زمن عبد الحليم حافظ

شارك مع أصدقائك

Loading

فاطمة  المحسن

أهدى المخرج محمد خان فيلمه ” زوجة رجل مهم” إلى زمن عبد الحليم حافظ. كان بطل الفيلم رجل مباحث من المرحلة الناصرية، وبطلته ميرفت أمين التي مثلت مع عبد الحليم في فيلم من أفلامه الناجحة. لعل في الإهداء ضربة معلم كما يقول المصريون، فكيف لمخرج وهو يقارب مرارة الزمن الناصري، أن يتنكّر للجميل فيه، وبين أجمل ما انتجته تلك السنوات ظاهرة عبد الحليم حافظ . لعل الذي يستعيد اليوم صوت عبد الحليم حافظ، يستذكر تلك السنوات الخصبة في الثقافة المصرية التي مرت في زمن ملتبس، في ارتباك تلك الأوقات التي كانت تراكم فيها حصتها من زمن النهضة ولكنها تبدو وكأنها تودعه.
عبد الحليم حافظ كان يباغت عشاق أغانيه، فلم يكن مثل عبد الوهاب أو أم كلثوم، وحتى فريد الأطرش، فهؤلاء يبدون وكأنهم على ثبات في موقعهم، فزمنهم الشرقي متطاول، في حين كان إيقاع عبد الحليم سريعا و عجولاً، ولعله اكتمل في موت يشبه أغانيه الحزينة والمفرحة في الوقت ذاته، حيث يموت الحب فيها وهو في عز اكتماله، كان الحب في أغاني عبد الحليم حافظ ممكناً وممتنعاً، سهلاً ًولاذعاً حتى يبدو خلف الشباك أو وراء الباب، ولكنه رقيق وقابل للعطب.
أدرك عبد الناصر أهمية ثقافة الحب الشبابية التي تشيعها أغنية عبد الحليم، فسعى إلى إعادة برمجتها سياسياً، فكان بحكم صلته الوثيقة بحليم، يطلب منه أغنية ويضع الخطوط العريضة لكلماتها التي تناسب كل منجز جديد للثورة. وكما جاء في مذكرات محمد حمزة، مؤلف أغاني عبد الحليم الناجحة، ينصرف المؤلف والملحن والمغني إلى تلبية طلب الرئيس. لم تكن معظم تلك الأغاني بروبوغاندا خالصة، فهي محملّة بنكهة حضارية، وكلمات المديح مواربة ولا تصدم الذوق، وهذا سر شيوعها. كان عبد الحليم يدرك أن شعبية زعيمه لا تحتاج كلاماً ساذجاً كما فعل المغنون في أزمنة أخرى، ولعلنا لا نعرف إلى اليوم من كان يستمد من الآخر وهج العاطفة الجماهيرية، الزعيم أم المغني. بيد أن الزمن يبقى حكماً، سواء في عدله أو ظلمه، وهكذا ذهبت أغنيات عبد الحليم الوطنية إلى النسيان، مثلما ذهبت تلك الإنجازات، ربما كانت تلك الإنجازات تشبه أغاني عبد الحليم الموعودة بالفراق.
الحب في كل زمن هو صورة من صور الثقافة، ولعل مفهوم المجتمع عن الحب الذي تسجله الأغاني، هو سجلات سيرته السرية والعلنية، ولا يمكننا إدراك قماشة تلك الثقافة دون أن نعرف التباس الدورين الانفعالي والموضوعي في الحب، فالأول هو جماع الفطرة التي يعممها الذوق السائد، وفي أحيان أقل، الذوق الشخصي، والثاني تفرضه ظروف معينة، ففرق بين سطور حب تُكتب في مجتمع متوتر، وآخر مستقر، أو تلك التي تنتج وسط طبيعة باذخة وأخرى شحيحة، أو غنية وفقيرة، ولكن الخيال التأليفي والموسيقي يتخطى كل العقبات، فهل كانت أغاني الحب التي غناها عبد الحليم تتمثل مرحلة حضارية كان يعيشها المجتمع المصري والعربي عموما، أم كانت تتجاوزه؟ ربما يكون لعبد الحليم ونجاة الصغيرة وفيروز وشادية وسواهم من مغني تلك الأزمنة دور في برمجة مشاعر الحب عند الشباب، شأنهم شأن كل مغن جماهيري، ولكن كلمات تلك الأغاني تبقى صورة لحكايات المجتمع الذي أنتجها.
حكاية الحب في أغاني عبد الحليم حافظ تبدأ من منتصفها، فهو يعيش حلم الحب ويفسره بأوصاف تناسب طالبة مدرسة أو جامعة، شعرها حرير وعلى الخدود يهفهف! ولن تجد اليوم في شارع شعبي بمصر من تسير برشاقة وشعرها يطير مع الريح، فقد اختفت تلك الفتيات خلف جبة تستر شعرهن وجسدهن المتهالك وفقر ذوقهن، او انتهت تلك البساطة تحت أقنعة الأصباغ ومباضع الجراحين . تحاول السينما والمسلسلات المصرية تدارك خيبة شارع محمد علي في قلب العاصمة، حيث لن تجد سوى نساء سمينات ينضحن عرق الحر والغبار.
كنا قد نسينا نحن الجيل الذي نشأ مطلع شبابه على تلك الفترة التي تسمى ذهبية، ولم تكن ذهبية في كل أحوالها، ولكنها تغدو أكثر من هذا لو تعَلّق الأمر بحرية المرأة وذائقة الناس وعلاقات الحب، إذا قيست بالزمن الذي نعيشه، ومن علامات ذلك النسيان صورة المرأة المصرية بين جمهور المستمعين التي شاهدتها بالصدفة في أغنية لأم كلثوم، ربما سجلت أم كلثوم هذه الأغنية في الستينات أؤ السبعينات، استمعت إلى تلك المقاطع المملة التي تعيدها بإصرار كي أحظى بلقطات للجمهور، كانت نسبة النساء بينهم تزيد على النصف، ومعظمهن يرتدين أجمل الملابس وأكثرها أناقة. يا الله اين ذهبت المرأة التي تدخن سيجارتها في حدائق الجيزة وتضع ساقا على ساق؟ سيباغتها اليوم فيما لو حاولت، شاب متعطش للجنس أو آخر أخذ الورع منه مأخذاً.
كان العندليب الأسمر مثل زعيمه، الذي حظى بلقب مشابه، يتبادلان مع عشاقهما محبة حيية، فالسمرة التي يتكنى ويتغنى بها عبد الحليم حافظ وعبد الناصر، كانت شيفرة الجمال المصري الذي يتقاسمه الرجال والنساء دون خشية الإخلال بالأخلاق. وعندما ظهرت تلك الوجوه المتفحمة والمنتفخة الأوداج والتي تصرخ بالأغاني الهابطة، تغيرت شيفرات الجمال في مصر، فصورة المغني المسمى شعبولة ولا أعرف ما اسمه الحقيقي، مفزعة مثلما يفزع صوته المبحوح بالكراهية، فهو إعلان حرب على الحب، حتى وإن كانت دوافعه ساذجة.
لنتخيل عبد الحليم حافظ اليوم، عجوزاً يرتدي باروكة، كما يرتديها نجوم مصر العجائز، ويخضع إلى عمليات تجميل كي يبدو شاباً، فمن يستطيع أن يستمع إليه وهو يردد : فاتت جنبنا أنا وهو!
الجميل يكتمل بموته المبكر، كي يبقى شاهداً على عصر يشبهه
شارك مع أصدقائك