فاطمة المحسن
كيف ينظر الشاعر الذي يكتب نقدا إلى نتاجه الشعري، أو كيف يرى المحاول في تصنيف نوع الكلام الشعري أو النظر في الشعر وموجاته وأنواعه الى نتاجه الشعري، أو كيف يحتسب القارئ فنه الشعري مقابل ما يضعه من تنظيرات، وهل تنقص تلك الممارسة أو تزيد من مكانته الشعرية؟.
تتشكل هذه الاسئلة وغيرها في ظل توجه يسم مرحلة حيث غدا الشاعر مهتماً بوضع تصوراته النظرية موضع المجاهرة، سواء في محاولاته النقدية المتفرقة أو بإصداره الكتب التي يؤدي فيها وظيفة الناقد والمؤرخ. وكل هذه الاسئلة تفضي بنا إلى السؤال المركزي حول ما يمكن تسميته الثقافة الشعرية او الثقافة عموماً عند الشعراء أنفسهم، التي أضحت رهان الشعر الحديث بعد أنْ كانت الحافظة الشعرية والذكاء الفطري من أهم مزاياهم. فالشعر في العصور الغابرة كان التعبير المكثف عن ثقافة الوحدات الاجتماعية الصغيرة، والشاعر وفق هذا الاعتبار يجمع دور المغني إلى الكاهن، لأن الثقافة كانت تعني قوة الحدس والإيحاء والإلهام. وبقي الشعر يحمل المعاني ذاتها وإن زادت عليها متطلبات الثقافة المدونة ثم المرئية ثم الالكترونية، أعباء جديدة.ولا يبرز في الثقافة العربية الكثير من النماذج التي تبرهن على إمكانية الربط بين العملية النقدية والشاعر، فالشاعر في الغالب يكتفي بشعره حيث يختصم القوم جراه ويحتكموا. وإنْ حاول في الميدان النظري فهو يزج مزاجه وتخيلاته وحدوسه مثلما كان الحال مع أدونيس أكثر الشعراء الذين حظت دراساتهم عن الشعر بالإهتمام، في حين ينطلق النقد من مفاهيم العقل والعلم والموازنة. والحق ان الموازنة لم تغب عن نقد أدونيس ولكن هذا النقد بقي يتسم بطابعه الشعري. والمهم كانت اجتهادات ادونيس بين الشعراء العرب المعاصرين تشخص نموذجا للمثقف المؤثر في مرحلته، وهذا النموذج لايستمد مكانته من حضوره الشعري فقط، بل من فاعليته الثقافية المتعددة الأوجه.
ما أصدره شعراء المرحلة السابقة بمن فيهم أدونيس من كتب تجمع التنظير والتأرخة إى نقد الشعر، تدفعنا الى السؤال عن قدرة الشاعر أن يكون موضوعياً في إصدار أحكامه أو إمكانيته على تخطي نموذجه الشعري إلى عوالم أكثر رحابة.
لعل إعتراف ت.س. إليوت في نهاية مطافه التنظيري بأن الشاعر الناقد هو من يدافع عن نوع شعره، من أكثر الاقوال دلالة على المهمة التي تبقى ناقصة ومترددة بين النقد الذي يتطلب موقفاً موضوعياً وبين رغبة الشاعر في تكريس نوع شعره وذائقته وحساسيته وتعميمها وتزيينها إلى القارئ الذي يستهدف غوايته، العملية الشعرية هي في النهاية غواية وتوريط أو محاولة جذب القارئ نحو مواقع قول الشاعر.
لعل من بين نتاج الاحتكاك بالثقافة الغربية في عالمنا العربي، بروز ظاهرة الشاعر الناقد الذي يتبنى مدرسة في الكتابة الشعرية، مدرسة تضع أسبابأ وقواعد وأصولا. مدارس المهجر والديوان وأبولو والموجات الشعرية المتلاحقة ومنها الشعر الحر وقصيدة النثر، كلها كانت نتاج الاقتراب من عالم الشعر الغربي الحديث، ذاك الذي مازج درسه الأدبي بين التجربة والتنظير لها. فلم يكتف الشعراء في الغرب بأدوارهم كمنشدين فطريين، بل كان أكثرهم من مثقفي عصرهم البارزين، وتظهر قصائدهم كأنها التطبيق الممكن لتبنيهم أو لريادتهم موجات جديدة، ولقدرتهم على احتواء الأفكار والنظريات والفلسفات التي عاصرتهم. غير أن منظري الشعر من الشعراء العرب، في الغالب، هم الأقل حظاًُ في النجاح الشعري، عدا أدونيس ونازك الملائكة في نجاحها النسبي، ولدينا أمثلة بارزة وبينها امين الريحاني رائد الحداثة الأدبية العربية وواضع أصول الشعر المنثور، ولم تكن خلاصة جهوده التطبيقية في ديوان (الريحانيات)، الا الدليل البيّن على فشل الشعر الذي يحاول قبل الأوان إستباق الممهدات الممكنة لظهور الموجات الجديدة. ولم يبق في ذاكرة الأدب الكثير من شعر الشعراء النقاد من مدرسة الديوان وفي المقدمة منهم العقاد وعبد الرحمن شكري وابراهيم المازني، ويصح هذا التصور على شعر جبرا ابراهيم جبرا لاحقا ويوسف الخال وسلمى الخضراء الجيوسي وحتى محمد بنيس. وإنْ صحت المقولة التي تؤكد ان النقاد هم الفاشلون في ميادين الإبداع التي يكتبون عنها، فالشعر العربي يكاد ينفرد في مرحلة معينة بهذا العيب.
