ياسمين إبراهيم
وما كنت أتصورُ أن البلادَ البعيدة تهِبُ أغرابها أُمّاً، بيدَ أنها فعلت.
“تعالى ننقُض ليك مُشاطك۱ ده” قالت، فجلستُ أرضاً وبدأتْ هى تفكُّ ضفائرى فى ذات الوقت الذى كانت تجدلُ فيه ضفائر قصصٍ طويلة .. متسلسلة ومثيرة تحملُ بساطةً وغرائبية فى آن وكنت فى داخلى أعجبُ، كيف تقدر أن تنداحَ من أقصى فرحِ القصة إلى منحدرِ حزنها بتواتُرٍ عجيب دون أن تحتاجَ إلى مُقدّمات تمهّدُ للإنتقالات الشعورية المفاجئة، لكنها تفعل ذلك بإحترافية “صانع العناقريب۲” .. يشُدُّ حباله بقوةٍ وجمال، موالفاً بين قوة الخشب ولين النسيج وموائماً بين الكُتَل والفراغات لمُنتَجٍ تشكيلى راسخٍ وعتيق.
“يا بِت، إنت الرز ده ما كبيتى ليهو ملح؟!”، عتابٌ ترافقه حركةٌ فى الشفاه ونظرة أنْ .. “طبيخ اليابا” فأسرعُ محاوِلةً تبريره بأن ” يا الله يا خالتى كوكب، معليش كنت مشغولة بالكتاب ده فنسيت”. التبرير الذى لا يروقها وهى المتمكّنة من كل صنعات الإهتمام بالآخر بجُودٍ يسبُقُ خطواتها المتعثرة ويغمرُ كل مَن تعرفه ..، فى الحق ومَن لا تعرفه أيضاً.
يداها الرقيقتان لا زالتا تحلّ الضفائرَ نازعةً (السلّة)۳ من شعرى القصير، تنسدلُ صورُ صوتها .. رمالُ الروصيرص .. لبلاب البيوت .. حصة الطبيخ فى المدرسة .. مُلاح أم دقوقة .. تعويذةُ الأمطار .. عواسة الكسرة .. سنجة ورفقة الجارات .. عُرس البنية السمحة .. وعويل البكيات .. الدامرقة٤ .. زوادة القطر .. الصاحبات القديمات .. القبيلة الأفريقية الأبنوسية .. خرزها .. دهن الكركار٥ .. الشمس .. السماحة .. السماحة .. و …
“شعرك ده تانى ما تنكشيهو فى الحفلات زى نكشتك ديك. هسة المُشاط ده ماله!”. “ده (إستايل) يا خالتى كوكب”، أضحك وأنا أعلم أن ال (إستايل) ده سيفتحُ باباً من الحكى، الوصف والإقناع لن أخرج منه منتصرة وأعلمُ أن ما خلف العتاب والوعظ قلباً كبيراً .. أكبرُ من هذا الشتات .. أكبرُ من تساؤلات الفراغ، وقصةً أطولُ صوتاً .. أطولُ من المسافةِ بين دارى وبابِك .. أبعدُ من نهايات الحكى .. وأجملُ من مُخيّلة البلادِ البعيدة.
فيا كوكب الزمان .. عليك وعلى كلّ الأمهات السلام.
هوامش:
۱ مُشاط هو الضفائر العديدة.
۲ العناقريب هى جمع عنقريب وهو سرير مصنوع من الخشب ومنسوج بحبال السعف.
۳ السلّة هى شَعرٌ إضافى خارجى يُستخدم فى جدل الضفائر.
٤ الدامرقة هى دخن مقشور، يُنشّف ويُطحن.
٥ دهن الكركار هو زيت شعر تصنعه النساء السودانيات بطريقة تقليدية.