حاوره: محمد شعير
كانت حياته عبوراً دائماً. فبين بيروت ولندن وباريس ونيقوسيا كان ترحاله، حتى قرر الهجرة إلى أستراليا والاستقرار الدائم… هناك في البعيد حيث يعمل مديراً لتحرير جريدة “النهار” التي تصدر هناك. عمله في الصحافة العربية هناك أتاح له مع أسرته أن “نبقى نافذة مفتوحة على ذاك البعيد الذي أتينا منه وكنا، ولا نزال، نعتقد أنه جزء منا… إننا نحاول أن نبقى هناك ونحن هنا” كما يقول. وفي تنقله الدائم كان يريد أن يكون “كملاك مهاجر غير تارك إقامة… قد تكون مكاناً لخطيئة… غير مقترف خطيئة… غير مقترف إقامة”.
وفيما وصف بعض النقاد شعره بأنه “شعر الحياة” وصفه آخرون وخاصة في قصائده الأخيرة بأنها شعر العماء والعدمية، وبين الاثنين تحول إلى أكثر الشعراء حضوراً عند كتاب القصيدة الجديدة في مصر ممن اعتبروا قصيدته إنجيلاً لقصيدة النثر.
لسعادة عدد من الدواوين منها “ليس للمساء إخوة”، “المياه المياه”، “رجل في هواء مستعمل يقعد ويفكر في الحيوانات”، “مقعد راكب غادر الباص”، “بسبب غيمة على الأرجح”، “محاولة وصل ضفتين بصوت”، “نص الغياب” و”غبار”.
(المصادفة) هي التي رتبت لنا هذا الحوار، ففي موقعه على شبكة الإنترنت ترك عنوانه الإلكتروني. أرسلت له طالباً الحوار، ولم تكد تمضي دقائق حتى أرسل موافقته. وهكذا أرسلت الأسئلة وتلقيت الإجابات، أتبعتها بأسئلة جديدة.
* إذا تحدثنا في البداية عن تجربتك الشعرية. ما هي المكونات التي ساهمت في تشكيلها؟
– أنا ابن قرية وادعة بسيطة كان فيها الناس على وفاق وسلام مع بعضهم البعض ومع الطبيعة حتى الالتحام، إلى درجة كان من الصعب فيها تمييز شخص عن آخر أو تمييز شخص عن نبات.
تلك القرية شكلت المكون الأول لشعري، بمعنى استدعاء عالم شبيه بها، وبمعنى الصدمة من عدم وجوده.
اعتقدت أن في الإمكان، من خلال الكتابة، خلق عالم جميل يشبه تصوراتي لما يجب أن يكون عليه العالم وما يفترض بالحياة أن تكون، لكن الأمل اختلط بالخيبة. هذه الحالة قد تكون ظاهرة منذ مجموعتي الأولى “ليس للمساء إخوة”: حالة الطفولة المختلطة بالشيخوخة لدى “شاعر يتدرج من الشيخوخة إلى الطفولة وليس العكس” بحسب ما كتب الناقد اللبناني عصام محفوظ عن تلك المجموعة.
وأعتقد أن هناك مكوناً آخر لشعري هو السفر الدائم وعدم الاستقرار في مكان. أقصد حالة الاقتلاع وسؤال المكان الحاضرين بوضوح في شعري.
ما أريد قوله هو أن المكونات التي شكلت تجربتي الشعرية كانت حياتية وذاتية أكثر مما هي ثقافية، أي أنها كانت تجارب خاصة أكثر مما هي تأثرات بكتابات أخرى.
* وجودك البعيد في أستراليا هل عمّق اغترابك كشاعر؟ وما هي طبيعة العلاقة مع الثقافة العربية عموماً في ضوء المكان البعيد؟ وهل أضافت لك الغربة عناصر جديدة من نوع آخر؟
– أظن أن جميع الشعراء والكتاب مغتربون، لا بل منفيون. وربما الشعراء والكتاب العرب المقيمون في أوطانهم هم الأكثر غربة ونفياً.
