ميريل ستريب

شارك مع أصدقائك

Loading

فاطمة المحسن

تودع ميريل ستريب عصراً كانت فيه الممثلة الأولى دون منازع، ولكنها لم تفقد مكانتها كفنانة لا تضارع في تاريخ السينما العالمية. فهي دخلت منذ ثمانينات القرن المنصرم، مجرات النجوم الأكثر شهرة وانتشاراً في العالم، وفي كل مهرجان سينمائي شاركت فيه، ينقسم النقّاد والجمهور على كل الجوائز، ولكنهم يتفقون على منحها الجائزة. ميريل ستريب تاريخ من الكفاءة يليق بممثلة من نمط جديد، ممثلة يلوح حضورها السينمائي مع قلة من زميلاتها كإمكانية لإرساء أصول جديدة في فن التمثيل النسائي، لعلها تقف على مبعدة من تاريخ أنجزته الشهيرات اللواتي خضن غمار هذه المهنة الصعبة. وتعيدنا الذاكرة إلى اسماء تعتبرها الصحافة والنقاد بموازاة ستريب من حيث قوة الأداء مثل جيسيكا لانج ودايان كيتون، بعد أن أفلت شهرة ممثلات من نمط ماريا شل وانجريد برغمان وآنا جيرود وجين مورو وكاترين هيبورن وغيرها من مؤديات الأدوار الصعبة.
دخلت ميريل ستريب مهرجان كان بفيلمها «صرخة في الظلام» ١٩٨٨الذي أخرجه الاسترالي فريد شيبس، ومثلت فيه دور أمّ تتهم بقتل طفلتها. ومع أن الواقعة المثيرة في هذا النوع من الأفلام تحتل الجزء الأكبر من اهتمام الجمهور، وتخيم ميلودراميتها على عناصر ومكونات الفيلم الأخرى، غير أن ميريل ستريب كعهدها في كل أفلامها سواء تلك العادية أو المميزة كانت قادرة على أن تكسب تلك اللحظات التي يقترب فيها المشاهد من فهم حالة شديدة الالتباس في إطار الواقع باستخدامها قدراتها في الأداء. فقد كان من غير المنطقي تبرير دوافع اجتماعية لإدانة أمّ بقتل أعزّ مخلوق لديها، ولكنها كممثلة جسدت الأمر كما ينبغي أن يكون عبر قناع التناقض الذي أجادته، لا القناع الظاهري فقط، بل القناع السيكولوجي الذي يظهر الأم في لحظات معينة، وكأنها مهيأة لقسوة غربية واستثنائية، مع ان هذا الدور يبدو صغيراً على هذه الممثلة، في سياق أدوار مركّبة أخرى أجادت العمل في إطارها. ميريل ستريب تستخدم كل ممكنات الذكاء والموهبة والعمل المثابر لتهيئة الفرصة أمامها للانتشار، وكسب الجماهير الأوسع، لعلها تتحرك خارج النظام المعتاد للنجومية، غير عابئة في أحيان كثيرة بامتيازاتها.
خلقت السينما العالمية نظاماً للنجوم كان من الصعب أن تفلت منه الممثلة، أية ممتلة، هذا النظام يعتمد فيما يعتمد مكونات الشخصية البرانية، ومن بينها، أو على الدرجة الأكبر أهمية فيها، جمالها الجسدي ونمط أدائها الواحدي الذي يدخل فيه صنّاع السينما مع وسائل الدعاية في لعبة تعميمه، أو لخلق تلك الشخصية ـ النمط التي يرفض الجمهور أية محاولة للخروج عنها. ولعل اللواتي سبقنها مثل مارلين مونرو وريتا هيوارث وبريجيت باردو وباربارا ستاتويك وصوفيا لورين، وغيرهن من شهيرات هوليود والسينما العالمية أوضح مثال على ذلك.
