظ أو تمدح أو تقدح. فموضوعنا هو اللامباشر، المتخيل الروائي، أكثر فنون القول قدرة على حمل الرسائل التنويرية وأوسعها انتشاراً بين الخاصة والعامة لما فيها من لذة تشويق وسهولة استيعاب. وما يعنينا منه هو الرواية المكتوبة باقلام نسائية التي كان لها دور في تنوير وتثوير مجتمعنا العربي من خلال تقديم نماذج تمثل القيم العليا في الحرية والحق والجمال، واعتماد خطاب يحرض على التمرد على الظلم والاستبداد والرجعية من جهة، وعلى مقاومة الاستعمارين الأوروبي والصهيوني من جهة أخرى.
يؤخذ على الأدب المكتوب بأقلام نسوية انغلاقه على وتمحوره في حدود تجربة الكاتبة لشخصية، وفي أنه غارق في السلبية يكثر فيه التظلم والتشكي. وإن صح هذا الادعاء فإنما يصح على فئة من الكاتبات حرمتهن الظروف الاجتماعية، من بيئة تقليدية منغلقة واستبداد ذكوري، من الانفتاح على تجارب حياتية تثري موهبتهن وتنمي حسهن الاجتماعي والوطني. ويوازي هذا التيار تيار آخر موجود بقوة في معظم الحقب التاريخية، تنامى في مطلع ثمانينيات القرن العشرين، هو تيار الأديبة الرسولية التي تتحسس مشاكل مجتمعها وتنتصر للحركات الوطنية التحررية. وبرأيي المتواضع أن مناداة المرأة بإسقاط القوانين التي تأخذ من قيمتها الانسانية وتجعلها مواطنة من الدرجة الثانية كقوانين الأحوال الشخصية من طلاق وميراث وتعدد زوجات هي أيضاً ثورة ومقاومة.
بدءاً يحب أن ننوه أن كوكبة من جيل الروائيات الشابات، جيل الألفية الثالثة نحت منحىً حداثياً تخلت فيه عن الكتابة النضالية وتوجهت إلى الكتابة من منطلقات إبداعية محضة، وحسب بشير مفتي فإن هذه الظاهرة بدأت في الجزائر مع روايات سارة حيدر الثلاث الأولى: زنادقة، شهقة الفرس، ولعاب المحبرة، وتأصلت في روايتها اللاحقة فواصل جامحة، وفيها تخلت الكاتبة عن الهاجس النسوي والنضالي واتجهت صوب العوالم الداخلية التي تتحدث بكل حرية وجرأة فتختلق شخصيات تجردها من واقعيتها المباشرة وتصوغها عبر أوتار الفن والأدب والموسيقى والحب، وأن من يتابع كتابات الجيل الجديد من الروائيات يلاحظ بيسر سعي كل تجربة، أو كل كاتبة نحو خلق شيء من الفرادة التي تميز نصها أو تسم مشروعها الروائي. إلاّ أنّ هذا السعي نجح في بعض الحالات وأخفق في أخرى. ومع ذلك خلقت هذه النصوص تراكماً وتنوعاً مثيراً للكتابة النسوية الجزائرية خصوصاً والعربية عموماً. لكنّ هذا لا يمنع روائيات أخريات من هذا الجيل من الدخول في مواضيع اجتماعية وتاريخية شائكة، كما في كتابات هاجر قويدري التي أهلتها روايتها الأولى نورس باشا لنيل جائزة الطيب صالح العالمية للرواية في دورة 2012[1]. فالقويدري وكثيرات مثلها لا زلن يُؤمِنَّ بالكتابة الرسولية ويرين الكتابة مسؤولية. وأنهن من منطلق هذه المسؤولية معنيات بالانتصار للمظلومين وبتقديم قراءات صادقة وشفافة عن الناس والحياة. أذكر منهن على سبيل المثال لا الحصر، آسيا جبار وياسمينة صالح من الجزائر. رضوى عاشور وفتحية العسال، وسلوى بكر ونوال السعداوي من مصر. روزا ياسين حسن، غادة السمان، سمر يزبك من سوريا. ليلى بعلبكي، حنان الشيخ، هدى بركات وعلوية صبح من لبنان. عالية ممدوح، بتول الخضيري، ابتسام عبد الله من العراق. سميحة خريس، سامية العطعوط من الأردن، ناديا كوكباني من اليمن. رجاء الصانع من السعودية، وسحر خليفة، ليانة بدر، سامية عيسى وسلوى الجراح من فلسطين.