المكان مسألة إشكالية معقدة. لا أعتقد أن هناك مكاناً يمكنك اعتباره حقاً مكانك. لم يعد لأحد مكان حقيقي. المكان، بهذا المعنى، لم يعد موجوداً.
والانتقال من مكان إلى آخر لا يعني بالضرورة أنك خرجت من المكان الأول وصرت في المكان الثاني. أرى أن المكان هو حالة داخلية أكثر مما هو مساحة جغرافية. والحالة الداخلية هذه ننقلها معنا حيثما ذهبنا، وهكذا لا نكون قد غيرنا مكاننا حقاً في انتقالنا إلى مكان آخر. المكان حالة نفسية، روحية. إننا نقيم في الداخل. نقيم في ذاتنا لا في المكان.
بالنسبة إلى إقامتي في أستراليا، لم أتخلص بعد من الشعور بأني أقيم في منفيين: منفى داخلي ومنفى جغرافي. غير أني حين زرت لبنان قبل بضع سنوات شعرت الشعور ذاته، أي أني في منفى داخل منفى. كان من المفترض ألا أشعر بهذا النفي إذ أني أعود إلى “وطني”. غير أن الوطن مسألة معقدة أيضاً وليس مجرد مكان جغرافي. وبالنسبة إلى الوطن العربي، فهو يحتاج إلى أمور كثيرة لكي يصير وطناً.
لا أعرف إذا كان مكاني البعيد عمّق اغترابي كشاعر. الأغلب أن الحياة نفسها هي التي تعمق هذا الاغتراب وليس المكان. أما علاقتي مع الثقافة العربية، بوجودي في أستراليا، فأنا على تماس معها من خلال الوسائل الإعلامية الحديثة التي جعلت العالم الكبير قرية صغيرة. غير أني أفتقد الجلوس مع الأصدقاء والتحدث معهم والنظر إليهم وجهاً لوجه. هذا الفقدان أعتبره خسارة إنسانية.
أعود إلى إشكالية المكان لأقول إن المكان يعني أيضاً اكتشاف الآخر. وكلما ازداد اكتشافك ازدادت الأمكنة التي تقيم فيها. الآخر المجهول هو مكان غائب من أمكنتك، وحضوره يستدعي اكتشافه. تماماً مثلما الذات المجهولة مكان غائب أيضاُ، ولا تكون تقيم فيها حقاً إلا حين تكتشفها حقاً. ربما هنا يكمن أحد الأسباب الأساسية للمنفيين الداخلي والخارجي.
* وما الذي ينقص بلداننا لكي تصير أوطاننا؟
– أمور كثيرة، في طليعتها الديمقراطية. فوطن بلا ديمقراطية هو وطن بلا مواطن، فيه فقط أسياد ورعية، وليس للرعية حق في محاسبة أسيادها إنما فقط الخضوع لهم. لا أرى يا صديقي في العالم كله بلداً متقدماً ليس لمواطنيه شأن في قراراته، ولا شأن في انتخاب رؤسائه وملوكه، أو في انتقادهم، أو تغييرهم. لا أرى وطناً في بلد يبقى فيه رئيسه رئيساً حتى الموت، ثم يتبوأ رئاسته الوريث أو الموصى به من دون أية عودة أو شأن للمواطنين في ذلك سوى، اللهم، الاستفتاءات الكاذبة. والوطن العربي ينقصه كذلك أن يكون في العصر، أعني أن يكون فاعلاً لا مجرد رد على فعل. وأن يكون فاعلاً يلزمه الكثير، تحديثاً وحداثة، والأهم أن يخرج من قمقم الماضي ومسلماته وماورائياته القاتلة للحاضر والمستقبل معاً.
فتش عن الحرب
* ألقت الحرب الأهلية في لبنان بظلالها الكثيفة على حياة وديع سعادة ومن هنا كان قراره بالهجرة إلى أستراليا؟
– الحرب كشفت لي أيضاً الكثير: الحرب اللبنانية أكدت أن ما كنا نعتبره وطناً كان مجرد حلم ووهم، وهي أحد الأسباب التي دفعتني لكي أبحث عن وطن لأولادي. بهذه النية هاجرت إلى أستراليا مع عائلتي في أواخر 1988، وصارت أستراليا وطناً لأولادي، وبقيت أنا مثل شجرة هرمة، اقتلعت من تربتها وغرست في تربة غريبة.
