نفس
للدكتور “عبد العزيز المسلّم”
د. رؤى قدّاح
أكاديميّة وناقدة سوريّة
ينتمي كتاب “نفس” للدكتور “عبد العزيز المسلّم” إلى ضرب من ضروب التأليف، اشتهر في مطلع القرن الماضي، وعمد من خلاله كثير من المبدعين المشتغلين في الصحافة الأدبيّة إلى لملمة شتات مقالاتهم المتناثرة في الصحف والمجلات في كتب جامعة، وربما قام دارسو إبداعهم بذلك حماية لنتاجهم من الاندثار والضياع. وقد استمر هذا النهج لدى المبدعين العرب المعاصرين؛ ولاسيما بعد ظهور المواقع الإلكترونيّة التي أضحت وسيلة رئيسة من وسائل النشر؛ وهو ما جعل جمع هذه المواد ضمن كتاب أمراً ضروريّاً وملحّاً يحميها من خطر داهم جديد؛ وهو السرقة.
صدر كتاب “نفس” عن دار “كلمن” في إمارة الشارقة، عام 2021، وفيه جمع “د. المسلّم” اثنتين وأربعين مقالة، اتسمت جميعها بالتكثيف والقصر بحيث لم يتجاوز حجمها الوسطيّ ثلاث صفحات من القطع الصغير، ضمّها عنوان لافتٌ جامع هو “نفس”.
يمثّل غلاف الكتاب فضاء بينيّاً آسراً وجسراً يتلقّف المتلقي ويغريه بزرقته الثريّة برمزيّة تفتح آفاق التلقّي، وترفع سقف التوقع لديه، وتستدعيه، وتدفعه إلى القراءة ليتقصّى العلائق بين ما تلمّسه من دلالات أنتجها الغلاف، وبين مضمونات المقالات التي ضمّها بين دفّتيه. ويشتمل الغلاف على عتبتين رئيستين، هما: لوحةُ الغلاف، والعنوانُ. وقد تضافر كلاهما لخلق شبكة دلاليّة مغوية؛ فلوحة الغلاف بحريّة؛ أدناها بحرٌ قاتمٌ ينذر بعواصف كامنة في عمقه، تؤكّدها طيورُ النورس؛ الأرواحُ الهائمة التي تنتحب فوق أمواج الشتاء الصاخبة، وتهرب من سكينة بحار الصيف، ويتوسط البحرَ جزيرةٌ صغيرة جرداء يعلوها فنارٌ أثريّ عرّشت على حائطه بقايا نبات شبهِ ميتٍ، وعلى شاطئها كلبٌ متوحّدٌ يرقب موجةً بيضاء. وأعلى اللوحة سماءٌ يتنازعها غيمٌ متثاقل تداخل رمادُه وأبيضُه. ولوحةُ الغلاف في مجملها ترمز إلى العزلة والتأمّل والتفكّر والتوحّد وغلبة الحزن، وجميعها محرّضات إبداعية. واللوحةُ في مستويات زرقتها وانكشافها وغموضها أشبه بالنفس الإنسانيّة التي ظاهرُها سكونٌ، وباطنُها صخبٌ، وأما الفنار فيشير إلى تعدّد وجوه الحقيقة، وانكشاف الرؤى، واتساع زوايا الرؤيا وتعدّدها مع تحرّك ضوئه في الاتجاهات كلّها.
وهذه الرمزيّة المكثّفة التي تزخر بها لوحة الغلاف تنفتح على العنوان غير المضبوط الذي يشتمل على معانٍ لغوية عدّة عرض لها “د. المسلّم” في إحدى مقالات الكتاب، وقد حملت العنوان ذاته. ونستطيع أن نجزم بأنّ اختياره لعنوان الكتاب لم يكن من قبيل تغليب الجزء على الكل؛ أي تغليب عنوان المقالة على الكتاب، وإنّما كان اختياراً واعياً بمضمونات المقالات كلّها، بحيث جاء العنوان نصّاً مكثّفاً جامعاً يعبّر عن مادة الكتاب برمّته؛ وعن اقترانها بدلالتي كلمة “نفس” الرئيستين؛ وأولاهما: “النَّفَسُ”؛ أي الهواء الذي يدخل الصدر وينسرب منه ليهب الإنسانَ الحياةَ؛ فمن يقرأ مقالات الكتاب يدرك أنّها أشبه بأنفاس متلاحقة، تبدو قصيرة تتلهّف للخروج قبل أن تشبِعَ الجسدَ؛ فهي بسبب اقتضابها وتكثيفها تبدو وكأنها نصوص مبتورة، أو مقدّمات لموضوعات بالغة الثراء يتمنّى القارئ في كثير من المواضع لو أنّ الكاتب أطالها وأغناها بالمزيد من التفصيل الذي هي حقيقةٌ به.