وإذ ابدأ فبآسيا جبار (فاطمة الزهراء ايمالان) الكاتبة الجزائرية المولودة في مدينة شرشال التي لم يتوقف مشروعها التثويري عند حدود الكتابة، بل مارسته عملياً مذ كانت طالبة في فرنسا من خلال مشاركتها في إضراب الطلبة الجزائرين الشهير عام 1959 ضد الاستعمار الفرنسي. وبعدها من خلال تغليب مصلحة الوطن على المصلحة الشخصية عندما اختارت أن تعود الى الجزائر بعد الاستقلال 1962 لتدرّس مادةَ التاريخ في جامعتها. وأيضاً في تحسسها لآلام شعبها عندما جرفت البلاد أعمال عنف هوجاء في تسعينيات القرن العشرين، فكتبت متحدية التطرف الديني رواية بياض الجزائر (1997) انتصرت فيها للمثقفين الجزائريين الذين وقعوا ضحايا بأيدي المتطرفين. وهي وإن كتبت باللغة الفرنسية فهذا ليس لضعف في وطنيتها بل لظروف نشأتها في ظل الاستعمار الفرنسي الذي كان يعمل على تهميش اللغة العربية تمهيداً لطمسها[2].
لا تكاد تخلو رواية من روايات آسيا جبار من ملمح مقاوم يحرض ضد التخلف الاجتماعي وتهميش المرأة وينتصر لثورة بلادها على الاستعمار. بدءاً من رواية العطش (1957) ومن ثم المتلهفون (1958)، ثم تباعاً أطفال العالم الجديد (1980) الحب والفانتازيا (1985) الظل والسلطان (1987) المملكة المستترة (1990)، بعيداً عن المدينة المنورة (1991) بياض الجزائر (1998) وإمرأة لا قبر لها (2002) أعمال، في مجملها، جريئة محرضة، وثّقت ذاكرة الثورة الجزائرية وأغضبت ذوي النفوذ الذكورين.
في روايتها الأولى العطش التي حولتها إلى فيلم بعنوان “نوبة نساء جبل شنوة”، ركزت جبّار على حرب التحرير الجزائرية وعلى دور المرأة فيها. فبطلة الرواية ليلى مهندسة جزائرية تعود إلى مدينتها لتبحث عن أخيها الذي اختفى أثناء الحرب، فتنخرط في مجتمع النسوة عجائز وشابات ومن خلال سردهن لقصص الماضي بما فيه من نضالات حرب التحرير، تستعيد ليلى ماضيها ومن ثم هويتها التي غيبها البعد عن الوطن وفقدان التواصل مع الجذور واللغة[3].
تحكي رواية امرأة لا قبر لها قصة أول امرأة جزائرية انضمت الى الثورة. قصة زليخة التي التحقت بالثوار في الجبال وهي في سن الأربعين. فبعد حياة حافلة ودراسة ثانوية متقدمة وعدة زيجات، هحرت بيتها وأولادها والتحقت بالثوار في الجبال. وفي عام 1958 اعتقلتها السلطات الفرنسية خلال جهادية، اختفت من بعدها تماماً ولم يعثر لها على جثة.