وفي عهود ازدهار السينما الحديثة، أصبح الأداء مكملاً لأهم عنصر في العمل وهو الإخراج الذي دخلت فيه السينما حقبة مهمة في تطوير تقنيتها وأساليبها وفي مضامين المواضيع وأبعادها. وبقي المخرج في الغالب صانع ممثليه ومحركهم مع أنه محكوم في معظم الأحيان بالشخصيات الجاهزة لمشاهير الممثلين، الأمر الذي أدى إلى التجاء عدد من مخرجي الواقعية، والواقعية الجديدة، إلى استخدام الجماهير والممثلين الخام كأبطال في أفلامهم، كما حدث في السينما الإيطالية إبّان ستينياتها. أو تعمّد بعضهم كهتشكوك مثلاً إعطاءهم أدواراً تناقض هيأتهم الخارجية أو ما اعتادوا على تمثيله. ولا نريد المضي بعيداً ونقول إن سنوات الثمانيات من القرن المنصرم قد خلقت سينما الممثل، ولكننا شهدنا خلالها تشكّل ظاهرة الممثل الفاعل، الممثل الذي لا يتدخل المخرج في تشكيل أبعاد أدواره فقط بل ويشارك هو في صياغة الحوار والأحداث، بل يعمد في أحيان إلى اختيار مخرجي أفلامه وكاتبي سيناريوهاتها. هذا النوع من الممثلين يشهدون على حقبة سينمائية تتكامل فيها عناصر العمل، وتتوازى مستوياتها وتتضافر للخروج بقيمة سينمائية تجتهد للوصول نحو الأجود والأفضل. من يتذكر أداء ميريل ستريب في «اختيار صوفي» سوف ينساه عندما يشاهد «العشب الحديد» أو سوف يتذكره بوضوح أكثر عندما يراها في «خارج أفريقيا» وعندما تتالى أمامه أفلامها التي توازي بعضها البعض لا في قيمتها كأفلام متميزة وحسب، بل بشغل ممثلة تجتهد كي تجد للدور أبعاداً على درجة كبيرة من التنوع. لعل موهبتها في مراقبة الدور بعيداً عن ذاتها الشخصية قد ساعدتها كثيراً في أن تكون ممثلة من طراز متميز، ففي فيلم «عشقية الضابط الفرنسي» تتوضح هذه الموهبة على الصعيد الفني التطبيقي، الذي يقترب أداؤها فيه إلى درجة من الشاعرية هي في صلب متطلبات دورها في التماهي مع شخصية البطلة. تلك المرأة المتوحدة التي تعيش عصرين يتمايزان بخصائض أخلاقية مختلفة، لكنها تجابهما بالأسلحة ذاتها.
بين العصر الفكتوري الذي تجري فيه جزء من القصة، والعصر الحديث الدي تعيشه ممثلتها داخل الفيلم ،رابط مشترك يبدو من الصعب أن تمثله فنانة أخرى غير ميريل ستريب. لعل حزناً خفياً يلوح بعيداً في أغوار عيني ستريب حتى وهي تمثل لحظات سعادة موهومة، هذا الحزن الذي يمتزج بلامبالاة متقصدة هو بالضبط من مقومات ذلك الدور المزدوج الذي تعيش فيه البطلة حصار عاطفة مستحيلة لا تجد معادلاً اجتماعياً للتعبير عنها.
عشيقة الضابط الفرنسي الذي مثلته ستريب عام 1981، وأدارها فيه كارل رايز، وشاركها البطولة الممثل الذي يوازيها حضورا جيرمي آيرونز توّج مرحلة تألق في حياتها السينمائية، وأهلّها لنيل أوسكار 1982 كأفضل ممثلة عن دورها في فيلم «اختيار صوفي» الذي أخرجه الآن باكولا ومثلت فيه نمط من الشخصية يختلف من حيث الجوهر مع نمط شخصية العشيقة الأولى.. استسلامها الظاهري في شخصية العشيقة وهدوء ردود أفعالها، فيه الكثير من التحدي الذي تجابه فيه امرأة الأشياء بطهرانية مترفعة تنطوي على سخرية خفية وإحساساً بقيمتها كامرأة وهشاشة الرجال الذين تقابلهم. أما دورها في «اختيار صوفي» فهو يجسد محاولة البطلة التطّهر من ماض فاشيٍّ ساهمت وعائلتها في صنعه حتى ولو ارتد عليها في النهاية وأصبحت ضحيته. لعل استسلامها الكامل للذوبان في شخصية اليهودي الذي قابلته هو جزء من قرار الهرب أو التطّهر الذي اتخدته. وهنا كان على ميريل ستريب أن تنتقل بين طقسين مختلفين في الأداء من أحاسيس الغربة والانتماء والفجيعة إلى الاستغراق في اللذة الحسية.