* ولذلك تكاد الحرب تطغى بمفرداتها على تجربتك الشعرية وتظهر بشكل كبير في دواوينك؟
– الحرب في شعري حالة عامة تنسحب على الخاص، وحالة خاصة تنسحب على العام. هي ليست فقط حرب مدافع تنهمر فتبيد ناساً وجماداً، بل كذلك حرب روحية، تندلع في الداخل، في الذات الإنسانية وتبيدها أيضاً.
من الحرب التي في الخارج حاولت الإطلالة على الداخل، وكانت هناك إبادة في الجهتين معاً. حاولت رؤية الذات من قلب النار، ورؤية النار في قلب الذات. وإذا كان هناك أشخاص ذكرتهم في شعري، فلأني حاولت أن أعيدهم إلى الحياة.
* ولهذا تلعن في ديوانك “غبار” اللغة والذاكرة والرغبة والمعرفة… ترى أن التخلي عن هذه الآليات يعني ميلاد إنسان أكثر حضوراً وجمالاً. هل كانت الحرب وحدها بكل ما أثير حولها من أفكار وإيديولوجيات مفجراً لهذه الرؤية؟ أم أنه الملل من الحياة الإنسانية التي أثبتت بعد هذا الطريق الطويل أنها لم تبتعد خطوة عن همجيتها الأولى؟
– ليست الحرب اللبنانية حصراً ما أوصلني إلى هذه الرؤية العبثية والإلحادية الحادة. الحرب اللبنانية هي مجرد فصل واحد من حروب كثيرة أخرى، ظاهرة حيناً وخفية أكثر الأحيان، تودي جميعها إلى الدمار والإبادة والعبث. هناك حروب باطنية بشراسة أعتى المدافع وربما أشرس. البشرية سلكت طريق هذه الحروب منذ الخلق الأول، وتقدمت حثيثاً في مجالات القتل المختلفة.
ذاكرة التاريخ هي إحدى أسلحة هذا القتل. فالتاريخ سجّاننا وجلّادنا. إنه البائد والمبيد مسجوناً فينا.
الرغبة جلاد أيضاً. فمن يرغب يصير ضحية رغبته. يصير ضحية استحالة تحقيق رغبته وواقفاً في فراغ. أما تجاوز الرغبة فهذا هو العبور العظيم.
والمعرفة هي الشك وليس اليقين. ومن يعرف يقلق وييأس ويهلك.
في نسيان كل شيء سعادة إذن. لكن النسيان يستدعي الانشقاق والانحراف. يستدعي ردم ذاكرة التاريخ، وذاكرة الرغبة، وذاكرة المعرفة. يستدعي انشقاقاً عن تركيبة الإنسان ذاتها وانحرافاً عنها وخلق تركيبة جديدة… فهل هذا ممكن؟
حروب داحس والغبراء
* منذ الماغوط وحتى الآن تعتبر الشاعر الأكثر تأثيراً في قصيدة النثر المصرية… ما الذي يربط بينك وبين الماغوط على مستوى القصيدة؟ وما علاقتك بالمؤسسة الشعرية العربية: الماغوط، شوقي أبي شقرا، أنسي الحاج، أدونيس… فضلاً عن علاقتك بزملائك من الجيل نفسه: سركون بولص الذي يوحدكما نوع من الغربة، وعباس بيضون…؟
– أشعر بقرابة روحية مع محمد الماغوط. الماغوط كتب بشرايين قلبه وليس بيده، وبساطته الإنسانية العميقة أجادت الاختراق. وما يجمعني مع محمد الماغوط هو الرصيف، هناك حيث يعبر الناس. الرصيف والزوايا الجانبية المعتمة، وليس المركز والأضواء.
