التجريد سمة من سمات التسامي
عباس الحسيني
.———-
ربما كانت الموسيقى احد اكثر الفنون الانسانية تجريداً وبوهيمية، فالموسيقى وان ابتكرت تماشيا وتقليدا للصوت البشري وطبقاته وميول درجاته وتذوقه، وهو ما ينظر اليه في تنوع موسيقى الشعوب ، الا ان الفن الموسيقى ما برح يزداد تجريدا وغموضا عن الادراك الانساني المحط، وبحواسه المجرده التي نبه اليها الفيلسوف سقراط، في محاولاته تأصيل الوجود الحسي، وهي النظرية التي عدها المبدعون الاوائل في تناول القيم الموسيقية كنوع من التمرد الكوني في فضاء الوجود ، والاشارة الى الفيلسوف نيتشه وبحوثه في الموسيقى، التي شغلته لاعوام حتى اعتبر الموسيقار فاغنر ، المقرب اليه كاحد الهة الوجود الجمالي. ويبدو ان تعريف الفنان الاسباني بابلو بيكاسو ، هو الاقرب الى الذهن الانساني بقوله: ان الموسيقى هي لوحة متحركة، مضيفا: وان الرسم والتشكيل ما هما الا موسيقى ثابتة . والثابت والمتغير حسب بيكاسو هو عامل الزمن في الموسيقى ، اي الاشارات التي تتناغم فتجسد معنى في جمل دلالية تختلف من لحن لاخر ، ومن شعب لاخر ، ومن فن موسيقي بعينه ، الى فن اخر يزداد اختلافا وتعاليا . وتعد تجارب المؤلفين العرب الاوائل من الموسيقيين ، كتوليفات محمد السنباطي ومنير بشير وتجليات الملحن المصري عمار الشريعي هي اولى النماذج الناضجة في توليفات الجاز العربي والتي يمكن تأديتها بعدة صنوف من الالات الموسيقية وبذات المستوى المتفرد من الانتقالات اللحنية التي تمثل تكثيفا للمشاعر الانسانية والتي بدت في توزيعها مشابهة لاثار المتقدمين من الموسيقيين الغربيين الا انها تؤدى بلونها الشرقي حتى اصبحت بعض النغمات العربية في الموسيقى تقلد من قبل كثيرين ، ومن الموسيقي البريطاني الكبير ستينغ الذي استلهم الصحراء العربية وادخل جزءاً موال عربي على نغم النهاوند في اغنيته زهرة الصحراء وضمن البومه الصادر عام ١٩٩٩ يوم جديد تماما .
وضع كاظم الساهر تجريدا لحنيا في استهلال سمفونيته الخالدة انا وليلى ، وبسبب الشحنات المشاعرية ذات الاثر التراجيدي فقد اثر الموسيقار والفنان المتفرد كاظم الساهر ان يؤطر مقدمته بجمل مزجت طابع الاداء الاوبرالي في تناغم مقامي الكورد والنهاوند ضمن دخول آلة البيانو التي شرعت بالقيمة الاولى للحن الخالد في انتظار الدخول الغنائي المختلف تماما عن كل التراث الموسيقي العربي ، فالمقدمة التي بدات خالية من الايقاع المطمئن للالم الانساني في اعادته الى الزمن المتواتر والتي وضعها كاظم في جمل متباعدة، تشبه قدوم قدر ما ، وحدث جلل لا يمكن التعبير عنه انسانيا ، حتى في الخلفية التي تداركتها حركة الكمانات، لياتي صوت كاظم الساهر في قالب لحني متجرد تماما ومن جملتين غير مكررتين لذات التوليفه ، وهو تحليق فكري ، يشتت المستمع المتعطش الى نهايات الجمل وثراء التعبير مع دقة التصرف في قوله: واستسلمت لرياح اليأس راياتي ، والتي يخفض فيها درجة القرار ليوحي بالنزول التدريجي للاحباط تجاه الصمت ، وضمن بحور هادرة التجريد. تعد هذه الثيمة من اروع وادق المبتكرات اللحنية ضمن مقام شرقي سهل وطيع الانتقال. وقد حقق كاظم الساهر في هذا التجريد اثرا ابداعيا في اتخاذ القرار الصوتي قوة هادرة للتعبير بهدوء مكتنز محمل بشحنات حزن واكتئاب ستتحول فيما بعد الى صرخة عارمة في قول: ممزق انا لا جاه ولا ترف ، ثم يعود منظرا موسيقيا بقوله: يغريك في ، في تمحور حول النهاوند وعودة الى قوله : فخليني لآهاتي.