لعل أهم متطلبات الممثل السينمائي قدرته على أن يخلق له مدارات للجذب، لغة نفسية خاصة به، تتحول بما يملكه من أدوات تحليلية إلى منظومة من الإشارات والحركات والتأثيرات الصوتية. ما يحتاجه الممثل حسب انطونيوني «التعبيرية التي لا تعوضها تقنيات سينمائية من أي نوع». وميريل ستريب تمتلك هذه التعبيرية في الوجه والشخصية برمتها، ولكنها لا تكتفي بها، بل هي توظفها لتكوين مجالها الجاذب ولغتها النفسية التي تتفاهم بها مباشرة مع المشاهد دون أن يتكفل هذا المشاهد بمهمة اجتياز حاجز الوهم الذي اعتاده مع الكثير من الممثلين، أنها لا تهتم بالحركة الجسدية وتأثيرات القناع الخارجي عبر الإشارة الخفية، والأداء الطبيعي فقط، بل تتحكم بنبرة صوتها وبأسلوب نطقها للجملة. لقد كانت في «اختيار صوفي» تنطق الإنكليزية على الطريقة البولونية بعد أن اقنعت المخرج آلآن باكولا بلياقتها للدور الذي أراد في البداية أن تلعبه ممثلة من دول أوروبا الشرقية. لعل صوت الراوية النسائي في فيلم «خارج أفريقيا» رسخ جملاً كثيرة من هذا الفيلم في أذهان الجمهور. كذلك دورها في «العشبة الحديد» حيث اكتسب صوتها بحة المرأة المسنة المتداعية. وهكذا تلعب ميريل ستريب على الصوت والنبرة إضافة إلى الوجه والجسد لخلق تكامل في المؤثرات، موظفة ما اكتسبته من دراستها للمسرح وظهورها على خشبته
مع أنها لا تهمل فكرة الانتشار وتعزيز شعيبتها، غير انها لا تسعى إلا لإقناع مُشاهد متطلب يسعى إلى ما هو أبعد من مراحل الاندماج النفسي، بل لمن يحاول ملامسة قاع التناقص في الشخصية، وهذا سر ابتعادها عن التكرار. فهي تعمد إلى خلق نظام من الحركة مختلف من فيلم إلى آخر وتبحث عن متناقضات الشخصية الجوانية لتظهر صراعها وازدواج السمات المختلفة فيها. شخصية هيلين في «العشبة الحديد» الذي تمثل فيه دور متشردة إبّان الأزمة الاقتصادية في أميركا الثلاثينيات كانت تبدو ظاهرياً على النقيض من كل أدوارها، فهي امرأة تقترب من الموت بسنين التشرد والعوز التي تثقل كأهلها، ولكنها كانت بحق فرصة ميريل ستريب الذهبية لكي تقتنص دوراً يحتاج تعباً جديدا ليس إلا. تقول ميريل ستريب: «أوحى إليّ أحد المفاتيح الموسيقية العميقة الذي كانت تستمع إليه هيلين في القصة بشخصيتها، إذ عبّر لي من شكل جسدها الناطق بالحزن». ولكن هلين تختلف عن دور كارين في «سيلكوود» الذي مثلته عام 1983 وأخرجه مايك نيكولز والذي يحكي قصة احدى المناهضات للتسلح النووي والعاملة في مركز للإشعاع. تقول بأنها لم تنظر إليها كقديسة رغم أن ستريب نفسها كانت وقتها منشغلة بقضية السلاح النووي وحصلت على جائزة الحركة النسائية المناهضة للسلاح النووي، وتقول عن كارين التي ماتت بظروف غامضة ومثلت دورها : « كانت إنسانة حقيقية ومتناقضة، ولم تكن قديسة وهذا ما جعلني أحب الدور لأنني إنسانة متناقضة، فأنا أغيّر أرائي بين ليلة وضحاها».
ولدت ميريل ستريب، واسمها الحقيقي ماري لويز ستريب في مدينة نيوجرسي الأميركية عام 1949 لعائلة متوسطة، كان والدها مدير شركة أدوية ووالدتها مصممة إعلانات. عاشت طفولتها ومراهقتها في عزلة عن محيطها فقد ترعرعت وحيدة بين أخوين تكبرهما سناً، كما كانت فتاة سمينة تضع نظارتين على عينيها، وجسراً على أسنانها، وتملك أنفاً طويلاً يميل إلى الاعوجاج، ولكنها تخلصت من كل عيوبها وأصبحت إحدى جميلات السينما.
اكتشفت مواهب ميريل ستريب في كلية الفنون المسرحية بجامعة بيل في كونيتيكت ومنذ العام 1975 ظهرت خلال ثمانية عشر شهراً في ثماني مسرحيات كان من بينها لتشيخوف وبريشت وشكسبير، وأثارت انتباه النقاد. ومنها ذهبت إلى برودواي.