في هذه الرواية تنتصر جبّار للمناضلة الجزائرية وتكشف عن الغبن المضاعف الذي يلحق بالمرأة المقاتلة. فهي مستهدفة بحياتها عند الفرنسيين، وعرضة للتهميش والغبن عند رفاقها الثوار. فزليخة أول مقاتلة في صفوف الثور يتجاهلها الإعلام ولا يسمع باسمها وبطولاتها أحد حتى قدر لها الروائية أسيا جبار لترد لها اعتباره بعد عشرين سنة على اختفائها. تقول جبار في هذا المجال على لسان بطلتها: لقد كففت عن الاحتفاء بهم [الثوار] منذ زمن بعيد. منذ بدأت أرصد ما فعلوه بالثورة وبالاستقلال. وحول دافعها لكتابة هذه الرواية تقول آسيا جبار: لعل إحساسي بالذنب تجاه هذه المرأة هو ما دفعني إلى كتابة سيرتها، إذ أنني بعد الانتهاء من تصوير فيلم “نوبة نساء جبل شنوة” رأيت نفسي أهدي الفيلم لزليخة. يومها سألني كثيرون، من هي تلك السيدة التي لا أثر لها في الإعلام الرسمي؟ وفي ظني أن الرواية التي تأخرت ربع قرن كانت الإجابة على ذاك السؤال[4].
رضوى عاشور
رضوى عاشور رمز من “رموز الوطنية المصرية. خاضت الكثير من المعارك للتأكيد على حرية الجامعة وحرية البحث العلمي كطريق إلى حرية الوطن، وذلك من خلال عضويتها في الكثير من اللجان الوطنية”. وهي في رواياتها عابرة للأقاليم. تكتب عن فلسطين ولبنان والأردن والأندلس بنفس العاطفة والاهتمام الذي تكتب به عن مصر. ومن أعمالها المتميزة:
ثلاثية غرناطة (1998)[5]
تتألف الرواية من ثلاثة أجزاء: غرناطة، مريمة، الرحيل
يبدأ الجز الأول بمشهد سوداوي (امرأة عارية تظهر لأبي جعفر في سواد الليل) يمهد للحدث الجلل سقوط غرناطة حين تنازل أبو عبد الله محمد الصغير عن ملكه لملكي قشتالة وأراجون. يدور السرد في أغلبه حول أبي جعفر وعائلته: حفيداه حسن وسليمة وزوج حفيدته سعد وزوجة حفيده “مريمة”. ويحكي معاناة العرب وما لاقوه من إذلال ومهانة وإجبار على التنصير او الترحيل. كما تحكي صمود العرب وانتفاضاتهم بين الحين والآخر على القشتاليين. وتشبثهم بجذورهم وإصرارهم على نقل الكتب العربية وحفظها في مخابئ كي لا تطالها أيدي القشتاليين بالحرق ومعاقبة مقتنيها. وينتهي بحرق سليمة بتهمة الكفر والسحر والتواصل مع الشيطان.
يسلط الجزء الثاني الضوء على مريمة ودورها في المحافظة على الهوية العربية وزرع القيم العربية في نفوس أبنائها وأحفادها. تربي عائشة ابنة سليمة بعد موت أمها وتنشئ حفيدها هشام على القيم العربية الأصيلة. ويسرد الجزء الثالث حياة عليّ التعسة وجريه وراء حب فاشل والعرب يُرحَّلون عن المدينة وينتهي برفض عليّ للترحيل. لقد اكتشف أن الموت هو في البعد عن الأرض لا بالرحيل عنها. وكان ذلك بعد مئة سنة من سقوط غرناطة و350 سنة من سقوط بلنسية
تمثل مريمة النموذج التنويري في الرواية، وهي شخصية نامية، تسهم المأسي الاجتماعية والسياسية التي عاشتها في بلورة وعيها بذاتها وهويتها وانتمائها الديني والعرقي. وانسجاماً مع هذه الشخصية الصاعدة تلعب مريمة دوراً فاعلاً في جميع مراحل الرواية ، فهي في بدء حياتها امرأة عادية تنجب الأطفال، تسهر على راحة بيتها، تصنع الكعك وتبيعه في السوق، وتستقبل نعيم العائد بعد غيبة طويلة، وترعى البستان الموجود بالدار، وتتعلم القراءة عندما يسنح لها وقتها بذلك. وككثير من نماذج عاشور النسائية تظهر القوة الكامنة في شخصية مريمة عند الشدائد، عند صدور القرار الإسباني بتخيير العرب بين أمرين: إما التنصير أو الترحيل. وفيما عائلة أبي جعفر مرتبكة حائرة أي القرارين تسلك؟ تنبري قائلة:
“لا نرحل، الله أعلم بما في القلوب، والقلب لا يسكنه الا جسده، أعرف نفسي مريمة وهذه ابنتي رقية، فهل يغير من الأمر كثيراً أن يحمّلني حكام البلد ورقة تشهد أن اسمي ماريا وأن اسمها أنَا. لن أرحل لأن اللسان لا ينكر لغته ولا الوجه ملامحه. تطلعوا إليها في دهشة، فمن أين أتت مريمة الصغيرة بهذه الحكمة؟ وكأنها طاقة أشرعتها فتدفق الضوء جلاء في الحجرة المظلمة، قرروا البقاء”. (121)
ومن ثم يتوالى السرد ليكشف لنا ملامح هذه المرأة، فإذ هي عفوية بسيطة وطنية بالفطرة. تتصدى لزوجها حسن عندما أبدى رغبة في عدم استقبال زوج اخته سعد الذي لئلا يثير شكوك االسلطات القشتالية بإيوائه واحداً من ثوار الجبال:
“إسمع جيداً يا حسن، وانظر جيداً. ها هو كتاب الله، وها انا أقسم عليه. اقسم بالله تعالى أنك يا حسن لو تحدثت بهذا الموضوع مع سعد أو صرحت أو ألمحت فسأترك انا البيت قبله ولن أدخله أبداً ما حييت” (223). وهي المتماسكة سريعة الخاطر عند الشدائد، تحول مرارة حكم القوي على الضعيف الى ضحكات. فنساء الحي يتداولن ما تقوله مريمة بل ملل ولا كلل وكل حكاية منها تملأهن بهجة وحبوراً وتضيء الساعات الموحشة بالفكاهة والضحك. ومما تناقلته ألسنة النسوة ذهابها إلى معلم المدرسة التبشيرية لتقنعه بعد ان استشاط غضباً لرؤية عورة ابن جارتها بأن أبناء العرب يولدون هكذا، وإن لم تصدقني يا سيدي المعلم فاطلب من اي واحد من اولئك الصغار أن يخلع سرواله فترى بنفسك. هكذا أولادنا نحن العرب يخلقون بشعر أسود ولا تؤاخذني محرومين من تلك الزائدة التي يولد بها أطفالكم (153).
وهي المؤتمنة على التراث: ترعى البستان الموجود بالدار، وتحفظ في صندوق عرسها مخطوطات الجد أبي جعفر النادرة، وتدفن مع سليمة كتبه كي تحميها من الحريق. وهي الحاضنة للأبناء عندما يغيب الآباء فقد اعتنت بعائشة بنت سليمة بعد ان أحرقت أمها بتهمة السحر والشعوذة، كما ربت حفيدها عليّ بعد موت والديه وأنشأته على حب العرب والإسلام والتشبث بالجذور
لا تقفز عاشور بمريمة فوق شرطها التاريخي فهي رغم تميزها وقوتها وحسن تصرفها في الشدائد، تضعف ساعة موتها فتناجي ربها قائلة:
“أنا مريمة ابنة أبي إبراهيم منشد سيرة نبيك ومصطفاك وصحابته الأكرمين، ولدت يوم كان القشتاليون على أبواب غرناطة يحكمون الطرق عليها، والناس جوع، والزاد شحيح، ولكن أبي كان رجلاً صالحاً، لم يقل: هذه الوليدة تحمل لي نحساً، ضمّني وأنشأني في ظله الصافي. ولما دخلت دار أبي جعفر فرض القشتاليون على العباد تغيير دينهم، فلم تقل أم جعفر دخلت علينا العروس والمصائب في أذيالها. حملت وهناً على وهن كباقي النساء، وربيت الصغار وكبرتهم. ما سرقت يوماً، ما خنت أمانة، ما كذبت قاصدة شراً بأحد من العباد، فلماذا تلوح لي بنصرة في المنام أتعلق بها وتطلق الأمل من صدري ليحلق عالياً، ثم تسقطه فأعيش بدلاً من الحسرة الواحدة حسرتين؟!».
