كلهن رقية…يا للوجع
قراءة في رواية “الطنطورية”
للروائية الراحلة رضوى عاشور
ا.د هبة مهتدي
لقاؤنا لم يكن مرتبًا بل كان صدفة وقدرًا
قابلتها مرتين:
الأولي حين كنت عائدة من الأردن في رحلة عمل قصيرة جدًا وقبل اقلاع الطائرة العائدة الى استراليا بساعات محدودة وجدتها أمامي، لا ادري ِلمَ شعرت بها تناديني، هل كان ذلك حقيقة أم خيال؟
لا ادري !
ولكن كل ما اعلمه انني لبيت النداء، وتم التعارف و قضيت معها ساعات طويلة ،تحكي لي حكايتها مع الزمن والبشر والظلم والحب والموت والحياة ، بينما نُحلّق كلانا فوق السحاب.
انتهت الرحلة ولم تنتهي حكاية رقية، فكيف يمكنها ان تروي لي ما حدث لها خلال سبعين عامًا في ٣٠ ساعة، هي فترة الطيران
وافترقنا على وعد باللقاء القريب، لم نذكر أين ولا متى ولكن كلانا كان يعلم انه سيحدث ولا محالة.
مرت ثلاثة شهور، كان طيفها يزورني كثيرًا، اتذكر جملة قالتها، أو أزمة عبرتها، أو حلمًا راودها ولكني لم اتمكن من لقائها والجلوس معها حينها.
اسأل نفسي ِلم !
هل لأن هذا اللقاء يحتاج الى خصوصية لا تناسبها زحمة ايامي المنهكة من العمل والأبحاث والاجتماعيات. أم لأني كنت اخشى سماع بقية حكاية رقية، أم لأنها اخجلتني واشعرتني بأن ما مر بحياتي من صعاب وتحديات ماهو سوى نسمة صيف عابرة اذا ماقورنت بالعواصف والرياح العاتية التي زلزلت حياتها.
هل شعرت بالغيرة من صلابتها وقوتها ؟
أم بالشفقة على آلامها واحزانها ؟
اعترف لقد اربكتني رقية حتى جاء الموعد المثالي، ودعوتها الى اللقاء في نفس المكان فوق السحاب واصطحبتها معي في رحلة ستة ساعات ذهابًا وإيابًا في رحلة عمل اخري قصيرة الى ولاية جنوب استراليا.
تحضرت الى اللقاء و جلست اتابع حكايتها وكلي شوق لمعرفة ما صار وما كان
كيف صارت حياة تلك اليتيمة التي فقدت ابا واثنين من الأخوة في مراهقتها؟
كيف فقدت دارها وصديقاتها وحياتها وانتقلت الى حياة اخرى مغايرة تمامًا لحياتها ؟
ثم تزوجت قريبها الطبيب الرائع الذي عوضها بعضًا ممن عانته وانجبت منه الأبناء الثلاثة، ثم لتفقده هو الآخر بينما كان يؤدي واجبه في المستشفى والتي حسب ما ورد اليها من روايات تم اقتحامها واقتياد العاملين اليها وفقدوا او قتلوا او دفنوا احياءا.
ولكنه قبل وفاته اهداها طفلة رضيعة (مريم )وجدوها اسفل الانقاض ومات كل ذويها واتفق معها على تبنيها.
وعن روعة وصف (رقية) لكيفية تولد الحب في قلبها تجاه (مريم) بل كيف تربعت تلك الفتاة الجميلة على عرش هذا القلب حتى وان كان قلبًا لامرأة ليست امها التي انجبتها. ثم كيف هرمت وكبرت وتفرق الأبناء وصار اللقاء عبر الهواتف والزيارات المتفرقة.
تحكي (رقية) كيف تنقلت في حياتها بين سبعة منازل مابين فلسطين، لبنان، ابو ظبي والاسكندرية.
وكيف حملت والدتها مفتاح منزلهم القديم في فلسطين عمرها كاملًا وكيف اورثته ل (رقية) لتحمله باقي عمرها.
كيف ابكتني (رقية)؟ لم ابكِ بسبب كل ما حدث ولكني بكيت حين جاء (حسن)اقرب ابنائها الى قلبها، جاءها ليحتضنها عبر الاسلاك و ليعطيها ابنته (رقية الصغيرة) عبر الاسوار لتحتضنها وتلبسها هذا المفتاح في رمزية لاستكمال المسيرة واستمرارية الحلم عبر الأجيال.
لأن هذا المفتاح هو مفتاح منزلها القديم والذي تركته عنوة هي واهلها في الطنطورة حين تم الاحتلال.
اوجعتي قلبي يا (رقية)
وجعلتني اعيش احزان واوجاع بدأت منذ عام ٤٨ و لا اعلم متى ستنتهي؟.
انتهى اللقاء بيني وبينك يا(رقية) ولكنك لن تبرحي ذاكرتي ومخيلتي..
ولعل ما أراه على شاشات التلفاز من احداث موجعة في القدس و مشاهد مؤلمة في المسجد الأقصى، أيقظت الوجع والألم والحنين وابكتني فكلهن هناك (رقية)
عن رواية “الطنطورية”بقلم الراحلة الرقيقة رضوى عاشور وبطلة الرواية .. عن (رقية) أنا اتحدث .