الشعراء الذين ذكرتهم يشكلون في رأيي، مع شعراء غيرهم، المدخل العربي الحديث إلى الشعر كما أفهمه. فأنا لا أرى شعراً في المديح والهجاء والبلاغة والمغالاة والمناسبات وغيرها من التي وسمت الشعر العربي قروناً طويلة. لا أرى شعراً في الكلمات المضخمة والأقوال الاعتدادية بقدر ما أرى فيها تضليلاً للشعر ولحقيقة الذات الإنسانية. معظم الشعر العربي اعتاد المغالاة، معنى ومبنى، منذ الجاهلية حتى الستينات من القرن الماضي. لا أجد نفسي متفاعلاً مع هذا الأسلوب. أجد فيه نوعاً من الكذب لا أتعاطف معه. ظلّ معظم الشعر العربي أسير ذهنية سلفية وقتاً طويلاً. في النصف الثاني من القرن الفائت بدأ يخرج إلى الحداثة، وأقصد الحداثة بالمعنى المفهومي وليس بالمعنى الشكلي فحسب. أنا أرى أن الشعر العربي الحقيقي بدأ منذ ذلك التاريخ، أي حين بدأ يتخلص من السلفيات والماورائيات والتقاليد وما يسمى ثوابت ومحرمات وما إلى ذلك.
* حسمت قصيدة النثر في بيروت منذ أكثر من خمسين عاماً وحتى الآن ما زالت تحاول اكتساب شرعيتها في بلدان أخرى. في ظنك لماذا هذا الجدل حتى الآن حول شرعية هذه القصيدة في بعض البلدان العربية؟
– عدم الاعتراف بالقصيدة الحديثة سببه الأساسي الذهنية السلفية. والبلدان التي تتحدث عنها لا تتعامل مع الشعر وحده بهذه الذهنية، بل مع كل الأمور الأخرى، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية… الحداثة والتحديث مرتبطان. المفاهيم الروحية تمشي جنباً إلى جنب مع المفاهيم المادية، والنظرة السلفية إلى الأولى تترافق حتماً مع نظرة سلفية إلى الثانية.
القصيدة الحديثة (ولا أحب أن أسميها قصيدة نثر أو غيرها من الأسماء التي لم ينته بعد أيضاً الجدل حولها ولا يهمني الدخول في سفسطائيته)، هذه القصيدة لا تكون حديثة ما لم تخرج من الذهنية السلفية للمفاهيم على اختلافها. فهي لن تكون في الحداثة إذا كانت في الماضوية والسلفية. لا يمكنها أن تكون حديثة إذا كان شكلها وحده حديثاً وذهنيتها تقليدية المفاهيم وخارج الزمن. كما أنها ستكون ناقصة الحداثة إذا كانت ناقصة الشكل أيضاً. فالكائن المتكامل يتوحد شكله ومضمونه، وإلا سيكون فيه شيء ما ناقصاً.
ومثلما أن القصيدة لا تكون حديثة إلا إذا كانت حديثة المفهوم والشكل، فإن الذين ينظرون إليها وينظّرون لها لن يعترفوا بها وبشرعيتها إلا إذا كانوا حديثي المفاهيم شكلاً ومضموناً. ولذلك، فإن من لا يعترف بشرعيتها في البلدان العربية فإن عدم اعترافه يعني أنه لا يزال عائشاً في الشكل الماضوي وفي المفاهيم الماضوية، أي خارج الحداثة وخارج الزمن.
* بعض النقاد يرى أن هذه القصيدة بدأت مع الماغوط وجماعة “شعر”، وآخرون يرصدون وجودها في النثر العربي وكتابات المتصوفة وحسن عفيف وجبران، والبعض الآخر يعتبر أن مرجعيتها الأساسية غربية استمدت من القصائد المترجمة. كيف ترى الأمر؟ وما هي مرجعية قصيدة النثر لديك؟
– ما كتب حول هذا الموضوع بلغ حد التخمة وأكثر، غير أن معظم ما كتب تناول القصيدة الحديثة كشكل وغفل عن مضمونها. القصيدة الحديثة مضمون أولاً، وشكل ثانياً. لكن بدا، من خلال النقاشات الشبيهة ب”داحس والغبراء” حول هذه القصيدة، أن منظّري الحداثة العرب رأوا شكلاً وأغمضوا عن مضمون.