وتكون نهاية مريمة بعد صدور قرار ترحيل جميع العرب من غرناطة. ودّعت مريمة المكان بالدموع، وما لبثت أن ماتت خلال الترحيل ودفنها الحفيد عليّ، في العراء.
كتبت عاشور ثلاثية غرناطة برؤية تثويريه واضحة ودعوة إلى التشبث بالجذور وعدم الذوبان في ثقافة المحتل. وصفت سقوطَ مدينة بلنسية عام 1236 ميلادية وكيف استطاع أهلها الحفاظ على جذورهم ومعتقداتهم وعاداتهم وهويتهم بل والاحتفال بأعيادهم الدينية رغم المضايقات والملاحقات. وقارنت بينهم وبين أهل منطقة آراغون الذين غرقوا بالاستلاب والتغريب. ولا يخفى ما في هذا العمل من إسقاط على الحاضر وتحذير للمجتمعات العربية المتفرنجة من الذوبان في ثقافة الغرب المتفوق. تقول على لسان أحد شخصياتها:
“استولى الروم على بآلنسية عام 1236، اي منذ ثلاثمئة وخمسين سنة. تدخل العاصمة فلا ترى من أثر أجدادنا شيئاً، وكأنهم لم يسكنوها ويعمروها أكثر من خمسمئة عام، ورغم ذلك حافظنا على أنفسنا، وها أنت ترى أهلنا في كل مكان من المملكة لا يتحدثون إلا العربية، ويصومون رمضان ويحتفلون بخميس الله والعيدين، ويحيون ذكرى المولد النبوي، وعاشوراء . . . [في آراغون] يختلط عليك الأمر. ترى ابناء العرب فلا تعرف لهم ملة ولا ديناً. يتحدثون لغة الروم ويلبسون مثلهم ويسلكون سلوكهم، والقلة الغيورة على دينها لا تجد من يعلم أولادها الفقه واصول الدين”: (478-9). قدمت عاشور في هذه الثلاثية، رسالة تنويرية تثويرية، فشخصياتها، مريمة على وجه الخصوص، نماذج تحتذى في الوطنية والشجاعة والتماسك وحسن التصرف عند الشدائد.
في رواية الطنطورية (2014)، نسبة إلى قرية الطنطورة في شمال فلسطين، التي جرت فيها مجزرة مروعة على أيدي العصابات الصهيونية عام 1948، تحكي عاشور من خلال رقيّة الطنطورية قصةَ تشرد الفلسطينيين ونضالهم من أجل استرجاع وطنهم. موضوع سبقها إليه الكثيرون ولكن رواية عاشور تتميز بتركيزها على المهمشين في المخيمات وعلى إبراز دور المرأة الفلسطينية في الحفاظ على فلسطين حية في القلوب والعقول، وتبيـّن القوة الكامنة في الذات النسوية التي تبرز في الشدائد، فرَقيّة الطفلة التي أنضجتها النكبة قبل الأوان، كانت أكثر تماسكاً أمام المأساة من البالغين. تقول ابنة العاشرة في رحلة النزوح من الطنطورة إلى لبنان:
“وصلنا الى صيدا في أول شهر شباط من العام التالي، وحين لقينا عمي وخالتي كنت أرتدي الأثواب الثلاثة، ثوباً على ثوب، وعليها السترة الصوفية التي اشترتها لي أمي من إربد. وكان أول ما نطقت به من الكلام منذ غادرنا بلدنا هو ما قلته لعمي همساً: أبي وأخواي الاثنان قتلوا. رأيتهم بعيني على الكوم. كانوا بين مائة أو ربما مائتي قتيل، ولكنهم كانوا على طرف الكوم، رأيتهم. ستقول لك أمي إن الصادق وحسن ذهبا الى مصر، وإن أبي في الأسر. أنا رأيتهم غارقين في دمهم على الكوم”.