وفي عام 1977 قدمها أول مرة إلى السينما المخرج فريد زينمان مع جين فوندا وفاتيسيا ردغريف في فيلم «جوليا» الذي لا تظهر فيه سوى بدور صغير. وفي العام ذاته مثلت دوراً بارزاً في مسلسل تلفزيوني اسمه «المحرقة» عن المجازر النازية أيام الحرب العالمية الثانية. ثم اسند إليها مايكل تشيمينو عام 1987 دوراً في فيلم «صائد الغزلان» الذي وقفت فيه لأول مرة مع روبرت دي نيرو وجون هيرت، ثم تتالت أفلامها بعد أن أدت في «كرايمر ضد كرايمر» الذي أخرجه روبرت بنتون دور الزوجة التي تهجر بينتها وطفلها بحثاً عن ذاتها، فحازت لأول مرة عن هذا الفيلم أوسكار الممثلة الثانوية عام 1979، وكانت نداً لواحد من أفضل ممثلي السينما العالمية آوانذاك داستن هوفمن الذي نال عن دوره في الفيلم أوسكار الممثل الأول. «لقد كنا في عراك حول المشاهد إلى حد الخصام» هكذا يتذكر هوفمن دوره مع ميريل ستريب ولكنها تبتسم وتقول: «لم تكن تلك معركة، بل كانت في صلب تفهّم الدور ومعرفة أبعاده».. وبعد مرور حفنة من السنين يقول عنها هوفمن أنها تمثل صنفاً مميزاً بين الممثلات، لا تشابهها فيه أية واحدة، وشهادة هوفمن بحق ستريب ليست الوحيدة. فقد قال عنها مايك نيكولز الذي أدارها في فيلم «سكلوود»: «أنها أشبه ما تكون بغريتا غاربو لأنها ظاهرة لا تتكرر أكثر من مرة في جيل بأكلمه من الممثلين». وبعد عملها في فيلم «العشبة الحديد» أجابت عن سر قدرتها على إظهار أصغر الدوافع في حركة الجسد والوجه والصوت فقالت: «لا اتبع طريقة خاصة في التمثيل، ولا أملك سوى معارف تعلمتها من اساتذة مختلفين لكنها ليست تعليمات أضعها في محفظة عند الحاجة وانتقى منها ما أريد».
رشحت ميريل ستريب خمس مرات إلى الأوسكار ربحتها مرتين، وفي كل مرة تظهر فيها الجائزة تتذكر الصحافة ونقاد السينما ميريل ستريب التي تتفوق على حائزة تلك الجائزة مهما بلغت درجتها في الأداء وهذا ما حصل بوضوح في أوسكار ١٩٨٨ فقد كانت جودي فوستر التي حازت على الأوسكار مبعث استهانة من قبل عدد من الصحافيين لأن ستريب كانت هي الأجدر منها.
وميرسل ستريب رغم هالة الإعجاب تعيش بعيداً عن هوليود وحياتها الصاخبة، فهي تزوجت من نحات وعاشت معه في بيت منعزل في ريف كونيتيكت ، وكرّست جزءاً كبيراً من وقتها لتربية أطفالها، الآن اصبحوا شبابا. وهي داعية سلام معروفة في بلدها، وكان ترامب موضع سخريتها في غير مناسبة بما فيها الأوسكار. ورغم حذرها من التورط في الشأن السياسي حسب تصريحاتها، غير أنها تجد أن من واجبها الدفاع عن حق هذا الكون الجميل في النجاة من الدمار. تصف نشاطها المحموم ضد التسلح : «ارتباطي بالحركة عاطفي، رغم أنني لا أشعر براحة تامة للوقوف على منصة والتكلم أمام الجمهور في السياسة، ومع ذلك فأنا أمّ ولا أنقطع عن التفكير بأن عمر هنري (ابنها) سيكون 21 سنة في عام 2000، كما وأنني أرغب في أن أبقى حية بقدوم القرن القادم. ومخاوفي تقول اننا لن نخطو عتبة القرن الجديد إلا بتوقف ذلك المد من التسلح النووي».
نستطيع القول ان لهكذا نمط من الممثلات ذكاء يرتبط بمهنتهن، ذكاء تكمّله المعارف والاهتمامات التي تتعدى المطامح الشخصية إلى الكفاح من أجل إدراك قيمة الفن الأكبر، فهو كما تقول المكان الذي يضع فيه المرء كل أحلامه وجنونه وعواطفه.
No photo description available.
شارك مع أصدقائك