لا أريد أن أضيف جدلاً على جدل حول مرجعية القصيدة الحديثة. ولن أعيدها لا إلى سوزان برنار ولا إلى بودلير ولا إلى المتصوفة العرب ولا إلى مجلة “شعر”. القصيدة الحديثة هي نتيجة حتمية للتفاعل مع كل هؤلاء، لكنها ليست ابنة أحد معين منهم، والأهم أنها لا يمكن أن تكون حديثة إذا كانت فقط نتيجة التفاعل مع السابق من دون أن تكون في الوقت نفسه حاملة رؤيا المستقبل والحاضر وخصوصية صاحبها.
للقصيدة الحديثة مهمة أساسية هي كسر الحدود الزمنية والجغرافية. إنها ابنة العالم بأسره، وابنة ماضيه وحاضره ومستقبله. مرجعيتها هي مرجعية عالمية: الغرب والشرق، العرب والعجم… هذا العالم كله هو الذي أنبت القصيدة الحديثة.
* ولكن يبدو أن قصيدتك قد تحولت عند كثيرين من أصحاب التجارب الجديدة إلى نوع من السلطة المعنوية، بينما تقوم قصيدة النثر على التنكر لكل سلطة وهدمها… فما الذي تفعله لتحمي نفسك من أن تصبح سلطة شعرية؟
– أنا أؤمن بأن كل شاعر هو وليد نفسه وليس وليد أحد سواه. ولذلك لا أؤمن بسلطة معنوية لشاعر على آخر. كلمة “سلطة” مفهوم آخر ولا أظنها تنسجم مع الانكسار الذي في شعري، ولا مع مفهومي للشعر، ولا مع الشعراء الذين تقصدهم. قد يكون بيني وبين هؤلاء صلة انكسار، لا سلطة، وصلة محاولة هدم كل سلطة وليس الاعتراف بأية سلطة أو تكريسها. أعود إلى التأكيد على إيماني بأن كل شاعر هو ابن نفسه. وإذا كان هناك اقتراب بين شاعر وآخر فهو اقتراب تفاعل وليس اقتراب “تلمذة” كما درج النقاد العرب على القول كلما تناولوا بالنقد شاعراً من باب المقارنة. الشعراء الشباب المصريون، مثلاً، يقال إن هناك اقتراباً بيني وبين بعضهم. أنا أقدّر هذا الاقتراب، ولكن ليس من باب التأثر والتأثير. أقدّره لأن هناك مفاهيم، شعرية وحياتية، جمعت بيننا. هذه ليست سلطة من أي نوع، إنها تفاعل… وفي الوقت نفسه أقدّر الاختلاف. أقدّر من لا تجمعني به المفاهيم ذاتها.
* تشارك في بعض الأمسيات الشعرية… كيف تستطيع أن تحفظ للنص، “الحديث” كما تحب أن تسميه، بلاغته عند مرحلة الإلقاء الشعري؟
– لست مع بلاغة الإلقاء ولا مع بلاغة القصيدة. أنا مع الخفوت في كليهما. وأتمنى في الكتابة وفي الإلقاء أن يصل الخفوت وحده وليس البلاغة.
بطل رومانسي مهزوم
* يبدو وديع سعادة أشبه ببطل رومانسي مهزوم. كان ديوانه الأول “ليس للمساء إخوة” عبارة عن مقاطع متتالية لقصيدة طويلة. ثم ظهر في دواوينه التالية نوع من التوتر تجاه العالم مع عنف لغوي حاد. ووصل في ديوانه “بسبب غيمة على الأرجح” إلى الشك في جدوى الكتابة. ثم تحول الشجن الرومانسي إلى نوع من الاستسلام للعالم كما هو والبحث عن كتابة غايتها خلاصية لها طابع التركيز على الأشياء الصغيرة من خلال الاهتمام بمفردات الطبيعة والصور الشعرية المرهفة… هل كنت تبحث في شعرك عن رومانسية جديدة؟
– لا يصح، في رأيي، وضع القصيدة الحديثة في خانة تصنيف معين، إذ أن أي تصنيف محدد لها لن يكون دقيقاً. فهذه القصيدة تحمل وجوهاً عديدة في الوقت نفسه بما فيها التناقضات. تحمل الرومانسية إلى جانب العبثية والسوريالية والواقعية والرمزية وغير ذلك. ولكن أعتقد أن هذا المحمول لا يتكامل ويتمايز إلا بإضافة خصوصية إليه، هي خصوصية الشاعر. هل في شعري ما يشبه العودة إلى نوع جديد من الرومانسية؟ الحقيقة لا أعرف إذا كان يمكن إضفاء هذه الصفة على شعري. فأنا حين أكتب لا ترد في ذهني أية أنواع أدبية. ولي موقف سلبي من إضفاء صفة محددة للقصيدة، كما أسلفت.