وإذ ننسب رواية الطنطورية إلى الأدب المقاوم، فلأنها تثبيت لذاكرة فلسطين وتوثيق لمعاناة ونضالات شعبها، وفي هذا فعل مقاومة يتصدى للمشروع الصهيوني الذي يسعى إلى إمحاء وطمس فلسطين من الذاكرة التاريخية بعد أن نجح في إمحائها من الخرائط الجغرافية. وهو أيضاً فعل تثوير وحض للفلسطينيين على عدم التخلي عن حلمهم مهما جارت عليهم المنافي ومهما تعرضت قضيتهم للنكسات.
قدمت رقية رؤيتها هذه من خلال رقية الطنطورية شاهدة مأساة الطنطورة طفلةً، وحاضنة الهوية أمراة وأماً. حرصت على تماسك العائلة في زمن النفي والضياع، ومنعت عنها التفكك والتشرذم. تقلبت في عدة منافي، انتقلت من مخيم في لبنان إلى أبو ظبي لتعيش مع ابنها الصادق، وعاشت مع ابنتها مريم في الإسكندرية خلال فترة دراستها الجامعية. وفي كل مكان حلت فيه، كانت تحكي بعفوية وصدق حكايات الناس البسطاء. حملت القارئ إلى قلب العائلة والمخيم ومن خلال قصة هذا وتلك، وثقت النكبة وثبتت فلسطين في عقول الأجيال الناشئة بطريقة ذكية ربما تكون أفعل من عمل المؤرخين. والجديد عند عاشور هو توثيقها لأسماء فاعلة شديدة الحضور والتأثير في المشهد النضالي الفلسطيني كغسان كنــفاني ومعــروف سعد وأنيس صايغ وناجي العلي. ولناجي مكانة خاصة في قلب وعقل رقية، فرسومه الكاريكاتورية حرز ثمين تحرص عليه وتحـفظه في حقيبة يدها.
تلاقت رقية رضوى عاشور مع أم سعد غسان كنفاني بشجاعتها وصمودها وكبريائها الوطني وافترقت عنها في أنها كانت نداً. هي لم تلحق ابنها إلى المعركة كما فعلت أم سعد ولكنها “ربت العيال” وصنعتهم رجالاً ونساء فاعلين في مجتمعهم لا مجرد لاجئين مهمشين أذلاء يعيشون على ما تقدمه المنظمات الإنسانية من إغاثة وإعاشة. وهي ليست مثل أم سعد تطوّر وعيها مع تطور القضية الفلسطينية وإنما نضجت فجأة كما نما طفل غسان كنفاني في “أرض البرتقال الحزين”. أنضجتها مذبحة الطنطورة. ورقية لم تكن نموذجاً يحتذى ولا تفوقت على نساء المخيم بوعيها الثوري كما في أم سعد، بل كانت ككثيرات من نساء المخيمات اللواتي تحملن سطوة الأحداث الكبيرة وتعاملن بحكمة وشجاعة مع الثورات والانتفاضات “اللواتي كنّ ضعيفات مرتبكات في أول عهدهن باللجوء ثم صلب عودهن وتخطين المأساة وعدن الى ممارسة الحياة، ربيـّن ما تبقى من “العيال”، كبّرن الصغير، وروين له ما ينتظره في يوم قد لا يكون بعيدا”[6].
تلخص عاشور رؤيتها التثويرية المحرضة بمشهد ختامي يدعو إلى استمرارية النضال وتوارثه حتى تعود فلسطين. وتفصيله، أن رقية تذهب مع رفيقاتها وجاراتها في رحلة إلى الحدود الفاصلة بين لبنان وفلسطين حيث يلتقي فلسطينيو المنفى بإخوانهم فلسطينيي الداخل. يهزها المشهد: أصوات تعالى من خلف السياج: أنا من الطنطورة، انا من عين غزال، نحن من اللد جئنا من شحيم. نحن من سخنين، جئنا من الغازية نحن… ثم فجأة تمتلئ السماء بالبالونات بعضها كتب عليها اسم فلسطين وبعضها الآخر حمل أسماء القرى الفلسطينية، يتعبها الفرح، تقعد على حجر فيخيل لها أنها تسمع صوت ابنها حسن فتتساءل، لماذا حملها الخيال الى حسن دون باقي الأولاد؟ تقفز من مكانها. . . ليس خيالاً إنه حسن وزوجته والأولاد وعلى ذراع الأم ابنة في الشهر الرابع. يحملها رجل طويل من فوق السياج ويناولها لرقية. “رقية الصغيرة” يا أمي يقول حسن. تأملت رقية الجدة رقية الحفيدة بفرح ودهشة. ارتبكت!. . ماذا تهديها؟. . . لم تر أثمن من مفتاح بيتهم المعلق في رقبتها منذ عام المجزرة. ألبسته عنق رقية الصغيرة وقالت بصوت عالٍ: مفتاح دارنا يا حسن هديتي إلى “رقية الصغيرة”.
