هاشم تايه
منذ (كشك خانم) قصيدته- الطّليعيّة- المفارقة التي أقلقتنا كثيراً أيّامَ قرأناها في أحد كتبه المبكّرة، واستفزّتنا بتعقيدها التأليفي، ونزوعها التّضليليّ المنفلت، ونحن لا نفتأ نقول (هذا شاعرُ تعمياتٍ، عسيرٌ فهمُه)، وقولتنا، هذه، وضعتْه تحت سلطان مجافاتنا، إن لم نقل نبذنا.
(جامع الأصداف) كتاب عادل مردان الأخير يكاد يكون تصفية حساب له مع الشّعر: لعلّه يقول- وقد بلغ آخر الشّوط – هذا ما منحتني إيّاه أيّها الشّعر، وهذه استجاباتي..
يمثّل هذا الكتاب سيرة شعريّة لصاحبه. سيرة تصف الطريق التي سلكها إلى اللّغة، والآلية المنشقّة التي انتخبها، ونَحَتَ بها إنشاءاته التعبيريّة. كما يمثّل- الكتاب- انفتاح تجربته، في كتبه الأخيرة، على وقائع الحياة (الجديدة). ويقترب (جامع الأصداف) من أن يكون كتابَ يوميّاتٍ تعرض أشكال تماسات الشّاعر مع محيطه، وردّات فعله اللغويّة على ما يقع حواليه. لعلّني أردت أن أقول إنّ لغته شهدتْ، أخيراً، تحوّلاً عادلاً دَفَعَها بمسافةٍ ما بعيداً عن تصلّبها الأدائي القديم، واستهلاكها رأسمالها، كلّه، في تمثيل ذات متعالية، مفرطة الاعتداد بما يسكنها، وحدها، من ظلال: “مُتفرّداً عن أقرانه/ طيلة اللّيل/ يُجسّدُ روحَ القرفصاء/ تحتَ الشّرشف”. ذلك ما كانه عادل مردان الذي سبق له أن استقلّ عن العالم لـ “جَوْربٌ أُطاعنُهُ منذ ثلاث دقائق…”.
تُشبه الآلية التي يكتب بها عادل قصائده الآليةَ التي يعمل بها مُرصّعو التّيجان بالأحجار الكريمة. إنّ عمله ترصيعيّ، أمس، واليوم، فهو لا يكلّ من التعامل مع مفرداته كأحجار نفيسة يصطفيها قبلاً، ثمّ يرصّها رصّاً على سطحه الكتابيّ، وعليها أن تعيش بالتجاور، كما أنّ عليها-هيَ- أن تُنشئ علاقاتها مع بعضها بعيداً عن رعاية الشّاعر. ذلك ما يفعله، عادةً، بعض الرسّامين: (إنّني أضع اللّون الأصفر حيثُ أشاء على سطح اللّوحة، وعليه أن يُقيم علاقاته مع بقية الألوان حوله). يقول بيكاسو.
هذه الآلية لعلّها وراء التواءات التعبير، وإعتامه، وليس بعيداً عنها هذا النزوع التجريديّ اللاهث خلف اللاتعيين، والعازف عن الاستضاءة بالبرهان الحسّي، وانعكاس هذا نجده ماثلاً في استخدام الشّاعر المصدر المنقطع عن الإضافة، لا الفعل، واسم الشيء مقطوعاً عمّا يُعيّنه:
“أشفعُ توجّسي/ بغضّ النّظر/ مرتبكاً عند القنطرة/ بينما النّباحُ يزحفُ/ على الجذع”. (ثلاثة مصادر عامّة تتعاقب: توجّس- نَظَرٌ- نباح. ثمّ نواجه الاسمين (القنطرة و الجذع) مقطوعين عن الإضافة إلى ما يُعيّنهما.
إنّ تعبيره يعيش في حالة تأجيل، وهو نتاج تفكيريّة مزمنة تُفضي، عادةً، إلى تأمّلية نافذة؛ فهذا التعبير لا يرتسم على سطحه الكتابيّ إلّا بعد نقله إلى تصوّرٍ ذهنيّ أوليّ يغدو مادةً، أو خامة عارضة ستخضع لفعل الشعر من أجل تأمين انتقالها إلى الفن. وهذا يعني أن التعبير لن يجد تكوينه إلّا مارّاً بثلاث نقاط قبل أن يصل إلينا مكتملاً: الواقع، فالتصوّر الذهنيّ، فالفنّ.
ويتصل بهذيْن النزوعيْن غريزة الشّاعر المتطلّبة التي تدفعه إلى توقير لغته، وتجعله كاتباً اصطفائيّاً مع مفرداته “يختار منها الجِياد”.
إنّ تعبيره المتعالي، المتأنّق، يتآخى مع طباعه، طباع الاستنكاف، والنّفور، والترفّع، والاحتراس، والتحرّز.
أمّا شعره فشعر حافات.. إنه هناك يترنح على الهاوية، هاوية الشّعر، ولم يعد بوسعه أن يحمل معه، وهو يشرف على الانهيار، إلا ما خفّ من أحمال ما رآه، وتصوره، وتكشّف له. إنّه الشّاعر العابر يمرّ خاطفاً، وعلى الأشياء أن تتخلّص من أحمال علائقها وتغدو التماعاتٍ مُشعّة من أجل أن يسمح لها بمرافقته: “دائماً/ يضطجعُ البَلَه/ في مقصورةِ الثّناء”.
وحتى في مستواها الذّهني الأعرق لا تحرمنا لغةُ عادل مردان من الحصول على استثارةٍ تهزّ أرواحنا، حتى لو كانت استثارةً مبهمة تُشبه تلك التي يُطلقها الرّقصُ النَّقَريّ: “مساءُ الظّلالِ/ أيّها المُلثّمُ بخرافةِ البيت/ كلماتي/ كلماتي العواهر/ تتعرّى في غرفةِ الضّيوف/ قلقي يُغرّدُ على الأريكة/ أنا كارزما/ ولائقٌ للنجوميّة/ عندما نسيتُها في الحمّام”.
في هذا الكتاب يتكيّف النصّ الشعريّ كبقعةٍ لغويّة مستدقّة، ملمومة على حياتها الخاصّة، تعرض طاقتها معزولةً عن نظيراتها من البقع في حيّزٍ محصورٍ بين بياضين، وقد حرّرت ذاتها من الامتثال لأيّ عنونةٍ موجّهة، (العنوان صار مجرّد رقمٍ تائهٍ بين أرقام). كلّ بقعةٍ تُمثّل ذاتيةً شعريّة هي لونٌ خاصّ يُثابر على منافسة غيره من ألوان البُقع التعبيريّة، والتواصل معها رغم احتراسه في موقعه وتحفّظه على تكوينه الخاص.
(كتاب جامع الأصداف) ابتهال الشّعر للشّعر. لغتُهُ خلاصةُ توقٍ إلى الجمال، واعتناقٍ لماهيته كفنّ، والدّفاع عنه ضدّ الأشباه:
“خُذْ نَفَساً أعمق/ أيّها الجمالُ، كُنْ هادئاً/ إنّهُ انسيابُ الحاضر/ فليكنْ!/ حتّى إذا تناهبكَ الأشباه”.