لعل عملية النظر في الشعر عموماً من قبل الشعراء أنفسهم ليست وليدة اليوم لا في التراث الشعري الغربي ولا العربي، وإن كان التراث النقدي العربي لايدرج تحت لوائه الشاعر المنظّر قدر ماكان الشعراء مصنفين للشعر على ماكان عليه أبوتمام، أو محكمين بين منشديه مثل النابغة الذبياني او محاولين في فن السخرية من الشعر وهو ينطوي على تقويم ذكي للشعراء، كما فعل أبو العلاء المعري في (رسالة الغفران). ولعل ابن المعتز هو أول من صاغ علاقة جديدة بين الشاعر وما مفكّرْ به في الشعر، ووضع جمالياته الخاصة التي تعد اختراقا للمألوف. ابن المعتز لم يكتف فقط بمبحثه المهم والأكثر تميزا في مرحلته عن فن البديع، بل عبّر عن رغبته في الدلو بدلوه النقدي في تصنيفه الشعراء ضمن طبقاته.
والحق ان تأريخ الاجتهاد النقدي العلمي عند العرب بدأ مع تطور مدارس النظر العقلي ومنها المعتزلة، ولم يظهر شاعر عدا ابن المعتز من كان متورطا خلال تلك المرحلة في جماليات الشعر. غير ان الشاعر المنظّر في الغرب ظهر منذ هوراس في منظومته (فن الشعر) وصولا الى عصر النهضة في القصائد التعليمية التي وضعت عن الشعر وأصوله.، وذاك تقليد استمر إلى عصرنا لحين ما أضحى أهم امتياز للشاعر ثقافته التي لا تتبدى فقط خلال شعره حسب ، بل في تنظيراته التي يجمع فيها الفكر إلى الفلسفة اإلى الفن ،غير اننا لا نعدم في مدارس الشعر الحديث من يجد في الشعر حاجة للعودة الى الاساطير والخيالات الطفلية، فقد وجه الشاعر البريطاني تيد هيوز وهو من مثقفي بلده، ضربة موجعة الى اكبر منظري الشعر الذين سبقوه ومنهم إليوت وسبندر ومن قبلهما وردزورث وكولردج، حين وصم تنظيراتهما بالعقم والبلادة ، كما كتب او قال في عدد من مقابلاته قبل وفاته بسنوات قليلة، مؤكدا على ان ادوارهما المتصنعة كّبلت الشعر البريطاني بالتعميمات.
الشعر في كل الأوقات يبقى طريقة للنظر في الحياة، والاسلوب الشعري هو نتاج ماتدركه الأزمنة العقلية لمنشديه من أفكار وتصورات عن العالم، وهو يمثل قيم مرحلته،فلكل مرحلة قيمها الجمالية وطرق إعرابها عنها،فالحب والبغض والحرب والبطولة والتسامح ومفاهيم القوة والضعف تختلف من عصر إلى اخر، وتختلف بالضرورة زمنيا زوايا النظر النقدي الى طرق التعبير عن تلك القيم ونسيج القول الذي يحتويها.على هذا لم يزدهر النقد الشعري بمفاهيمه الحديثة إلا في ظل نضوج وتطور الافكار والفلسفات الحديثة، أما طرائق فك اسرار الشعر وشيفراته فقد مرت بمراحل مختلفة، ولعل صمود المناهج النقدية القديمة فترة طويلة يؤشر الى ان حركة الافكار كانت من البطء ما استغرق التأمل في بعضها قرناً بأكمله كي تجد طريقها إلى الحياة والتكوينات الاجتماعية ونظمها وبالتالي تمثلاتها الادبية. وكان القرن العشرين مؤشرا لتسارع التبدّل في الأفكار والنظريات والفلسفات وبالتالي المناهج في قراءة الشعر،فنشأت المدارس المتداخلة في النقد وأسهم شعراء الغرب ربما أكثر من نقاده بحمية في بلورتها،فكان لهم الريادة في تبني التطبيقات النقدية والمدارس الفرعية التي ظهرت نتيجة لها.