ربما هذه التي تسميها رومانسية في شعري هي حالة أكثر مما هي أسلوب كتابي. حالة أعيشها يومياً، فتظهر في ما أكتب إلى جانب حالات أخرى مختلفة وربما نقيضة. أما مفردات الطبيعة فأنا، كما ذكرت سابقاً، ابن قرية كان فيها الناس والطبيعة شخصاً واحداً تقريباً. الناس والمواشي والنبات والجماد عائلة واحدة. هذه حالة سلام بلا شك. لكن مع هذا السلام كانت لكل شخص غربة داخلية كذلك، عبثية مخفية في الباطن، قساوة، تمرد، يأس، وعذابات كثيرة… أعتقد أن هذا المشهد يشبه القصيدة.
* كيف تتأمل تجربتك الشعرية الآن؟ وهل ترى الشعر بديلاً عن الوجود كما يقول هايدغر؟
– لا أظن أن الشعر بديل عن الوجود. أو بالأحرى هو بديل وهمي، مجرد تعويض ذاتي وهمي عن غياب الوجود.
ليس الإنسان من هو موجود فعلاً بل حلمه. والشعر الذي هو حلم وجود الإنسان هو شعر حلم لا يتحقق.
الكتابة، بهذا المعنى، غير مجدية لأنها لا تحقق هدفها. وهكذا فشلت تجربتي الشعرية في بلوغ الهدف. توخيت من الشعر، كما قلت سابقاً، نوعاً من الخلاص الذاتي في مواجهة عالم دائم الانقضاض والافتراس. وبعد فشل المواجهة، حاولت أن أقنع نفسي بأن الاستسلام للعالم كورقة صغيرة في نهر ربما يكون هو الخلاص الوحيد المتاح، لكن هذا كان مستحيلاً أيضاً… هكذا كان “الوجود” دائماً غائباً، ولم يكن الشعر هو البديل المستجيب.
* وهل هذا التنقل والسفر الطويل في الكتابة عبر الدواوين المختلفة التي نشرتها يعد اختراقاً لتجربتك الشعرية؟ وهل يقوم هذا الاختراق على سعي كتابتك إلى محو ذاتها؟
– أعتقد أن كل كتابة شعرية هي محاولة اختراق. وبالنسبة إليّ، كانت الكتابة نوعاً من الاختراق لتجارب شخصية ليس بهدف ترسيخها بل بهدف محوها.
قد يكون المحو ذروة ما تسعى إليه الكتابة، مثلما البياض ربما هو ذروة ما تسعى إليه الألوان. البياض، على الأرجح، هو غاية الكتابة.
* ماذا تعني الكتابة لديك إذن، إذا كنت قد وصلت إلى قناعة بعدم جدواها، وأنها ليست حياة كما يراها البعض أو محاولة لتجميل العالم أو تغييره كما يراها آخرون؟
– وصلت إلى مرحلة فقدت فيها نعمة الوهم. في مرحلة ما، سابقة، كانت الكتابة بالنسبة إليّ وهماً جميلاً، وعقدت صداقة مع هذا الوهم، صداقة كانت حميمة إلى درجة تصديقه. كان ذلك نعمة حقاً. اليوم لم أعد أصدق الوهم، ففقدت النعمة
*- مجلة “أخبار الأدب” المصرية في 27/10/2002