أما الدلالة الثانية فهي “النَّفْسُ” المشتملةُ على العقل والروح والقلب والجسد أيضاً في بعض التعريفات، ومن يمعن النظر في مضمونات المقالات يدرك أنّها تعبير وفيٌّ عن ذات الكاتب وثقافته ونوازعه النفسيّة، وحالاته الوجدانيّة، وخبراته، وتجاربه الحياتيّة، ومواقفه، ومنظومته القيميّة والأخلاقيّة؛ وهي في مجملها تتكشّف من خلال ما بثّه في المقالات من نقداتهِ الاجتماعيّة والأخلاقيّة المتبصّرة، ورؤاه التي تستشرف المستقبل، وموازناتهِ الظاهرة والمضمرة بين الماضي والحاضر، وبين شؤون الذات والآخر، وخلاصةِ تأمّلاتهِ في عوالمه الذاتيّة، وتفكّرهِ في أحوال البشر وآفاتهم وطباعهم. واللافت في ذلك كلّه براءةُ أحكامه من ضروب التحيّز والتعصّب القوميّ أو العقديّ، أو غيرهما، وانتصارهُ لقيم الحياة والحريّة والجمال والعقل، ورفضهُ لمظاهر التقليد والجمود والتعصّب الأعمى، والتطرف، والفساد، والتنكّر للهويّة والتراث.
مهّد “د. المسلّم” لكتابه بعتبة داخليّة كاشفة لمضمون الكتاب تدعم ما ذهبنا إليه في حديثنا عن دلالة “النَّفْس”؛ وفيها أورد بيتين لأبي الطيب المتنبي، وبيتاً لأحمد شوقي، ومقولة لجون كيتس، وجميعها توجّه القارئ إلى تلقي المقالات وفق مدلولاتها التي تؤكّد أنّ النفس منظومة قيميّة وأخلاقيّة تفوق الجسد، وبها تتحدّد قيمة الإنسان ومنزلته، ومنها يكتسب صفة الجمال الحقيقيّ، وهي ضمنيّة خفيّة تنكشف بالفعل والقول. وأتبع “د. المسلم” هذه العتبة الاستباقيّة الكاشفة بمقدّمة شارحة لمضمون كتابه، موضحاً أنه كتب هذه المقالات في أزمنة وأمكنة شتّى، دون أن يبيّن ما إذا كان قد نشرها في وسائل إعلامية ثم عمد إلى جمعها في الكتاب، أم لا.
ويمكننا وفق قراءتنا للمقالات تقسيمها اعتماداً على مضموناتها إلى: “مقالات ناقدة”، و”مقالات وجدانيّة”، و”مقالات تأمليّة”، و”مقالات تعريفيّة”. أما “المقالات الناقدة” فيعرّي فيها ضروب الآفات الأخلاقيّة والمجتمعيّة، ومظاهر الفساد الأخلاقيّ والثقافيّ والمجتمعيّ والنفسيّ، وهي المقالات الغالبة على مادة الكتاب، ومن أمثلتها نقده للشخصيّات الرسميّة المتورّمة في مقالة بعنوان “شخصيات اعتباريّة بوجهين”، ونقده للمؤلفات التي حملت عنوان “التغريدات”، وهي تعبّر وفق رأيه عن حالة من الاستلاب الثقافي التي تعيشها الشخصيّة العربية، موضحاً أنّ في التراث العربي فنّاً أصيلاً يعبّر عن هذا الضرب من الإبداع؛ وهو فن “التوقيعات”. ونقده للهوّة الحادثة بين الأجداد والآباء والأحفاد في مقالة بعنوان “فرحانين بالإنجليزي”؛ وذلك بسبب تمسك الأجداد في المجتمع الإماراتي بعربيّتهم، وانشغال الجيلين اللاحقين، ولاسيما الأحفاد باللغة الإنجليزية حتى باتوا عاجزين حتى عن قراءة القرآن بلغتهم الأم.
أما “المقالات الوجدانيّة” المعبّرة عن علاقته بمحيطه الحميم وأماكنه الأثيرة وذكرياته العزيزة على قلبه فمن أمثلتها: مقالة بعنوان “فهد وصديقه ليو”، وفيها وصف علاقة طفله بكائن ابتكره خياله اسمه “ليو”. ومقالة بعنوان “مدن تهدأ على أعتابها الروح”، وفيها وصف علاقته الوجدانيّة ببعض المدائن في جغرافيا العالم الشاسعة، ومقالة بعنوان “الكيك الإنجليزي” وفيها استرجع ذكرياته الطفوليّة البريئة مع الكيك الذي تناوله أول مرة في حياته، وبقي طعمه اللذيذ عالقاً في ذاكرته.
وأما “المقالات التأمليّة” فقدم فيها نظراته الحياتيّة التي كانت نتاج تفكّره، ومثالها حديثه عن الشبه بين الحياة وصالة السينما في مقالة بعنوان “صالة سينما”، وحديثه عن جوهر الحياة وجدواها وعن مدى عبثيّتها وفراغها من معناها حين نعيشها على مقاس الآخر ساعين لإرضائه في مقالة بعنوان “كم سنعيش”، وفي مقالة أخرى عنوانها “هل فكرت أن تعيش؟”.
وفي “المقالات التعريفيّة” عمد “د. المسلم” إلى تعريف القارئ ببعض الموضوعات الأثيرة أو المهمة لديه كحديثه في إحداها عن رحلة “ابن فضلان”، وحديثه في أخرى عن “سورة الكهف”، وحديثه في ثالثة عن قصيدة “في الجو غيم”.
وبعد، فإنّ ما ذكرناه هنا لا يعدو أن يكون عرضاً مقتضباً ودعوة للغوص في لجة مقالات الكتاب التي حوت المعرفة والمتعة والطرافة والإفادة والعبرة.
Ali Obeid and others