تلك المراحل الشعرية اختصرت في عالمنا العربي، وساعد دور الشاعر كمتلقٍ غير مستوعب لتلك النظريات على احداث تلك الفجوة بين الشعر المثقف إن صح التعبير، والشاعر المثقف. القصيدة العربية الحديثة هي نتاج تثاقف مع الغرب قبل كل شيء، ولكنها لم تكن البرهان الساطع على ثقافة الشاعر الحداثية في الأقل.
ولعل التراث الشعري العربي الغني والمتنوع،كان من أهم العوامل المساعدة على احتفاظ الشعر الحديث بمؤهلات التفاعل مع الموجات الغربية وتطويعها وتطوير امكانية الافادة منها.مسعى القصيدة الحديثة منذ موجة الشعر الحر كان يرتكز على فكرة التثاقف بين الموروث التراثي العربي الاسلامي او المسيحي الشرق أوسطي وبين الموجات الغربية الحديثة،وكان هم رواد الشعر الحر انتاج قصيدة مثقفة تجمع المكّونين في نسيج متماسك، ولكن ذلك الاتجاه الذي تبدى عند السياب والبياتي لم يخض في تفصيلات ذلك التفاعل الذي بدا عفويا ويعتمد الحدوس والتجربة العملية أكثر من اعتماده على التفصيل المتأمل في مجرى جماليات ومصادر القول الشعري. وانصّبت تنظيرات نازك الملائكة في بداياتها التي صاغتها مقدمة لديوان (شظايا ورماد) على عموميات التنكر إلى الشعرية القديمة والمطالبة بالاختلاف والتخلي عن الجانب السلفي منها، ولم تخض في الموجات الغربية التي عاصرتها وشكلّت منطلق الاتجاهات الجديدة التي تبنتها وصحبها من رواد الشعر الحر، أما كتبها النقدية اللاحقة فكانت إنتكاسة في صبواتها الاولى وخروجها من معادلة الجديد الشعري.
المرحلة الثانية في الحداثة العربية أي مرحلة بيروت أبرزت دور الشاعر الناقد او الشاعر الذي يهتم بجماليات الشعر،فكتب النقد او أسهم في التنظير المجموعة الملتفة حول(شعر) ثم (حوار)، اعقبتها موجة اصدار البيانات الشعرية التي بدأت في العراق على يد الشعراء من الجيل الستيني،وبانحسار دور المجلات الادبية الفاعلة ومنابر النشر الحرة، وضمور محفزات الجدل والمعارك الادبية، تراجع مشروع الشاعر الناقد، ولكن هذا الدور يبدو الان في تفاعل جديد، ونتخيل ان أسبابه تختلف عن السابق،فليس هناك من مؤشر يدل على توفر منابر النشر الادبي تجمع المواصفات السابقة،كما ان الحياة الادبية العربية يشوبها الخمول والتعب والتشتت. وفي الظن ان الشاعر في دوره الجديد يجد بعض عزاء بسبب انحسار مكانة الشعر إزاء الفنون الاخرى وبينها الرواية. المهم الإصدارات النقدية للشعراء اليوم تدل بين ماتدل، على اهتمام الشاعر بدوره كمثقف ومجادل في العملية الشعرية وليس مجرد مساهم في ابداعها. ولكن السؤال الذي يبقى يلاحقه هو :كيف يقيض للشاعر أن يكون موضوعيا في نقده وتنظيراته إن كان الأمر يخص ما يعتبره جزءا من ذاته وعواطفه وذوقه، والسؤال نفسه ينطبق على الناقد ايضا،فهل بمقدورنا القول ان الناقد العربي أقل إنحيازا في أحكامه او أقل غلوا في رهاناته من الشاعر، أو اكثر سيطرة على هواه الايديولوجي ومصالحه الشخصية وصداقاته وبيئته وكل ماتحويه ذاكرته من عوائق تحول دون تحريك ملكته وثقافته في ميدان النقد بحرية وطلاقة؟. تصعب الاجابة عن هذا السؤال والنقد اليوم تحول وسيلة للإصطفاف المصلحي ولتوزيع الأوسمة على العاطلين عن الأدب.
ظاهرة الشاعر الناقد يحتاجها الأدب الحديث، ولكن تلك الحاجة تبقى مرتبطة بنوع النقد الذي يكتبه وبدرجة موضوعيته وقدرته على تغيير موقع الشاعر من متفرج عبقري على الثقافة إلى مثقف متعدد الاهتمامات لا ينحصر حقله الثقافي بحيز الموهبة التي جُبل عليها.