“تبرز المرأة في روايتَي رضوى عاشور [الطنطورية وثلاثية غرناطة] ناضجة ومسؤولة، تتشارك المأساة مع الرجل، وتتحمل أحزاناً بلا حصر، وتأخذ حظها الوافر منها، تماماً مثل شريكها، بل وتحاول أن تعدل الحال المائل حين يغيب السند، لأسباب مختلفة، فثمة شخصيات نسائية غنية بالتفاصيل، صاحبات أيادٍ خضراء، ينبتن النعمة حيث حللن، وكان لهن الدور الأبرز في مسار الأحداث، والأخذ بزمام المبادرة في ثلاثية غرناطة، والطنطورية، وليس الاكتفاء بأدوار «الولايا» المتفرجات على الأحداث، والساكبات للدموع فحسب. وفوق ذلك تظهر المرأة وكأنها الحارس الأمين على الذاكرة، خزانة الخرائط المفقودة، وكتابها الحي المسؤول عن توريثها لأجيال ولدت في الشتات”[7]. (وللبحث صلة)
[1] للمزيد بنظر في: بشير مفتي، “روائيات جزائريات ينحزن للكتابة اولاً – والأنثى ثانباً”، بكل وضوح، الأربعاء، 16 أكتوبر، 2013،
http://bekolwodoh.blogspot.com.au/2013/10/blog-post_1701.html
[2] أشاع الفرنسيون أثناء استعمارهم للجزائر، ثقافة تحقير اللغة العربية على أنها لغة المغلوبين الذين يأتون في درك السلم الاجتماعي. وفي عام 1923 أصدروا قانوناً يدعم هذا التوجه، فأعلنوا اللغة العربية لغة أجنبية، وشجع التربويون استبدال الأبجدية العربية باللاتينية، بدعوى أنها أكثر مناسبة للحياة العصرية. وقد وعى الجزائريون قيمة اللغة في تعزيز الهوية الوطنية، فكانت عملية التعريب جزءاً هاماً من برنامج الثورة الجزائرية بعد استقلالها عام 1962،
Christine Souriau, “Arabisation and French Culture in the Maghreb”, in, Decolonization and After: The French and the British Experience, ed, W.H. Morris-Jones and George Fisher, London: Frank Cass, 1980, p. 321, mentioned in, Barbara Harlow, Resistance Literature, New York & London: Methuen, 1987, p. 22)
[3] كريمة الإبراهيمي، “آسيا جبار:سردية القصة والفيلم”، عود الند، عدد/77،
http://www.oudnad.net/spip.php?article560
[4] ابراهيم العريس، “امرأة لا قبر لها، لآسيا جبار: نساء الجزائر في اختفائهن”، الحياة، الخميس 6 إبريل/نيسان 2017، (01: 0 بتوقيت غرنتش) النسخة الورقية
[5] رضوى عاشور، ثلاثية غرناطة، ط/5، القاهرة: دار الشروق، 2005، [1994-1995]
[6] محمد إسماعيل، “رضوى عاشور.. بين مريمة <غرناطة> ورُقيَّـة <الطنطورية>، الإمارات اليوم، 23 يناير 2013،
http://www.emaratalyoum.com/life/culture/2013-01-23-1.543321
[7] المصدر نفسه.