ولم تكن السمفونية التجريدية الخالدة انا وليلى اول واخر جهود كاظم الساهر في تطويع الموسيقى ونقلها الى مديات الغرابة والتجريد ، فقد سبق له ان وضع منهجا حديثا مطلع التسعينات في ممارسة الجمل الموسيقية ذات الفائض الدلالي حتى في الاغاني البسيطة والراقصة ومنها اغنية يالعايش انته ارض وانه بارض اخرى ، حيث يمارس متعته في وضع ضربات موسيقية يعاجلها بقطع زمني مقصود ثم يشرع في عزف مكملات الجمل وصولا الى الكوبليه. وفي اغنية راقصة اخرى هي نزلت للبحر يضع كاظم الساهر جمله غريبة سرعان ما يعابثها بحركات الكمانات التي تجهز على النغم وتهئ للمطرب الدخول الى الكوبليهات، وهو ما يوحي ايضا بدلالات التحرر والخروج الى البحر ومطبقا المعاني الشعرية ذاتها بقوله: نزلت للبحر مدري النزل قلبي … ليوهم المستمع بهدوء مؤقت سرعان ما يختمه داعبها بلطف ما تحمل القسوة . والملفت انه استعان بايقاع الجرك jerk الغربي حسب مصطلحات الموسيقيين العراقيين ليوحي بنغمية راقصة تخفي جملا غاية في التجريد والذكاء. ونلمح هذا التجريد في تراثنا السبعيني في المقاطع التي وضعها الملحن طالب القره غولي لاغنية البنفسج من شعر الراحل الكبير مظفر النواب وغناء صوت الارض ياس خضر ، حيث يظهر الگيتار بصوته المنخفض الهوائي ليفصح عن جملتين تتمردان في مقام النهاوند ، والذي يعاود اختلال الايقاع الشرقي الثقيل بعيدا السماعي الشرقي ، توقف تام وذكي للإيقاع ، سرعان ما يعيد دورته الحزينه نغم الة الاوكورديون، التي انقرضت وحل محلها الكيبورد ، والتي تعيد التجريد الى نسق الايقاع الشرقي ، ومن ثم الى السماعي الثقيل ، ليوحي لنا الصوت باستهلال ياس خضر بجملة المناداة يا حلم ، ثم ينادي واصفا ذات الحزن بليلة من ليالي البنفسج ، مع هبوط متعمد مبتكر بقوله: يا مامش بمامش …ويعاود الوقوف على المسرى اللحني المهيمن بقوله: طلع قلبي من طباعك ذهب. ولان المناخ الشعري الذي ابتدعه وانشئه ُ الشاعر الفذ مظفر النواب يبدو غريبا في تحويل وتجريد الشعر الشعبي باضفاء لمسات فن النثر عليه ، فقد كان لزاما على المتاثر به لحنيا وهو طالب القره غولي ان يضع محاورات توازي جمال وابداع هذا التصوير المتجرد في حرب زمنية متسارعة في اللحن من الالات القانون والگيتار والاكريديون وهي الالات صارخة التعبير لا تشبه الناي ولا الالات الريح ، وهي دلالات للتعبير عن فداحة المعنى وقتامة الحزن وان كانت مظلة مقام النهاوند الفرح والخفيف الظل هي البارزة على مجمل الانتقالات ، غير ان التجريد في التصوير اللحني طغى على عمل القره غولي الذي يمضي بايقاعات شتى وتحويلات مقامية وجمل متنافرة للتعبير عن مجاراة القصيدة الحالمة
بلحن متمرد .
على صفحات الزمان اللندنية-*-